(الصفحة 146)
والآن لو انحصر دليلنا بهذه الآية:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}فأرى أنّه لايمكن لأحد أن يناقش في أنّ المراد من هذا التعبير هو الحرج الشخصي ، لأنّ هذا الخطاب (ما جعل عليكم) سواءً بلسانه ، أو بملاكه يشمل عموم المكلّفين ، أي أنّ أصل الخطاب أو ملاكه يقول: (أيّها المكلّف) وزيد مكلّف ومخاطب بهذا الخطاب ، وعمرو مكلّف ومخاطب بهذا الخطاب ، وكذا جميع المكلّفين بآحادهم مخاطبون بهذا الخطاب بقوله (عليكم) خاصّة ، وقد جاء بعدها كلمة (في الدين) والدين معناه مجموعة التكاليف الدينيّة ، أي الوظائف والقوانين الإلهيّة ، كالوضوء الذي جعل على كلّ واحد من المكلّفين ، وكذا الغُسل والصوم ، ثمّ تأتي الآية وتقول: (يا أيّها المكلّفين ما جعل الله عليكم في التكاليف المتوجّهة إليكم من تكليف حرجيٍّ) ، ولا معنى هنا لأن نفسّر الحرج بالحرج النوعي ، فليست المسألة مسألة النوع ، وإنّما هي مسألة التكليف سواءً أكان هناك مخاطب حقيقة أو ملاكاً ، فلا فرق في هذه الناحية ، فإنّ آية نفي الحرج هنا تحدّد دائرة الأحكام المتوجّهة إلى المكلّفين ، وفي الحقيقة فإنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) بمثابة الملحق لجميع الأدلّة الأوّليّة التي تجعل التكليف متوجّهاً نحو كلّ واحد من المكلّفين ، وأساساً لايمكن أن يتوهّم أنّ المراد من الحرج في الآية الشريفة هو الحرج الحاصل لدى النوع ، فإذا بقينا نحن وهذه الآية وافترضنا إنحصار الدليل بقاعدة (لا حرج) فلا أرى أنّ لأحد أن يحتمل أنّ المراد من هذا الحرج هو الحرج النوعي .
إلاّ أنّ الأمر الذي أدّى إلى طرح مسألة الحرجية النوعية هو آية الصوم ، إذ يقول تعالى في آية الصوم:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) .
(الصفحة 147)
وقلنا : إنّ قوله (ولا يريدُ بكم العسر) يرتبط بالجانب السلبي ، لماذا لايجب عليه الصيام في شهر رمضان؟ لأنّه تعالى لا يريد بكم العسر ، وقد فسّرنا العسر بالحرج ، وقلنا : إنّه ليس كما ذهب إليه المحقّق النراقي في (العوائد) من أنّ العسر أعمّ من الحرج ، فالإشكال يرد هنا ، فهل كلّ من كان على سفر في رمضان يلزم من صيامه الحرج؟ فربّما ذهب شخص إلى طهران وكان لإبنه بيتاً هناك وينوي الإقامة عنده لخمسة أيّام ، فما هو الفرق بين هذا البيت وبين بيته في قم ، فلا يكون في صومه عسر بالنسبة إليه ، فلماذا يقول الله سبحانه (لا يريد بكم العسر)؟ فيقال: نفهم من هذا أ نّ الملاك في العسر والحرج هو الأكثرية ونوع المكلّفين والمسافرين .
إذن هذا التعبير (لا يريد بكم العسر) بعد قوله: (من كان مريضاً أو على سفر فعدّةٌ من أيام اُخر) يرشدنا إلى أ نّ المسألة لا تدور حول العسر والحرج الشخصي ، وإنّما تدور مدار العسر والحرج النوعيّ بالإضافة إلى بعض الروايات التي قرأناها وناقشنا في دلالتها ، وكان منها رواية لأبي بصير في مسألة (إنّا بلينا بغدير مطر) قال الإمام في ذيلها: (فإنّ الدين ليس بمضيّق ، قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) فالإستدلال بهذه القاعدة كانت بهذا الشأن حيث ذكر الإمام هذا الدليل على عدم إنفعال ماء الكرّ . وطبعاً نحن فسّرنا الرواية بشكل آخر .
