(الصفحة 143)
قاعدة لا حرج بحدّ ذاتها قابلة للتخصيص ، وإمكان التخصيص فيها وارد ، إلاّ أنّه في الواقع الخارجي لايمكننا أن نجد مورداً واحداً كمثال على التخصيص في قاعدة لا حرج .
وحكي عن الشيخ الأنصاري أعلّى الله مقامه الشّريف أنّ قاعدة نفي الحرج ليس فقط يحتمل بشأنها التخصيص ، بل أنّ موارد التخصيص موجودة ومن الكثرة بحيث تُشكِّل وهناً في قاعدة (لا حرج)(1) ، ولازم ذلك أنّنا لو تمسّكنا في مورد بعموم قاعدة (لا حرج) فهذا لايكفي ، لأنّ عمومها موهون ، ولا يصلح للركون إليه ، ولابدّ مثلاً من ضمِّ عمل الأصحاب وفتواهم ، أو أشياء اُخرى من هذا القبيل إلى هذا العموم حتّى ينجبر وهنه ، ويكون صالحاً للإستناد إليه . فإذا كانت هذه القاعدة على هذه الصورة من الضعف فإنّها سوف لاتنفع كثيراً ، فلا يمكننا الاستفادة منها في الفقه كثيراً .
غير أنّه حكي أيضاً عن الشيخ الأنصاري نفسه ما يخالف هذا المعنى ، فقد حكي عنه أنّه قال: إنّ قاعدة (لا حرج) من القوّة والإحكام بشكل لو أردنا معه أن نأتي ولو بدليل واحد كمخصّص لهذه القاعدة ، فإنّ مجرّد كونه أخصّ منها لا يقتضي أن يقدّم عليها ، وهذا عجيب جدّاً ، وقد مرّ عليكم في الاُصول في مسألة العامّ والخاصّ أنّ الدليل الخاصّ يقدّم على العامّ مطلقاً ، إلاّ إنّه أفاد هنا بأنّ الخاصّ لا يقدّم على قاعدة (لا حرج) لمجرد كونه أخصّ ، أي أنّ هذه القاعدة على هذه الدرجة من القوّة والإحكام ، فما ظنّك لو لم يكن هناك أخصيّة وأعمّية في البين . فإنّ قاعدة (لا حرج) نوعاً ما بالقياس إلى الأدلّة الأوّليّة ـ مع غضّ النظر عن الحكومة ـ بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه ، فربما نشاهد ذلك 90 % أ نّ
(الصفحة 144)
النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص من وجه ، مثل دليل وجوب الوضوء ووجوب الغسل وأمثال ذلك ، وقلنا في مسألة الحكومة; لاينبغي المقارنة وبيان النسبة ، ولايجدر بنا البحث عن مادّة الإجتماع والإفتراق ، كما أنّه لا ترد في مسألة الحكومة قضيّة الظهور والأظهريّة ، بل إنّ الدليل الحاكم يتقدّم على الدليل المحكوم ، وإن كان أضعف ظهوراً منه ، وكانت النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص من وجه .
فإذن ، مع أنّ الشيخ يفترض دليلاً أخصّ مطلقاً من قاعدة (لا حرج) ، إلاّ أنّ هذا الدليل الأخصّ مطلقاً لا يمكنه لمجرّد كونه أخصّ أن يتقدّم على قاعدة (لا حرج) ، وعليه فما حكي عن الشيخ أوّلاً لا يضرّ بما سلكناه من عدم تخصيص القاعدة وإن كان قابلة للتخصيص ثبوتاً . وعلى هذا نسلك نفس الطريق الذي سلكناه سابقاً وصرّح به صاحب الفصول أيضاً ، وأثبت في الحقيقة أركانه من أنّ قاعدة (لا حرج) ليس فيها تخصيص أصلاً ، وهذا ما يثبته أيضاً ظاهر أدلّة نفي الحرج وإن كانت هذه الأدلّة في نفسها لا تأبى عن التخصيص .
