(الصفحة 155)
أصل الجعل في مثل المسألة المزبورة و ثبوت الفرق بين المقامين من جهة أنّ حديث رفع الإكراه ناظر إلى رفع التحريم المزبور ، و هنا تكون القاعدة متعرضة لأصل نفي الجعل ، وليست هنا مرتبتان يلاحظ الأهمّ منهما ، و من ناحية اُخرى يكون مذاق الشارع في ثبوت الحرمة في مثل المسألة المزبوره واضحاً و ظاهراً . و من ناحية ثالثة لا مجال لدعوى اختصاص القاعدة بخصوص الواجبات ، لأنّه مضافاً إلى أنّ المحكوم بنفي الجعل المأخوذ فيها هو الأعمّ نرى الإستناد إلى القاعدة في بعض المحرّمات ، و الجمع بين هذه النواحي لا مجال له ، والتفكيك بين المحرّمات في جريانها ليس له ضابطة .
ويدلّ على شمول القاعدة للمحرّمات رواية ، وهي صحيحة بحسب الظاهر بناءً على ظاهرها من حصول المحرّم تعمّداً ، والرواية هكذا: سأل رجلٌ أبا عبدالله (عليه السلام) عن المحرم يريد إسباغ الوضوء فتسقط من لحيته الشعرة أو الشعرتان؟ فقال: ليس بشيء ، ما جعل عليكم في الدين من حرج .(1)
جريان القاعدة في الأحكام الوضعية:
وأ مّا جريان القاعدة في الأحكام الوضعيّة ، فلا وجه لعدم جريانها بالنسبة إليها ، لأ نّ دليل نفي الحرج يدلّ على نفي كلّ حكم حرجيّ ، سواء كان تكليفياً أو وضعيّاً . إلاّ أنّ النكتة التي تطرح نفسها هنا والتي يمكن أن لا يلتفت إليها لأوّل وهلة ، فيتصوّر الشخص أ نّه لو جرت قاعدة (لا حرج) هنا فهذا معناه جريانها في تمام الأحكام الوضعيّة ، كإنتفاء اللزوم في مثل النكاح أيضاً ، أي بإمكان المرأة أن تفسخ عقد النكاح كما هو الحال في البيع ، فتقول المرأة: إنّ لزوم النكاح فيه حرج
- 1 . الوسائل: 13 ، 172 ، الباب 16 من أبواب بقية كفارات الإحرام الحديث 6 .
(الصفحة 156)
عليِّ ، فتأتي قاعدة (لا حرج) وترفع اللزوم ، فتخرج المرأة عن ربقة هذا النكاح بكلمة (فسختُ) . كلاّ إنّ الأمر ليس بهذا الشكل ، فإنّ سبب الحرجيّة في هذا النكاح بالنسبة إلى المرأة ليس هو اللزوم ، وإنّما سبب الحرجيّة هو كون الطلاق بيد من أخذ بالساق ، وإنحصار هذا الحقّ للزوج ، فإذن تأتي قاعدة (لا حرج) وترفعه فتقول: الطلاق هنا ليس بيد من أخذ بالساق ، فإذن بيد من؟ بيد الحاكم الشرعي ، فيأتي ويدرس وضعها فإذا شاهد أ نّ هذه الحياة حرجيّة حقّاً بالنسبة إليها بحيث لايُوجد توجيه لعدم الحرجيّة مثل ما كان الزوج محكوماً عليه بالسجن مدّة عشر سنوات ، ولا يقبل أن يُطّلق وليس عنده مال ، أو وسائل للراحة ، وكانت المرأة شابّة ، فهل نقول هنا للمرأة: يجب أن تنتظري حتّى يخرج زوجك من السجن؟ إنّ هذا لا يتناسب مع مذاق الإسلام ، فهنا ندع كون الطلاق بيد من أخذ بالساق جانباً ونقول: إنّ هذا حكم حرجي بالنّسبة إلى هذه المرأة ، فعليها مراجعة الحاكم ، فيرى وضعها ، فإذا اتّضحت له الحرجيّة فيقوم هو بتطليق هذه المرأة .
