(الصفحة 36)
هم عترة الرسول (صلى الله عليه وآله) . ثمّ يصل الإمام (عليه السلام) إلى هذه النتيجة فيقول: فلمّا أجاب الله إبراهيم وإسماعيل وجعل من ذريتهما اُمّة مسلمة [أي من تلك الاُمّة] من الجماعة الخاصّة ، من بني هاشم
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . . . إلى آخر الحديث .
وكما ترون فإنّ الإمام (عليه السلام) قد استدلّ بهذه الآية ، ومعنى استدلاله هو أ نّ ظاهر الآية يتضمّن هذا المعنى ، وبناءاً على ذلك يتّضح أ نّ قول الإمام من أ نّ المقصود من الاُمّة هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ليس من باب التعبّد أو التفسير أو التأويل .
من الذي سمّاهم بالمسلمين؟
تقول الآية:
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الكلام يدور عن الأب ، فمن هم أؤلئك الذين كان إبراهيم أباهم ، وهم ذرّيته؟
في الآيات التي بحثناها سابقاً عبَّر عنهم القرآن الكريم وعلى لسان إبراهيم بقوله:
{ومن ذرّيتنا} ، وأمّا في هذه الآية بما أن ضمير المتكلم يعود على الله سبحانه وتعالى لذلك عبّرت عنهم الآية الكريمة:
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ، هنا الضمير «هو» قد يبدو لأوّل وهلة أ نّه يعود على إبراهيم ، ولكن في الواقع أ نّ «هو» يعود على الله سبحانه وتعالى ، والموضوع له ثمَّة علاقة بإبراهيم ، على اعتبار أ نّ الآية لها علاقة ومدخلية بدعاء إبراهيم ، ولكنّنا لا نستطيع أن نرجع الضمير «هو» على إبراهيم باعتبار تكملة الآية ، حيث جاء فيها:
{سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا . . .}أي في الكتب الإلهية السابقة وفي القرآن أيضاً ، ومن هنا لا يحقّ لنا أن نربط الضمير بـ«إبراهيم» لأ نّنا لا نستطيع أن نقول بأن إبراهيم هو الذي أطلق على أئمّتنا (عليهم السلام)تسمية الاُمّة المسلمة . إذن لابدّ وأن نرجع الضمير إلى الله سبحانه وتعالى الذي
(الصفحة 37)
صرّح بهذه الحقيقة على لسان القرآن:
{سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا . . .}استجابة لدعاء إبراهيم .
مؤيّدات وقرائن على التفسير المختار
ثمّ إنّ القرآن الكريم ، يذكر الهدف من ذلك بقوله:
{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، وقلنا فيما سبق أ نّ الآية تطرح ثلاث عناوين: أحدها هو عنوان الرّسول ، والآخر هو النّاس ، والعنوان الثالث هم المخاطبين بقوله:
{أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أيّ ذرية إبراهيم (عليه السلام) ، وقلنا : إنّ هناك قرائن كثيرة يفهم منها أ نّ المخاطبين هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) .
أحد هذه القرائن هو ما تطرّقنا إليها في الآيات السابقة من سورة البقرة ، وهو قوله:
{ومن ذرّيتنا} وقد عبرّ عنهم في هذه الآية بـ
{أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .
القرينة الاُخرى هي قوله تعالى:
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ، فالإجتباء إنّما يتمُّ بشروط ومواصفات خاصّة .
والقرينة الثالثة هي قوله تعالى:
{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} .
وهناك قرينة أخيرة قد أشرت إليها سابقاً ، ولكنّها بحاجة إلى شرح وتوضيح ، وهي نفس قوله تعالى:
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} ، فالأمر بالجهاد هنا ليس موجّهاً إلى عامّة النّاس ، لماذا؟ لأنّ القرآن تحدّث عن الجهاد في موارد كثيرة ، الجهاد في سبيل الله ، ومن أجل الأموال والأنفس ، فالجهاد مع ما فيه من الصعوبة ، إلاّ أنّه يخصّ الجميع ، ولا يقتصر على جماعة دون جماعة . وكلّ واحد منّا يمكنه أن يكون على نحو معيّن من المجاهدة ، ولكن للجهاد درجات ومراتب .
(الصفحة 38)الجهاد في الله والجهاد في سبيل الله
فقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1) يشعرنا أ نّ المجاهدة في الله غير المجاهدة في سبيل الله ، حيث أن لها آثاراً ، وآثارها هي قوله تعالى:
{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، فالذي يجاهد على حدّ تعبير القرآن (فينا) ، أي في كافّة الأبعاد الإلهيّة وفي جميع الاُمور التي تمّت إلى الله سبحانه وتعالى بصلة يقول عنه الله سبحانه وتعالى:
{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي نرشدهم إلى السبيل التي تؤدّي بهم إلى الله ، فالقرآن الكريم أشار في هذه الآية الشريفة إلى المجاهدة في أعلى مراتبها ، حيث يقول تعالى:
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ} ثمّ يضيف قائلاً:
{حقَّ جهاده} .