الحرج الشخصي أو النوعي؟
هل أنّ الحرج في قاعدة (لا حرج) هو الحرج الشخصي أو الحرج النوعي؟ فلو كان شخصيّاً فمعناه أنّ لكلّ مكلّف حساب مستقلّ فيما يتعلّق بقاعدة نفي الحرج ، وكلّ مكلّف يلاحظ بشخصه والتكليف المتجّه إليه بالشكل الذي فسّرنا به الآية وجعلنا الحرج صفة للتكليف ، فعلى كلّ مكلّف أن يلاحظ تكليفه ، فإذا كان التكليف يجعله في ضيق وحرج بحيث لا يتحمّله العرف عادةً ، فإنّ الآية الشريفة: تأتي لنفيه ، فترفع هذا التكليف عن عهدة المكلّف ، حتّى وإن لم يكن فيه حرج بالنسبة إلى الآخرين ، ولا يتّصف بكونه حرجيّ أصلاً ، فالملاك في قاعدة نفي
(الصفحة 145)
الحرج هو التكليف الشخصي المتّجه نحو آحاد المكلّفين . وإن لم يكن حرجيّاً بالنسبة إليه فالتكليف ثابت .
إلاّ إنّه يوجد في هذه القاعدة إحتمال آخر ، وهو أن نفسّر الحرج بالحرج النوعي ، فنقول أنّ تكليفاً من التكاليف كان حرجيّاً بالنسبة لأغلب المكلّفين ، فإنّ هذا التكليف سيرفع عن الجميع حتّى عمّن لايكون التكليف حرجيّاً بالنسبة إليهم ، أي لو أنّ أحد التكاليف كان حرجيّاً بالنسبة إلى 80 % من المكلّفين فإنّ هذه الحرجية بالنسبة إلى الثمانين بالمئة تقتضي رفع التكليف عن المكلّفين بنسبة 100 % وكذلك الأمر معاكساً ، فلو لم يكن حرجيّاً بالنسبة إلى 80 % من المكلّفين ، نقول بما أنّه لا يوجد حرج نوعي فإنّ هذا التكليف ثابت حتّى في حقّ العشرين الذين يكون التكليف حرجيّاً بالنسبة إليهم .
إذن لازم القول بالحرج النوعي هذا أن نقول به بكلا جانبيه السلبي والإثباتي ، ففي الجانب الإثباتي يرتفع حتّى عن العشرين بالمئة ، وفي الجانب السلبي فإنّ التكليف يثبت حتّى على العشرين الذين تكون في التكليف مشقّة وحرج عليهم ؟ يوجد هنا إحتمالان ، بل قولان ، واتّفق الجميع على نسبة هذه الحرجيّة النوعيّة إلى المشهور ، أي أنّ المشهور يقول بالحرجيّة النوعيّة ، وإن لم تُعلم تماميّة هذه النسبة .
إلاّ أنّ المحقّقين من قبيل المرحوم النراقي في كتاب (العوائد) ، بل المرحوم الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه الشريف وجمع من تلامذته العظماء طبّقوا هذه المسألة على الحرج الشخصي ، وقالوا: إنّ أدلّة نفي الحرج تدلُّ على نفي الحرج الشخصي(1) .
