(الصفحة 84)
الدين من حرج» ولكن آية نفي الحرج هذه التي استشهد بها الإمام (عليه السلام) يصعب التوفيق بينها وبين المعنى الذي حملنا السؤال عليه ، فإنّ ذلك سيؤدّي بنا إلى القول بأ نّ آية :
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} والتي يفترض أن تكون محصورة في دائرة الأحكام الإلزامية لا تتناسب مع هذا المعنى ، لأ نّ المستحب يتضمّن جواز المخالفة ، كما أ نّ المكروه في ذاته يتضمّن جواز الارتكاب ، وبالتالي فإنّ هذه الأحكام الشرعية لاتتناسب مع آية الحرج .
أقول: إذا أخذنا بهذا المعنى للرواية ، فإنّ الآية ستكون لها مدخليّة في ما يخصّ المستحبات والمكروهات ، ولكن إلتزام هذا المعنى أولى من أن نحمل السؤال على أنّه وارد في خصوص انفعال ماء الكرّ وعدم إنفعاله ، ومن ثمَّ أفضل من القول بأ نّ استشهاد الإمام (عليه السلام) بالآية الشريفة:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} هو من باب أ نّ ماء الكرّ لو تنجّس بملاقاة النجاسة لاستلزم الحرج والمشقّة ، ولذا جعل الله سبحانه وتعالى الماء الكرّ لا ينجس بملاقاة النجاسة . إنّ هذا الفهم للرواية وللآية يغاير ما نُريد أن نستفيده من قاعدة لا حرج فيما بعد ، لأ نّنا نريد فيما بعد أن نستفيد من قاعدة لا حرج مقابل الإطلاقات التي تثبت حكماً مّا ، وظاهر هذه الإطلاقات أنّها تثبت الحكم سواء في الموارد غير الحرجيّة ، أو في موارد الحرج ، إلاّ أ نّ قاعدة (لا حرج) تدخل كدليل حاكم ومبيّن تقول: إنّ هذا الدليل وإن كان يثبت الحكم في موارد الحرج ، إلاّ أنّه لا توجد إرادة جدّية على ذلك ، فالدليل المطلق يشمل مورد الحرج ، أمّا وظيفة قاعدة الحرج تحديد الدليل ، وبالتالي تحديد دائرة الحكم ، ومن هنا فمن الأفضل أن نحمل الرواية على ذلك المعنى .
الرّواية الثّالثة
نتطرّق إلى رواية أخرى وهي آخر رواية في هذا الباب ، وفيها جانب إضمار
(الصفحة 85)
ويتبيّن بقرينة كلمة «أن أبا جعفر» أ نّه هو الإمام هو الصادق (عليه السلام) ، قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء ، لايدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة ، أيُصلي فيها؟
فقال (عليه السلام): «نعم ، ليس عليكم المسألة ، ثمّ يستشهد الإمام (عليه السلام) بالقول: إنّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إنّ الدين أوسع من ذلك»(1) .
الرواية هذه واضحة في سؤالها ، حيث لايوجد في السؤال أيّ غموض ، ولا مجال للشكّ والترديد فيها فالسؤال هو عن جبّة فراء إشتراها أحدهم ، ويشكّ هل هي نجسة أو طاهرة ، فهل له أن يصلّي فيها؟
ويجيبه الإمام (عليه السلام):
«لا مانع من ذلك ، ليس عليكم المسألة ، إنّ الدين أوسع من ذلك» لأ نّ مقتضى القول أنه لولا قاعدة الحرج للزم التحقيق ، أي لو لم تكن قاعدة الحرج ، ولو لم يكن الدين أوسع من ذلك لكان التحقيق أمراً لازماً؟
والسؤال الذي يرد هنا: ماهو الأساس في لزوم التحقيق؟ هل أ نّ لزوم التحقيق نابع من أ نّ طهارة الثوب شرط صحّة الصلاة ، وعلى الإنسان أن يحرز هذا الشرط ، إذ أنّ وجود شرط داخل في الواجب المفروض على المكلّف يملي عليه أن يتأكّد من تحقّقه ، ولايكفي أن نشكّ في ذلك ، فالشكّ في الشرط لايوجب الإكتفاء بما أوتي به مع الشكّ في المشروط ، ومن هنا فإنّ الطّهارة شرطٌ لابدّ من إحرازه ، والإمام يقول: «ليس عليكم المسألة» هذا من جانب .