ويخطر في ذهني أنّ السيّد صاحب العروة هنا أفتى بما يشابه هذا المورد ، وقال: لا إشكال في أن يطلق الحاكم الشرعي ، والسبب هو قاعدة (لا حرج) ، لذا لا إشكال في جريان قاعدة (لا حرج) في الأحكام الوضعيّة ، وتترتّب على مثل هذه الموارد ثمار ، منها هذا البحث ، وفي بحث (المقدّمية) بما هي حكم وضعي بناءً على القول بعدم الوجوب الغيري للمقدّمة ، فبإمكان قاعدة (لا حرج) أن تنفي الشرطية والمقدّمية ، هذا فيما يتعلّق بهذا البحث ، وأنا لم اُشاهد بحث الأحكام الوضعيّة في الكتب الموجودة عندي ، ولكن كان ينبغي أن يبحث فيها أيضاً .
قاعدة نفي الحرج نافية لا مثبتة
[ وفي هذا المجال نكتة لابدّ أن نشير إليها ، فنقول : غير خفّي أنّ قاعدة لا حرج
(الصفحة 157)
المأخوذة من قوله تعالى:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} لا دلالة لها إلاّ على نفي الجعل بالإضافة إلى الحكم الحرجى وجوباً أو تحريماً ، ولا دلالة لها على إثبات الحكم في مورد تكليفاً أو وضعاً ، فما ربّما يتوهّم من صحّة الإستدلال بالقاعدة في مورد المـَحرميّة بالإضافة إلى الأطفال المأخوذة من المؤسّسات التي تكون متصدّية لأخذها و إعطائها إلى من يريد ذلك لأجل عدم كونه صاحب الولد ، في غاية الإشكال و نهاية عدم الصحّة ، خصوصاً لوكان الولد المزبور مذكّراً ، فإنّ صريح الكتاب أنّه وقعت الزوجيّة السمائيّة بين الرسول (صلى الله عليه وآله) و بين زوجة زيد الذي كان من أدعياء الرسول (صلى الله عليه وآله) قال الله تعالى:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}(1) ففي الحقيقة قد وقع التصريح في الكتاب بعدم ثبوت المـَحرميّة وجواز التزويج ، ومن المعلوم عدم الإختصاص بالتبنّي ، بل يجري بالإضافة إلى البنت المأخوذة من تلك المؤسسات كما هو واضح .
هل تقع العبادة بعد رفع الوجوب صحيحة؟
أحد الأبحاث المطروحة في قاعدة (لا حرج) ، هو أنّه لو أنّ التكليف الحرجي تعلّق بعبادة ، سواءً تعلّق بجميع العبادة ، أو جزئها ، أو شرطها ، ورفعت قاعدة (لا حرج) وجوبه ، ونفت لزوم هذه العبادة ، إلاّ أنّ المكلّف مع ذلك امتثل الأمر وأتى بها فالبحث هو أنّه هل تقع هذه العبادة صحيحة ، رغم أنّها لا تتصّف بالوجوب؟ فلو كان الصوم حرجيّاً بالنّسبة لشخص فإنّ وجوب الصوم يرتفع عنه بقاعدة (لا حرج) فلو تحمّل الشخص هذا الحرج ، وقال: رغم أنّ الصوم فيه حرج عليّ ، إلاّ
(الصفحة 158)
أنّني اُريد أن أصوم ، فهل صومه صحيح أو باطل؟
وفيما إذا كانت هذه المسألة في شرط العبادة أو جزئها ، بأن كان القيام في الصلاة حرجيّاً على شخص ، فإنّ قاعدة (لا حرج) تقول: لايجب عليه القيام في الصلاة ويمكنه أن يصلّي من جلوس ، فلو تحمّل هذا الشخص المشقّة والضيق وصلّى بعناء ، فهل صلاته صحيحة ، أو باطلة؟ أو في باب الوضوء بأن كان الجوّ بارداً جدّاً بحيث كان التكليف معه بالوضوء حرجيّاً ورُفع معه التكليف وجعل بدله التيمّم ، فلو أصرّ هذا الشخص وقال: مع إنّ في الوضوء حرج عليّ ، إلاّ أنّني اُريد أن أتحمّل هذا الحرج والضيق وأتوضّأ في مثل هذا الجوّ بهذا الماء البارد ، فهل هذا الوضوء صحيح ، أم باطل؟ هذا هو محلّ البحث ، وهو أحد البحوث المهمّة في قاعدة (لا حرج) .