(الصفحة 146)
والآن لو انحصر دليلنا بهذه الآية:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}فأرى أنّه لايمكن لأحد أن يناقش في أنّ المراد من هذا التعبير هو الحرج الشخصي ، لأنّ هذا الخطاب (ما جعل عليكم) سواءً بلسانه ، أو بملاكه يشمل عموم المكلّفين ، أي أنّ أصل الخطاب أو ملاكه يقول: (أيّها المكلّف) وزيد مكلّف ومخاطب بهذا الخطاب ، وعمرو مكلّف ومخاطب بهذا الخطاب ، وكذا جميع المكلّفين بآحادهم مخاطبون بهذا الخطاب بقوله (عليكم) خاصّة ، وقد جاء بعدها كلمة (في الدين) والدين معناه مجموعة التكاليف الدينيّة ، أي الوظائف والقوانين الإلهيّة ، كالوضوء الذي جعل على كلّ واحد من المكلّفين ، وكذا الغُسل والصوم ، ثمّ تأتي الآية وتقول: (يا أيّها المكلّفين ما جعل الله عليكم في التكاليف المتوجّهة إليكم من تكليف حرجيٍّ) ، ولا معنى هنا لأن نفسّر الحرج بالحرج النوعي ، فليست المسألة مسألة النوع ، وإنّما هي مسألة التكليف سواءً أكان هناك مخاطب حقيقة أو ملاكاً ، فلا فرق في هذه الناحية ، فإنّ آية نفي الحرج هنا تحدّد دائرة الأحكام المتوجّهة إلى المكلّفين ، وفي الحقيقة فإنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) بمثابة الملحق لجميع الأدلّة الأوّليّة التي تجعل التكليف متوجّهاً نحو كلّ واحد من المكلّفين ، وأساساً لايمكن أن يتوهّم أنّ المراد من الحرج في الآية الشريفة هو الحرج الحاصل لدى النوع ، فإذا بقينا نحن وهذه الآية وافترضنا إنحصار الدليل بقاعدة (لا حرج) فلا أرى أنّ لأحد أن يحتمل أنّ المراد من هذا الحرج هو الحرج النوعي .
إلاّ أنّ الأمر الذي أدّى إلى طرح مسألة الحرجية النوعية هو آية الصوم ، إذ يقول تعالى في آية الصوم:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) .
(الصفحة 147)
وقلنا : إنّ قوله (ولا يريدُ بكم العسر) يرتبط بالجانب السلبي ، لماذا لايجب عليه الصيام في شهر رمضان؟ لأنّه تعالى لا يريد بكم العسر ، وقد فسّرنا العسر بالحرج ، وقلنا : إنّه ليس كما ذهب إليه المحقّق النراقي في (العوائد) من أنّ العسر أعمّ من الحرج ، فالإشكال يرد هنا ، فهل كلّ من كان على سفر في رمضان يلزم من صيامه الحرج؟ فربّما ذهب شخص إلى طهران وكان لإبنه بيتاً هناك وينوي الإقامة عنده لخمسة أيّام ، فما هو الفرق بين هذا البيت وبين بيته في قم ، فلا يكون في صومه عسر بالنسبة إليه ، فلماذا يقول الله سبحانه (لا يريد بكم العسر)؟ فيقال: نفهم من هذا أ نّ الملاك في العسر والحرج هو الأكثرية ونوع المكلّفين والمسافرين .
إذن هذا التعبير (لا يريد بكم العسر) بعد قوله: (من كان مريضاً أو على سفر فعدّةٌ من أيام اُخر) يرشدنا إلى أ نّ المسألة لا تدور حول العسر والحرج الشخصي ، وإنّما تدور مدار العسر والحرج النوعيّ بالإضافة إلى بعض الروايات التي قرأناها وناقشنا في دلالتها ، وكان منها رواية لأبي بصير في مسألة (إنّا بلينا بغدير مطر) قال الإمام في ذيلها: (فإنّ الدين ليس بمضيّق ، قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) فالإستدلال بهذه القاعدة كانت بهذا الشأن حيث ذكر الإمام هذا الدليل على عدم إنفعال ماء الكرّ . وطبعاً نحن فسّرنا الرواية بشكل آخر .
فمن جهة في قوله: ـ(ما جعل عليكم في الدين من حرج) هناك ظهور لايمكن التشكيك فيه في الحرج الشخصي ، ومن جهة اُخرى (لايريد بكم العسر) في ذيل آية الصوم فهو ظاهر في العسر النوعي ، فما هو موقفنا هنا؟
فنقول: إنّ هذه القاعدة (لا حرج) التي هي بلسان الدليل التي تعرّضت كدليل لنفي الحكم طرحت كحكمة في ذلك الدليل ، وإذا طرح شيء على إنّه حكمة لا يمكنه أن يكون عامّاً بالنسبة إلى مفاد ذلك الدليل ، ولا يشترط تطبيقه على جميع موارده .
وهذا هو الفرق بين العلّة والحكمة ، فيقال مثلاً في العدّة ، إنّ المرأة يجب عليها