(الصفحة 158)
أنّني اُريد أن أصوم ، فهل صومه صحيح أو باطل؟
وفيما إذا كانت هذه المسألة في شرط العبادة أو جزئها ، بأن كان القيام في الصلاة حرجيّاً على شخص ، فإنّ قاعدة (لا حرج) تقول: لايجب عليه القيام في الصلاة ويمكنه أن يصلّي من جلوس ، فلو تحمّل هذا الشخص المشقّة والضيق وصلّى بعناء ، فهل صلاته صحيحة ، أو باطلة؟ أو في باب الوضوء بأن كان الجوّ بارداً جدّاً بحيث كان التكليف معه بالوضوء حرجيّاً ورُفع معه التكليف وجعل بدله التيمّم ، فلو أصرّ هذا الشخص وقال: مع إنّ في الوضوء حرج عليّ ، إلاّ أنّني اُريد أن أتحمّل هذا الحرج والضيق وأتوضّأ في مثل هذا الجوّ بهذا الماء البارد ، فهل هذا الوضوء صحيح ، أم باطل؟ هذا هو محلّ البحث ، وهو أحد البحوث المهمّة في قاعدة (لا حرج) .
أوّل من صرّح ببطلان العبادة (وفقاً لما توصّلنا إليه) هو المرحوم كاشف الغطاء حيث قال: إنّ الوضوء الحرجي كالوضوء الضرري يقع باطلاً ، ولا يقع صحيحاً(1) .
وجاء بعده المرحوم صاحب الجواهر عليه الرحمة ، وقال في كتاب الصوم في مسألة الشيخ والشيخة وذي العطاش من الذين لا يجب عليهم الصوم ، قال: لو صام هؤلاء ، فصومهم باطل(2) ، لأنّ الدليل على عدم وجوب الصوم على هؤلاء هو قاعة (لا حرج) ، وهذه القاعدة تطرح المسألة بنحو العزيمة لا الرخصة ، فلابدّ أن يعمل طبقاً لما تقتضيه قاعدة (لا حرج) ، لا أنّ الإنسان مختار بالأخذ بقاعدة (لا حرج) أو بالدليل الأوّل الذي أثبت الحكم ، كلاّ فإنّ (لا حرج) عنوان مطروح على نحو العزيمة لا الرخصة .
- 1 . راجع كشف الغطاء 3: 54 ، (ط) مكتبة الإعلام الإسلامي .
- 2 . جواهر الكلام 17: 150 .
(الصفحة 159)
ثمّ قال: إنّ هذا المطلب يستفاد من جميع الفقهاء ، والمخالف الوحيد لهم هو صاحب الحدائق(1) إستناداً إلى هذه الجملة الواردة في ذيل آية الصوم وهي: (وأن تصوموا خيرٌ لكم) وطبعاً قد فسّرها بهذا الشكل وهو أنّ (وأن تصوموا) في مورد عدم وجوب الصوم وعدم كونه تكليفاً منجّزاً في حقّك ، لكنّ في الوقت نفسه إذا صمت فهو أحسن لك وأنفع ، هكذا فسّرها صاحب الحدائق ، وعندها قال: إنّ الشيخ والشيخة وذا العطاش إذا صاموا فمع أنّ الصوم ليس بواجب عليهم فمقتضى (وأن تصوموا خيرٌ لكم) صحّة صومهم . وفي الحقيقة فإنّ صاحب الحدائق لا يريد بيان هذه المسألة بشكل عامّ ، وإنّما حكم بالصحّة في مسألة الصوم فقط ، وعندها يستفاد من صاحب الجواهر أنّ الجميع يذهبون في الحقيقة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ قاعدة (لا حرج) مطروحة على أنّها عزيمة وليست رخصة .