ومن جانب آخر فإنّ إحراز الطهارة أمرٌ لازم في تحقّق الصلاة ، فما الأصل الذي حلّ محلّ الشرط في إحراز الطهارة وعلى أساسه قال الإمام (عليه السلام) : ليس عليكم المسألة؟
- 1 . الوسائل 3: 491 ، الباب 50 من أبواب النجاسات ، الحديث 3 .
(الصفحة 86)
هل استند الإمام في هذا إلى قاعدة الطهارة للتخفيف من الكلفة والمشقّة المفروضة على الناس ، ولرفع الحرج والضيق عن أفراد المجتمع الإسلامي ، هل هذا هو ما تعنيه الرواية؟ أليس من الواجب إحراز الشرط؟
نقول إنّ قاعدة الطهارة هي التي أحرزت الشرط ، لجريانها هنا ، وبعد أن استند (عليه السلام) إلى قاعدة الطهارة ، قال (عليه السلام): «ليس عليكم المسألة» ، ويمكن أن تعتبر هذا القول تتمّة لقاعدة الطهارة ، لأ نّ قاعدة الطهارة لو أ نّها جرت في الشبهات الحكمية لكان لابدّ من الفحص ، أمّا في الشبهات الموضوعية فلا يلزم فيها الفحص . ففي الشبهات الموضوعية إذا شك الإنسان في طهارة ردائه ، لايلزم أن يتفحّص ، بل بمجرّد أن يشكّ في أ نّ هذا نجس أو طاهر تجري قاعدة الطهارة ، فهل أ نّ كلمة «نعم» تعني الإستناد إلى قاعدة الطهارة؟ وقوله ليس عليكم المسألة هو تتمّة قاعدة الطهارة؟ وإذا صحّ ذلك فإنّ عبارة «إنّ الدّين أوسع من ذلك» تبيّن الحكمة من قاعدة الطهارة ، أي أ نّ الإسلام إنّما أقرّ قاعدة الطهارة لرفع الحرج والمشقّة من الناس ، وبذلك تكون علاقتها بقاعدة لا حرج غير وثيقة .
الرواية وسوق المسلمين
وبإمكاننا أن نوجّه عبارة «ليس عليكم المسألة» بشكل آخر ، وهو أ نّ كلّ هذا الكلام هو في السوق ، فقد جاء في سؤال الراوي كلمة السوق ، والظاهر أ نّ المقصود بالسوق في الرواية هو سوق المسلمين لا غير المسلمين ، ومن هنا نقول: بأ نّ سوق المسلمين له حجيّته الشرعيّة وإمارته الشرعيّة ، وهذا يعني أ نّ قوله (عليه السلام): ليس عليكم المسألة ، لأ نّه اشترى جبّة فراء من سوق المسلمين ، فحتّى لو كان البائع مشكوك في أمره هل هو مسلم ، أو غير مسلم ، فلا شيء على المبتاع ، لأ نّه اشترى سلعته من سوق المسلمين ، ومع كون السوق للمسلمين ، فلا حاجة
(الصفحة 87)
للتحقيق والتفحّص ، حتّى لو كان هناك من البيّاع والتجّار من هم يهود أو نصارى ، إذن هل يصحّ لنا أن نقول بأ نّ عبارة الإمام (عليه السلام): «نعم ليس عليكم المسألة» تفيد هذا المعنى؟
وإذا صحّ هذا فإنّ عبارة «إنّ الدين أوسع من ذلك» أيضاً تدخل في هذا المضمار ، لأ نّ سوق المسلمين أيضاً إذا لم نجعل له حجيّته وإمارته فسيوقع المكلّف في حرج ومشقّة .
وبناءً على ما سبق ، فحتّى لو حملنا الرواية على هذا المعنى الجديد ، مع ذلك لايمكن أن نوجد علاقة بين الرواية وبين قاعدة لا حرج والتي نحن بصددها الآن ، لأ نّ قاعدة لا حرج وظيفتها أن تقف في وجه الإطلاقات التي من شأنها أن تثبت حكماً في جميع الحالات حتّى في موارد الحرج وتنفي ذلك الحكم ، فلسان قاعدة الحرج هو النفي وعدم الجعل وعدم ثبوت الحكم عند الحرج .