أوّل من صرّح ببطلان العبادة (وفقاً لما توصّلنا إليه) هو المرحوم كاشف الغطاء حيث قال: إنّ الوضوء الحرجي كالوضوء الضرري يقع باطلاً ، ولا يقع صحيحاً(1) .
وجاء بعده المرحوم صاحب الجواهر عليه الرحمة ، وقال في كتاب الصوم في مسألة الشيخ والشيخة وذي العطاش من الذين لا يجب عليهم الصوم ، قال: لو صام هؤلاء ، فصومهم باطل(2) ، لأنّ الدليل على عدم وجوب الصوم على هؤلاء هو قاعة (لا حرج) ، وهذه القاعدة تطرح المسألة بنحو العزيمة لا الرخصة ، فلابدّ أن يعمل طبقاً لما تقتضيه قاعدة (لا حرج) ، لا أنّ الإنسان مختار بالأخذ بقاعدة (لا حرج) أو بالدليل الأوّل الذي أثبت الحكم ، كلاّ فإنّ (لا حرج) عنوان مطروح على نحو العزيمة لا الرخصة .
- 1 . راجع كشف الغطاء 3: 54 ، (ط) مكتبة الإعلام الإسلامي .
- 2 . جواهر الكلام 17: 150 .
(الصفحة 159)
ثمّ قال: إنّ هذا المطلب يستفاد من جميع الفقهاء ، والمخالف الوحيد لهم هو صاحب الحدائق(1) إستناداً إلى هذه الجملة الواردة في ذيل آية الصوم وهي: (وأن تصوموا خيرٌ لكم) وطبعاً قد فسّرها بهذا الشكل وهو أنّ (وأن تصوموا) في مورد عدم وجوب الصوم وعدم كونه تكليفاً منجّزاً في حقّك ، لكنّ في الوقت نفسه إذا صمت فهو أحسن لك وأنفع ، هكذا فسّرها صاحب الحدائق ، وعندها قال: إنّ الشيخ والشيخة وذا العطاش إذا صاموا فمع أنّ الصوم ليس بواجب عليهم فمقتضى (وأن تصوموا خيرٌ لكم) صحّة صومهم . وفي الحقيقة فإنّ صاحب الحدائق لا يريد بيان هذه المسألة بشكل عامّ ، وإنّما حكم بالصحّة في مسألة الصوم فقط ، وعندها يستفاد من صاحب الجواهر أنّ الجميع يذهبون في الحقيقة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ قاعدة (لا حرج) مطروحة على أنّها عزيمة وليست رخصة .
ومن صاحب الجواهر (قدس سره) نصل إلى المرحوم العلاّمة النائيني أعلى الله مقامه الشريف ، فقد صرّح بهذا المعنى أيضاً وهو أنّ الغسل والوضوء الحرجي كالغسل والوضوء الضرري ، فكما أنّ الغسل والوضوء الضرري حكمهما البطلان فإنّ الوضوء والغسل الحرجي أيضاً حكمهما البطلان(2) ، ودليله قاعدة (لا حرج) أيضاً ، ولا فرق بينهما ، فإنّ الوضوء والغسل الضرري باطلان في مورد قاعدة (لا ضرر) ، والوضوء والغسل الحرجي أيضاً حكمهما البطلان في مورد قاعدة (لا حرج) ، وسنذكر العلّة والدليل فيما بعد .
وفي قبالهم علماء كبار ذهبوا إلى ما يخالف هذا المعنى ، فصرّحوا بأنّ العبادة الحرجيّة مع أنّها غير واجبة فانّها لم تفقد مشروعيّتها ، ولم تفقد الصحّة ، ومن هؤلاء العلماء الذين صرّحوا بالصحّة في هذا الخصوص المرحوم المحقّق الهمداني
- 1 . الحدائق 13: 421 ، (ط) مؤسسة النشر الإسلامي .
- 2 . القواعد الفقهية 1: 261 .