هل يحقُّ لنا هنا أن نذهب إلى ما ذهب إليه أغلب المفسّرون من أن المراد في هذه الآية هو أن تصلّوا وتصوموا؟
هل لنا أن نحمل قوله تعالى:
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} على فعل الطاعات واجتناب المعاصي؟
هل يوجد هناك ثمّة آية اُخرى في القرآن الكريم عبَّر فيه سبحانه وتعالى عن الطاعة والمعصية بمثل هذا التعبير؟
لا شكّ أن قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} يعبّر عن مقام شامخ ورفيع . ولذلك نرى أن القرآن الكريم لم يكتفِ بالمجاهدة في الله ، بل أضاف إليه قوله:
{حقَّ جهاده} ، والآن كيف يمكن لنا أن نفسّر ذلك كلّه بأن القرآن يريد أن يقول: ألزموا جانب الطاعة ولا ترتكبوا المعاصي؟
أضف إلى ذلك قوله تعالى في تتمة الآية:
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} فإنّه لابدَّ وأن يتطابق مع ما تقدّم من الكلام ، وأن يكون من سنخه ، وبناءاً على ذلك فهل يصح أن نفسّر
(الصفحة 39)
الآية بهذا المعنى ونقول: إنّ الله سبحانه وتعالى لمّا اجتباكم كامَّة بكامل أفرادها ، إذن عليكم أن تطيعوه ولا تعصوه؟ وهنا نتساءل: ألم يتوجب على الاُمم السابقة اجتناب المعصية؟ فما هي الميزة في قوله تعالى:
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} التي يتوجب من خلالها لزوم الطاعة واجتناب المعصية؟ فالاُمم الاُخرى السابقة هي الاُخرى أمرت بأن تلزم جانب الطاعة وتجتنب المعصية .
الآية هنا تخاطب الأئمّة (عليهم السلام) وتقول: بأنّكم قد اجتباكم الله واختاركم من دون خلقه ، ولذلك فإنّ المسؤوليّة الملّقاة على عاتقكم والواجبات المنوطة بكم تختلف عن عامّة النّاس وعامّة المسلمين . أنتم عليكم أن تكونوا مصداقاً لقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} بل يؤكد في الآية الاُخرى:
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أنكم لابدّ وأن تجسّدوا أعلى مراتب الجهاد في الله لقوله تعالى:
{حقَّ جهاده} ، لماذا؟
لأ نّ الله عزّوجلّ هو الذي اجتباكم ، أنتم قادة الاُمّة أنتم المتصدّون لمقام الإمامة ، وبديهيّ أن المسؤوليّة الملقاة على عاتق من اجتباهم الله واختارهم هي مسؤوليّة عظمى ، وتختلف كثيراً عن المسؤولية الملقاة على عاتق عامّة النّاس ، فإذا قارنّا هنا بين الآيتين ، آية
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وآية:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} لرأينا أن الخطاب هنا لايمكن أن يكون موجهاً لعامّة النّاس ، بل هو خطاب خاصّ موجّه إلى الذين اجتباهم الله تبارك وتعالى(1) .
- 1 . اشكال وجواب قد يقال: إنّ آية: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} كقوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} والثّانية عامّة تشمل جميع المخاطبين من المؤمنين ، فكذلك الاولى .
- فنقول إنّ: {اتَّقُوا اللهَ} غير {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ} ولا توجد هناك أية علاقة بين الإثنين .
- فقوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} خطاب عام للجمع ، والجميع مكلّفون بالأخذ به ، أما الآية محل البحث فقد اثبتنا بالقرائن العديدة أنها تخصّ عدة معينة من المؤمنين ، ولعلّ في الآية {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} من المعاني مالا يمكن أن ندرك كنهها بعقولنا .
(الصفحة 40)
ومن هنا ، يبدو جلّياً ومن خلال منطوق الآية والآيات التي تحدثت عن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، أن المخاطبين في هذه الآية هم الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ولو لم تكن هناك أيّة رواية في تفسير هذه الآيات فإن التدبّر في القرآن يكفي للتوصّل إلى هذا المعنى ، ومزيداً للأطمئنان نستشهد برواية في تفسير هذه الآية لرفع أية شبهة يمكن أن ترد في هذا المجال .
رواية اُصول الكافي
في كتاب اُصول الكافي يوجد باب في أن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) شهداء الله على خلقه ، الرواية الرابعة في هذا الباب رواية عالية السند ، وإن كانت هناك ثمَّة مناقشة في السند ، ولكنّنا حققنا فلم نجد أيّ إشكال أو مناقشة في واقع الأمر .
الرواية عن علي بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن هاشم ، وقد ناقش البعض في إبراهيم بن هاشم ، ولكنا حققنا في مجال الفقه في شخصيّة هذا الرجل وتبيّن لنا أ نّ الرجل ثقة ، وإمامي ، وصحيح الرّواية ، وإبراهيم بن هاشم هذا يروي عن محمد بن أبي عمير عن ابن اُذينة عن بريد العجلي ـ وكلّهم من الرّواة المعروفين ، إذن الرواية جيّدة السند ، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما معنى قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ومن هو المخاطب في هذه الآية الشّريفة؟
قال (عليه السلام): «إيّانا عنى ونحن المجتبون» .
ثمّ يسأله الرّواي عن الآية: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .
فأجابه (عليه السلام) بقوله: «إيّانا عنى خاصّة» .
فإبراهيم أبوهم حقيقة ، ثمّ سأله عن معنى قوله تعالى: {سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ} ، فأجاب (عليه السلام): «الله سمّانا مسلمين من قبل في الكتب الذي مضت وفي هذا القرآن» وعن معنى الآية الكريمة: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