فمن جهة في قوله: ـ(ما جعل عليكم في الدين من حرج) هناك ظهور لايمكن التشكيك فيه في الحرج الشخصي ، ومن جهة اُخرى (لايريد بكم العسر) في ذيل آية الصوم فهو ظاهر في العسر النوعي ، فما هو موقفنا هنا؟
فنقول: إنّ هذه القاعدة (لا حرج) التي هي بلسان الدليل التي تعرّضت كدليل لنفي الحكم طرحت كحكمة في ذلك الدليل ، وإذا طرح شيء على إنّه حكمة لا يمكنه أن يكون عامّاً بالنسبة إلى مفاد ذلك الدليل ، ولا يشترط تطبيقه على جميع موارده .
وهذا هو الفرق بين العلّة والحكمة ، فيقال مثلاً في العدّة ، إنّ المرأة يجب عليها
(الصفحة 148)
أن تعتدّ ثلاثة قروء للإستبراء من الحمل ، إلاّ أنّه في بعض الموارد لا توجد هذه الحكمة ، فلو كان الزوج في سفر وقد غاب عن زوجته مدّة سنتين ، ثمّ طلّق زوجته ، فتجب عليها العدّة كذلك ، مع أنّ الحكمة المتقدّمة لا تجري هنا ، فلا معنى لأن تحمل الزوجة من رجل غاب عنها زوجها سنتان ، فإذن مشروعيّة العدّة للإستبراء من الحمل ليس فيه جنبة عليّة يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً ، وإنّما هي حكمة .
فحينئذ لو واجهنا هذه المسألة في آية الصوم ، يقول تعالى: (من كان مريضاً أو على سفر فعدّةٌ من أيام اُخر) يعني لا يجب الصوم في السفر ، ولا يجب على المريض ولا على المسافر ، ثمّ قال في ذيلها: (ولا يريد بكم العسر) والعسر هو العسر الشخصي والحرج هو الحرج الشخصي ، ولكن لايجب أن ينطبق هذا الحرج الشخصي فيما يتعلّق بهذا الحكم المذكور في الآية تماماً وإنّما هو حكمة فيما يتعلّق بهذا الحكم ، وإمّا في الموضع الذي لايتحدّث فيه الدليل عن نفي الحكم ، فحينئذ لا نتمكّن من أن نجعل العسر الشخصي هو الملاك ، ونقول في كل موضع يكون فيه عسر شخصي يوجد (لا يريد بكم) ، أي لابدّ أن يدور نفي الحكم مدار الحرج الشخصي .
موارد الحرج في كلام الشّهيد الأوّل:
والعجيب أنّ الشهيد الأوّل في كتاب (القواعد) ذكر موارد كثيرة وربطها بقاعدة (لا حرج) ، في حين أنّ أكثرها لا إرتباط له بهذه القاعدة أصلاً ، فمثلاً قال في إحدى الموارد: إنّ مشروعيّة الإجارة في الإسلام ناشئة من قاعدة العسر والحرج ، لأنّ المنافع التي تملكها معدومة الآن ، فما معنى تمليك المعدوم؟ لكن جاءت قاعدة العسر والحرج وأثبتت مشروعيّة الإجارة . ويذكر أمثلة اُخرى يتعجّب الإنسان منها ، فإنّها بأجمعها لا ترتبط بتلك الجهة التي نبحثها في قاعدة (لا حرج) ، فأوّلاً:
(الصفحة 149)
من أين لك أنّ المناط في مشروعيّة الإجارة هو العسر والحرج؟ فهل أنّ مسألة الإجارة المتداولة بين العقلاء تقوم على قاعدة العسر والحرج؟ لا دليل على ذلك ، بل الإجارة كانت من المعاملات المتحقّقة عند العقلاء وإنّما أمضاها الشارع . وإذا كانت الإجارة مبتنية على هذه القاعدة ، فلماذا تركت البيع ولم تذكره؟ فالبيع أيضاً يكون مبتنياً على قاعدة العسر والحرج ، إذ لو لم يحلّل الله البيع يقع الإنسان في العسر والحرج كثيراً ، ولكن ليس حليّة البيع من أجل نفي الحرج ، وإنّما لأنّ البيع مطروح بين العقلاء ومعمول به .