الرواية وذكاة الحيوان
وهناك احتمال ثالث يمكن على ضوئه أن نعطي للرواية معنىً أفضل ، وأن نستفيد منها قاعدة لا حرج أيضاً ، وهو أ نّ المكلّف هنا قد شكّ في أ نّ هذا الجلد طاهر أو غير طاهر ، وهذا الشكّ نجده عند الشيعة الإماميّة ، أمّا أهل السنّة فهم يرون أنّه حتّى الحيوان غير المذكّى يطهر بالدباغة .
فبناءً على الاحتمال الثالث فإنّ الرّواية لا تريد أن تتطرّق إلى السوق ، ولا تريد أن تبيّن الحكمة من قاعدة الطهارة ، وإنّما قد تريد أن تقول للمكلف : إنّك إذا شككت بأن جبّة الفراء هذه طاهرة أو غير طاهرة فبالتالي أنت شاكٌّ بين أن يكون هذا الحيوان مذكّى أو غير مذكّى ، والأصل هنا استصحاب عدم التذكية ، ولايمكن للمكلّف أن يترك استصحاب عدم التذكية إلاّ إذا تحقّق بنفسه وتيقّن من أ نّ
(الصفحة 88)
الحيوان كان مُذكّى . ولو فرضنا أ نّ المكلّف تعيّن عليه التحقيق والتفحّص نتيجةً لاستصحاب عدم التذكية ، لاستلزم ذلك الحرج والمشقّة ، فمن الصعوبة التحقيق في هذا الأمر ، وظاهر الرواية يشير إلى هذا المعنى حيث تقول: «ليس عليكم المسألة» ثمّ يعلّل مقبوليّة هذه بأ نّ «الدين ليس بمضيّق» إشارة إلى سماحة الدين وسعته ، ولو لم يكن الدين متسّع لوجبت على المكلف المسألة . إذن ، لو كانت هناك ثمّة مدخلية لقاعدة الطهارة لانتفى المبرّر لقوله (عليه السلام) «ليس عليكم المسألة» ، ولو كان السوق مأخوذاً بنظر الإعتبار لما بقي هناك وجه لمثل هذا القول أيضاً .
وهنا لقائل أن يقول: لماذا كلّ هذا التأكيد على الصلاة بلا فحص وبدون أن ينتزع المكلّف جبّته؟ فمن الممكن أن لا يسأل ولا يفحص المكلّف ، بل ينزع الجُبّة حين حلول وقت الصلاة ، فالإشكال في لبس الجُبّة عند الصلاة فقط ، أمّا خارج الصلاة فلا يوجد ثمّة إشكال في ذلك ، ومن هنا يتبيّن أنّ الرّواية تفترض في نزع الجُبَّة الحرج والمشقّة ، وكأنّه هناك ضرورة عرفيّة في لبس الجُبّة عند الصلاة ، وإذا قلنا بهذه الضرورة العرفيّة ، حينئد يكون أصل الاستصحاب في عدم التذكية جارياً ، ، ومع ذلك لايجب على المكلف أن يتحقّق من طهارة اللباس أو نجاسته إذا حملنا الرواية على هذا المعنى ، فإنّ قوله (عليه السلام): «إنّ الدين أوسع من ذلك» يكون مناسباً لبحثنا هذا .
ولااُريد أن أقول: إنّ الرواية تعني هذا المعنى حقيقة ، ولكن ظهور الرواية يؤيّد هذا المعنى ، كما أنّه ليس من المستبعد أن تكون الرواية ناظرة إلى مسألة السوق الإسلامي . أو أن تستند إلى قاعدة الطهارة . وبالتالي هناك ثلاث إحتمالات في هذه الرواية . الاحتمالين الأوّل والثاني لا يرتبط بنا ، أمّا الاحتمال الثالث فهو يتعلّق بما نحن فيه . .هذا آخر ما أوردناه بعنوان الدليل للقاعدة ، وفيما ذكرناه منها غنى وكفاية ، وقد ادّعى المحقّق الآشتياني تواتر الروايات على القاعدة بالتواتر المعنوي .