(الصفحة 106)
ثانياً عرفنا في خلال الروايات واللغة أ نّ الحرج بمعنى الضيق ، وقوله تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ، إنّما هو بصدد بيان مسألة الضيق . وبناءً على ما قيل من أ نّ العُسر أعمّ من الضيّق ، ، فإنّ الآية الكريمة
{وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ناظرة إلى معنىً أوسع وأعمّ ، فيشمل الضيق ، كما أنه يشمل غيره من الموارد من مصاديق العسر . أي أ نّ عنوان نفي العسر ـ إن صحّ التعبير ـ أعمّ من عنوان نفي الحرج . وبناءً على ذلك قد يرى البعض وجاهة الرأي الذي أشار إليه المرحوم الميرزا الأشتياني (قدس سره) من أ نّ الآيتين لاتنافي بينهما . فكلا الآيتين جاءتا بصيغة النفي من دون أن تكن هناك منافاة بين الآيتين ، وكأ نّ الآيتين قد جاءتا بصيغة الإثبات .
كما أنّه لايمكن حمل أحدهما على الاُخرى ، لأنّه لاتوجّه هناك آية مقيّدة واُخرى مطلقة .
ولمّا لم يكن هناك تناف بين الآيتين ، أمكن أن نقول : إن آية:
{وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} أعمّ من الآية الاُخرى . وبعبارة اُخرى : إنّ قاعدة نفي العسر أعمّ من قاعدة نفي الحرج .
ولنا أن نقول: إنّه ليس ممكناً أن نتوصّل إلى هذه النتيجة . لأ نّ في بحث المطلق والمقيد ، عندما يكون هناك توافق من حيث الإثبات والنفي ، قال الأصحاب إنّه حتّى لو استفدنا وحدة الحكم من طريق وحدة السبب فهذا من قبيل حمل المطلق على المقيد . فمثلاً إذا كان هناك دليل مفاده: إن ظاهرت فأعتق رقبة ، ووجد دليل آخر فحواه: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة . فهنا وحدة السبب ـ وهو الظهار ـ تكشف عن أنّ الحكم هنا واحد لا أكثر ، والحكم الواحد لايكون مقيّداً ومطلقاً في آن واحد .
إذن لابدّ لنا أن نحمل المطلق على المقيّد . وحتّى لو استفدنا وحدة الحكم من
(الصفحة 107)
الخارج ، فهذا لايغيّر حكم المسألة .
وبناءً على ما تقدّم في باب المطلق والمقيّد نقول: إنّ القرآن الكريم يستعمل تعبيرات شتّى في بيان مقصوده ، وهذا ما نجده في الآيات التي استعرضناها سابقاً والتي تشكّل محور بحثنا هذا . وهي قوله تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} و
{وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} و
{وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} فجميع هذه الآيات تستهدف معنى واحد ، وبناءاً على ذلك وحتّى لو سلّمنا بأ نّ العسر أعمّ من الضيق ، لابدّ وأن نأخذ بالمقيّد ، لأ نّنا نعلم أ نّه لاتوجد لدينا مسألتان ، مسألة نفي العسر ومسألة نفي الحرج ، وإنّما هناك مسألة واحدة عبرّ عنها بتعبيرات مختلفة . ومن هنا يتعيّن علينا أن نأخذ بالقدر المتيقّن ، وهو الحرج والضيق . فالقاعدة سواء عبّرت عنها بقاعدة الحرج ، أو نفي العسر ، أو قاعدة نفي الإصر ـ عبرّ عنها بما شئت ـ إنّما مدار البحث فيها هو الضيق .
نسبة قاعدة لا حرج إلى (قاعدة لا ضرر):
بعدما تبيّن ثبوت قاعدة «لا حرج» في الجملة والمراد من العناوين المذكورة في خطاباتها لابدّ لنا من البحث في مفاد القاعدة وأ نّه هل يجري فيها الاختلاف الواقع في مفاد قاعدة لا ضرر أو لا يجري ونقايس بين قاعدة لا حرج وقاعدة لا ضرر . خاصّة إذا عرفنا أ نّ هناك احتمالات متعدّدة تطرح في قاعدة لا ضرر ، لنرى هل أ نّ قاعدة لا حرج هي مثل قاعدة لا ضرر . أي أ نّها غير محدّدة المعنى . أو أ نّ قاعدة لا حرج لها معنىً محدّد ، ولا تحتمل وجوه وإحتمالات متعدّدة كما هو الحال بالنسبة لقاعدة لا ضرر؟!
