(الصفحة 131)
في الفقه . أ نّ الشخص إذا أصبح مستطيعاً ولم يذهب إلى الحجّ عن عمد فحكمه أن يؤدّي ما عليه من الحجّ بأيّ نحو أمكن ، ومهما كانت الظروف ، وبالرغم من كلّ المشاق التي قد تعترض طريقه .
ومن الموارد الاُخرى في هذا المجال هو فيما إذا قتل شخص شخصاً آخر عمداً ، هنا وليّ المقتول له أن يقتصّ من القاتل ، والقصاص بالنسبة له أمر عادي ، ولكن استعداد القاتل للحضور أمام المحكمة للإقتصاص منه ليس بالأمر الهيّن أبداً . ولكن يجب شرعاً على القاتل المثول لأجل الإقتصاص منه ، وفي حال هروبه من القصاص فإنّه يرتكب مخالفةً شرعية . وهنا لنا أن نتصوّر مدى الحرج الذي لا حرج فوقه . لأن حضور القاتل في المحكمة يعني بالنسبة له خاتمة عسيرة ، فأيّ حرج أشدّ من هذا الحرج الذي يرى فيه الإنسان نفسه ملزماً شرعاً بأن يضع نفسه تحت تصرف وليّ القاتل لكي يقتلهُ؟
وكذلك الحال في باب الحدود . فلو حكم على رجل وامرأة بالرجم ، فما هو الواجب الشرعي الذي يتحتّم عليهما القيام به؟ من الواضح أ نّهما مكلّفان شرعاً أن يضعاً نفسهما تحت تصرّف الحاكم الشرعي ، والحاكم يقوم برجمها حتّى الموت . فهل يتصوّر أن هناك حكماً آخر هو أشدّ حرجاً من هذا الحكم ، ومع ذلك نجد أ نّ قاعدة لا حرج لا تتدخّل في مثل هذه الموارد الشديدة الحرجيّة .
فلا يوجد هنا شخص قد حكم عليه بالرجم يمكن أن يقول بأ نّ قاعدة لا حرج تجيز له الفرار من السجن ، وبالتالي التخلّص من الرجم .
وهناك موارد كثيرة من هذا القبيل منها: اللواط والزنا وموارد اُخرى يجري فيها حكم القتل . وأشدّ من ذلك الموارد التي يحكم فيها عليه بالإحراق والإلقاء من شاهق . ومع ذلك كلّه فإنّ المحكوم مكلّف شرعاً أن يضع نفسه تحت تصرّف حاكم الشرع كي يجري بحقّه الحكم الشرعي .
(الصفحة 132)
وقد يعتاد الإنسان لا سمح الله على إرتكاب محرّم من المحرّمات ، ووظيفته الشرعيّة في مثل هذه الحالة أن يقلع عن عادته ، وكما يقال فإن ردّ المعتاد عن عادته كالمعجز ، أي أنّ الإقلاع عن الذنب وتركه بالنسبة لمن إعتاد على الذنب يستدعي الحرج . ومع ذلك فإنّ وجوب ترك الذنب يبقى ثابتاً . ولا يحقّ لمثل هذا الشخص أن يحتجّ ويقول: إنّي إعتدت على هذا الذنب ، وقاعدة لا حرج ترفع عنّي الوجوب .
ويذكر المرحوم الميرزا الآشتياني (قدس سره) مثالاً فيقول: نفس هذا الإجتهاد الذي نسعى جميعاً للحصول عليه ، هو واجب كفائي ، من واجبات الإسلام ومن الوظائف الشرعيّة ، وحيث لا تفرّق القاعدة بين الوجوب الكفائي والوجوب العيني فإنّ هذا الوجوب الكفائي للإجتهاد من حيث الشدّة والصعوبة [على حدّ تعبيره] أشدّ من الجهاد الأكبر . ثمّ يقول: وقد يتصوّر البعض أ نّ الإجتهاد مثل التجارة ، فكما إذا انصرف الإنسان عن التجارة عدّة سنوات . يعود بعد هذه السنوات تاجراً ، فكذلك هو الإجتهاد ، ولكن هؤلاء لم يعرفوا بعد حقيقة الإجتهاد وما فيه من الصعوبة والمشقّة ، ومع ذلك ، نلاحظ أ نّ قاعدة لا حرج لا تتدخّل هنا ولا تمنعه من أن يكون واجباً كفائياً . ولا أحد يدّعي أ نّ الحكم بالوجوب هذا مرتفع بدليل قاعدة لا حرج .