خلاصة البحث:
فتحصّل ممّا ذكرنا أ نّ الحرج المنفي هو الحرج الشخصي ، وعدم الحرجيّة الشخصيّة في آية الصوم لايضرّ بالمقصود ، لأ نّ مورد التمسّك بالقاعدة ما إذا لم يكن هناك دليل على نفي الحكم مستقلاًّ ، إلاّ كان قاعدة لا حرج حكمةً كما في مورد آية الصوم .
قاعدة لا حرج والأحكام غير الإلزاميّة:
هناك بحث في قاعدة (لا حرج) ، وهو انّه هل أنّ هذه القاعدة تنفي جميع الأحكام التكليفيّة حتّى الاستحباب والكراهة في صورة الحرج ، أو لا؟ وهل انّها تجري في الأحكام الوضعيّة ، أو لا؟
ولم نشاهد في الكلمات من تعرّض إلى البحث الثاني ، إلاّ إنّه يمكن البحث فيه وتترتّب عليه ثمرات عملية . وهنا في هذا البحث ينبغي الخوض في عدّة جهات:
أحدها: أنّه هل في باب التكاليف غير الإلزاميّة ، تجري قاعدة (لا حرج) ، أو
(الصفحة 150)
لا؟ وقد عنون صاحب الفصول (رحمه الله) هذه المسألة ، وصرّح بعدم جريان هذه القاعدة في باب المستحبّات والمكروهات ، فلو تعلّق الحكم الإستحبابي بأمر حرجي فإنّ قاعدة (لا حرج) لا تنفي الإستحباب ، ولو تعلّق الحكم الكراهتي بأمر حرجي فإنّ هذه القاعدة لا تنفي الكراهة .
إلاّ أن مع ملاحظة ما قلناه ، فإنّ الأمر بحاجة إلى توضيح ، فنقول: إنّ المسألة يمكن توضيحها بأحد طريقين:
الأوّل أنّنا نشاهد في قاعدة (لا حرج) أنّه اُستخدمت كلمة (على) ونحن إذا لاحظنا الموارد التي استخدمت فيها كلمة (على) نجدها تستخدم في التكاليف الإلزاميّة ، وفي بعض التكاليف نستفيد الإلزام من نفس كلمة (على) ، ففي آية الصوم حيث قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فإنّه لا يتناسب إلاّ مع الإلزام .
ونشاهد أيضاً في آية القتال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} أو في أدلّة الأحكام التحريميّة مثل : (حرّمت عليكم الميتةَ والدم . . .) فاستعمال كلمة (على) بعد كلمة (جعل) لايمكن تطبيقه إلاّ على التكاليف الإلزاميّة .
وأمّا الطريق الثاني: وهو المبتني على كلامنا السابق ، فقد جعلنا الحرج صفة للتكليف في قبال من ظنّ الحرج عنواناً للفعل والعمل حيث كان يفسّر قوله (ما جعل) بـ(ما أوجب) ، وقد أجبناه أنّ (من حرج) مفعول مطلق نوعي ، أي: ما جعل عليكم في التكاليف من تكليف حرجي ، فعنوان الحرج وصف للتكليف نفسه ، ووصف لنفس الحكم ، وهذا المعنى الذي استفدناه يعطي ثماره فيما نحن فيه ، لأنّه لو كان الحرج وصفاً للتكليف ، فنحن نعلم بأنّ التكليف الإستحبابي مهما كان المكلّف به حرجيّاً فإنّ نفس التكليف الإستحبابي لايمكن أن يكون حرجياً ، فالتكليف الذي يتضمّن إمكان المخالفة والترك من دون إستحقاق للعقاب على تركه ، هل يمكن أن نقول بأ نّه حرجي ؟ .