ولكي تتّضح عمليّة المقايسة بين القاعدتين لابدّ من إشارة سريعة للمعاني المختلفة في قاعدة لا ضرر .
(الصفحة 108)الآراء الأربعة في مدلول «لا ضرر»
توجد هناك أربعة آراء مهمّة في خصوص هذه القاعدة . وتبحث هذه الآراء في كلمة «لا» الموجودة في العبارة «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» هل هي «لا» نافية ، أو هي ناهية؟ هناك رأيان من هذه الأربعة يذهبان إلى أ نّ «لا» هذه تفيد النفي ، أحد هذين الرأيين هو للشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه(1) ، والآخر للمرحوم المحقّق الخراساني (قدس سره) في كتاب الكفاية(2) .
وأمّا الرأيان الآخران فمفادهما: أ نّ «لا» تفيد النهي . أحدهما للمرحوم شيخ الشريعة الأصفهاني (قدس سره) والآخر لسيّدنا الاُستاذ الإمام الخميني (قدس سره) ، وهناك أراء اُخرى في هذا المضمار ليست ذات أهميّة .
يقول الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كتابه الرسائل: إنّ عبارة «لا ضرر» تفيد الإخبار «ذلك لأ نّ النفي يفيد الإخبار» ومعناها أ نّه لا ضرر في الإسلام . فالمعنى أ نّه لم يجعل في الإسلام حكمٌ يوجب تحقّق الضرر ، بل إنّ الشيخ يتوسّع في ذلك فيقول: إنّ عبارة «لا ضرر» تفيد عدم الحكم أيضاً ، وتخبر عنه في حال كون عدم الحكم موجباً للضرر أو يساعد على الضرر . أي أنها تنفي عدم الحكم . ومثال ذلك لو فرضنا أن الوضوء أصبح مضرّاً بتمام معنى الضرر . ولنفرض أ نّ فيه ضررٌ مالي ، كأن يقال لشخص ما: أعطنا مليون تومان لنعطيك ماءً تتوضّأ به ، فلو باع جميع ما لديه لما تمكّن من أن يوفّر هذا القدر في المال . فيلزم وجوب الوضوء على هذا الشخص الضرر التّام .
وأمّا المثال على عدم الحكم ، فيفرض الشيخ الأنصاري (قدس سره) هذا الفرض ، وهو أ نّه لو لم يكن هناك في الإسلام خيار بإسم خيار الغبن ، فإنّ عدم جعل الخيار هذا
- 1 . فرائد الاصول 2 : 460 .
- 2 . كفاية الاصول : 381 .
(الصفحة 109)
بالنسبة للمغبون في المعاملة يكون ضررياً . هنا بناءً على قاعدة لا ضرر ، يثبت الخيار .
إذن ، رأي الشيخ الأنصاري (قدس سره) هو أن ما يأتي بعد «لا» النافية هو صيغة للحكم المحذوف ، أي أ نّ «لا ضرر» تعني لا حكماً ضررياً ، لا عدم الحكم الضرري ، أي لايمكن أن ينتفي الحكم إذا كان انتفاؤه ضرريّاً . ثمّ يفسّر قاعدة «لا ضرر» بالمعنى التالي: وهو أ نّكم أينما وجدتم حكماً يستلزم الضرر ، فلابدّ أن تستدلّوا بالقاعدة بأ نّه لا وجود لهذا الحكم ، وإذا رأيتم أ نّ عدم الحكم ، أي انتفاء الحكم يستدعي الضرر فلابدّ وأن تحكموا استناداً إلى القاعدة أنّ عدم الحكم غير متحقّق ، بل إنّ هناك حكماً قد تحقّق .