المرحوم الميرزا الآشتياني (رحمه الله) يذكر مثالاً آخر فيقول: لو أ نّ شخصاً نذر أن يحجّ إلى بيت الحرام ماشياً ، فهذا النذر صحيح وينعقد ، ويتوجّه إليه الخطاب: (أوفوا بالنذر) حيث إنّ وجوب الوفاء بالنذر هو من أشدّ مراتب الحرج بالنسبة إليه . وكذا إذا نذر أن يصوم سنة كاملة ففي جميع هذه الموارد يتعيّن الحكم الشرعي بوجوب الوفاء بالنذر ، وبحسب الظاهر لابدّ أن يرتفع بقاعدة لا حرج .
(الصفحة 133)التوفيق بين هذه الموارد والقاعدة
وهنا نسأل: مع وجود هذه الموارد ، كيف يمكننا أن نوفّق بينها وبين قاعدة لا حرج؟ هل يمكننا أن نقول بأ نّ هذه الموارد تخرج عن قاعدة لا حرج بالتخصيص . أو أ نّ هناك علل اُخرى بموجبها تكون هذه الموارد خارجة بالتحقيق .
ومن جملة علمائنا الأعلام (رحمهم الله) الذين بحثوا هذا الموضوع هو المرحوم صاحب الفصول (قدس سره) . فقد أفرد ـ بحثاً خاصّاً في آخر كتاب الفصول تحت عنوان «إستحالة التكليف بما لايطاق» ، بحث فيه: هل أن التكليف بمالا يطاق محال ، أو ليس بمحال؟ والبعض فصّل بين موارد مالا يطاق ، وبعد أن يتمّ المرحوم صاحب الفصول بحثه هذا ، يفرد تتمّة لبحث قاعدة لا حرج(1) . وهناك يرى رضوان الله عليه أ نّ الموارد التي ذكرت في باب تخصيص قاعدة لا حرج ، ليست من موارد التخصيص ، بل إنّها خارجة عن قاعدة لا حرج بلحاظ موضوعاتها . ويشير إلى عدّة موارد منها: مسألة الجهاد . ومنها أيضاً قضيّة هؤلاء الذين شقّ عليهم الإيمان بالإسلام حتّى أن القرآن حكى عنهم ما قالوه:
{اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ}(2) أي أنّهم لايطيقون الإسلام أبداً .
يقول صاحب الفصول (قدس سره): إنّ هؤلاء يخالفون الحقّ إلى هذه الدرجة ، ثمّ يتساءل: ألم يكن واجبهم هو قبول الحقّ والإسلام؟ نعم ، لكن هذا التكليف بالنسبة لهم فيه حرج شديد . ثمّ يضرب مثالاً آخر ، وهو تهيئة النفس لتقبّل القصاص والحدود .
ثمّ يأتي بعدّة تخريجات لكلّ من مسألة الجهاد ، وتوطين النفس لتقبل الحدود
- 1 . الفصول : 333 .
- 2 . الأنفال: 32 .
(الصفحة 134)
والقصاص يريد بذلك أن يخرج هذه الموارد من قاعدة لا حرج على أ نّها لاتعدّ من مستثنيات القاعدة . وفي الحقيقة إنّ الإستثناء في هذه الموارد هو من قبيل الإستثناء المنقطع ، ولا علاقة له بقاعدة لا حرج أبداً .
والسؤال هنا كيف نرفع إشكال التنافي بين القاعدة وهذه الموارد الحرجيّة .
توجد هناك عدّة ردود على هذا السؤال .
منها: ما قيل من أنّه لا مانع لأن تكون هناك تكاليف حرجيّة ، وفي نفس الوقت لاتتنافى مع ثبوت القاعدة المذكورة . والسؤال الذي يطرح هنا هو: كيف نتعامل مع أدلّة النفي؟ وقد أجاب أصحاب هذا القول بجوابين:
أحدها: إننّا نعتبر هذه الأدلّة مخصّصة لقاعدة نفي الحرج . وبعبارة اُخرى: إنّ قاعدة نفي الحرج هي قاعدة فقهيّة عامّة . وعليه فكما تكون الإطلاقات الفقهيّة الاُخرى قابلة للتخصيص ، فكذلك من الممكن أن نلتزم بهذا المعنى أيضاً في خصوص قاعدة (لا حرج) ، وقد قلنا : إنّ مجرّد كون قاعدة لا حرج في مقام الإمتنان ، لا يعني أنّ احتمال التخصيص فيها ممتنع ، وأنّ الموارد التي ذكرناها وغيرها تخرج من القاعدة بحجّة التخصيص .
الثاني: إنّ قاعدة لا حرج بالأساس لم يلحظ فيها جهة العموم بالشكل الذي يتصوّر ، وإنّما هي بالأصل محدودة وفي نطاق خاصّ وفي موارد خاصّة ، وبناءً على ذلك يقال في معنى الآية الشريفة:
{وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} إنّ الإصر الذي كان على الاُمم السابقة غير موجود في هذه الاُمّة ، والشاهد على ذلك آية اُخرى هي قوله تعالى:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(1) أي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مهمّته أن يضع عن الناس ما كانت