النفي الحقيقي والإدّعائي
ويّتفق المرحوم المحقّق الآخوند (قدس سره) في كتابه «الكفاية» مع المحقّق الشّيخ الأنصاري (قدس سره) في أ نّ «لا» هنا ، نافية ، ولكنّه يفسّر العبارة بطريقة متفاوتة فيقول: لدينا استعمالات كثيرة تشبه إلى حدٍّ ما عبارة «لا ضرر في الإسلام» وهذه الاستعمالات على نوعين: البعض منها على نحو الحقيقة ، والبعض الآخر مبتنية على الإدّعاء والزعم ليس إلاّ . فمثلاً إذا لم يكن هناك رجلٌ في الدار وأردت أن تخبر عن ذلك فتقول: لا رجل في الدار . هنا أنت تنفي حقيقة كون رجل في الدار . ونفي الحقيقة هذا «على حدّ تعبير المرحوم الآخوند (قدس سره)» إنّما يبيّن على نحو الحقيقة . فعندما لايكون هناك رجلٌ في الدار ، وأردت الإخبار عن ذلك بقولك «لا رجل في الدار» هنا نفيت الرجولية في الدار على نحو الحقيقة ، وليس على نحو الزعم والإدّعاء .
ولكن هناك استعمالات من نوع آخر ظاهرها نفي الحقيقة ، ولكن بعد النظر والإمعان نرى أ نّ نفي الحقيقة في هذه الاستعمالات ليس على نحو الحقيقة وإنّما على
(الصفحة 110)
نحو الإدعاء . ومثال ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «يا أشباه الرجال ولا رجال»(1) .
فهنا الإمام (عليه السلام) ينفي عنوان الرجال وحقيقة الرجال . ولكن هذا النفي لا على نحو الحقيقة ، بل على نحو الإدّعاء . أي أنّه إذا وجد هناك رجال ، ولكن لم يلمس فيهم خصال الرجال ، من قبيل الحميّة والغيرة والشهامة والشجاعة ، حينئذ يمكن أن يقال على نحو الإدّعاء «لا رجال» لا على نحو الحقيقة . يقول المرحو الأخوند (قدس سره): إنّ عبارة «لا ضرر في الإسلام» هي من قبيل قول الإمام (عليه السلام) «لا رجال» فالإسلام يريد أن يبيّن هذه الحقيقة ، وهي أ نّ الآثار والصفات المترتّبة في الموارد الضرريّة «هنا يقع المرحوم في مغالطة ولسنا هنا بصدد بيان هذه المغالطة» من قبيل الوضوء الضرري والغسل الضرري تنتفي ، وحينئذ لايبقى هناك وضوء ولا غسل . أي أ نّ الوضوء إذا خرج عن كونه حكماً وانتفت منه صفة المقدّمية للواجب لايعدّ وضوءاً .
وبعبارة اُخرى: الوضوء مع احتمال الضرر ليس بوضوء . لانعدام آثار الوضوء من قبيل الوجوب والمقدميّة للصّلاة .
ونلاحظ على المرحوم المحقق الأخوند (قدس سره) بالإضافة إلى مغالطته ، أنّه يرى أ نّ الآثار والصفات المترتّبة على الموارد الضرريّة تنتفي بقاعدة لا ضرر . فوجوب الوضوء مثلاً ، إذا كان ضرريّاً فإنّ قاعدة لا ضرر تأتي وتنفي هذا الوجوب كمقدّمة للصلاة . إذن ، في الحقيقة هو يفسّر «لا» بأ نّها نافية ، ولكنّه لا يوجّه النفي إلى الحكم مباشرةً ، بل يوجّه حكم النفي باتّجاه الموضوع الضرري ويقول: إنّ حقيقة هذا الموضوع منتفية ، أي ينفي ماهيّة الوضوء باعتبار أ نّ الوضوء الضرري لا يتحقّق فيه آثار وصفات الوضوء .
- 1 . كفاية الاصول : 381 . وراجع نهج البلاغة ، الخطبة : 27 .