ومن صاحب الجواهر (قدس سره) نصل إلى المرحوم العلاّمة النائيني أعلى الله مقامه الشريف ، فقد صرّح بهذا المعنى أيضاً وهو أنّ الغسل والوضوء الحرجي كالغسل والوضوء الضرري ، فكما أنّ الغسل والوضوء الضرري حكمهما البطلان فإنّ الوضوء والغسل الحرجي أيضاً حكمهما البطلان(2) ، ودليله قاعدة (لا حرج) أيضاً ، ولا فرق بينهما ، فإنّ الوضوء والغسل الضرري باطلان في مورد قاعدة (لا ضرر) ، والوضوء والغسل الحرجي أيضاً حكمهما البطلان في مورد قاعدة (لا حرج) ، وسنذكر العلّة والدليل فيما بعد .
وفي قبالهم علماء كبار ذهبوا إلى ما يخالف هذا المعنى ، فصرّحوا بأنّ العبادة الحرجيّة مع أنّها غير واجبة فانّها لم تفقد مشروعيّتها ، ولم تفقد الصحّة ، ومن هؤلاء العلماء الذين صرّحوا بالصحّة في هذا الخصوص المرحوم المحقّق الهمداني
- 1 . الحدائق 13: 421 ، (ط) مؤسسة النشر الإسلامي .
- 2 . القواعد الفقهية 1: 261 .
(الصفحة 160)
صاحب كتاب (مصباح الفقاهة) ، وهو رجل عظيم جدّاً وفقيه جليل ، فإنّه يصرّح بأنّ قاعدة (لا حرج) إنّما ترفع الإلزام فقط والتكليف ، وأ مّا الصحّة والمشروعيّة والمقرّبية فلا تزال محفوظة ، والعبادة التي تتحقّق عن حرج تتّصف بالصحّة(1) .
والمرحوم السيّد صاحب العروة يصرّح بهذا المعنى في كتاب العروة في مسألة الوضوء والغسل(2) ، وطبعاً فإنّه يفرّق بين الوضوء والغسل الضرريّان ، والوضوء والغسل الحرجيّان ، ويقول: بأنّ الوضوء والغسل الضرريّين باطلان ، وأ مّا الوضوء والغسل الحرجيان فيقعان صحيحان وإن كان يوجد فيهما احتياط ، إلاّ انّه احتياط استحبابي ، فلو ارتكب شخص الوضوء والغسل الحرجيين ، فعليه أن يحتاط ويتيمّم بعدهما ، ولا يكتفي بالوضوء والغسل الحرجيين ، فقد طرح الاحتياط بشكل استحبابي .
ومن العلماء الذين حكموا بصحّة العبادة المرحوم البجنوردي (قدس سره) في كتابه (القواعد الفقهيّة) فإنّه يُصرّ أيضاً على هذا المعنى وهو أ نّ العبادة الحرجيّة تتصّف بالصحّة ، وأ نّ قاعدة (لا حرج) لاتنفي الصحّة ولا تنفي المشروعيّة(3) .
إذن نحن أمام هاتين الطائفتين ، وكلاهما من العلماء الكبار والفقهاء الشامخين ، حكم فريق ببطلان العبادة الحرجيّة ، وحكم الفريق الآخر بصحّتها . وعلينا أوّلاً أن ننظر إجمالاً إلى مفاد قاعدة (لا حرج) ، وبعد ذلك نرى ما هي الطرق التي أرادوا استفادة البطلان من خلالها ، ثمّ نرى هل أنّ هذه الطرق صحيحة وبإمكان الإنسان أن يصل إلى بطلان العبادة الحرجيّة من خلالها ، أو لا؟
نقول مقدّمةً: إنّ مفاد قاعدة (لا حرج) كما اتّضح من البحوث المتقدّمة ،
- 1 . مصباح الفقيه 1: 477 .
- 2 . العروة الوثقى 1: 151 .
- 3 . القواعد الفقهيّة 1: 261 .
(الصفحة 161)
بلحاظ وجود كلمة (على) في الآية وبلحاظ كون كلمة (حرج) صفة للتكليف بالنحو الذي قلناه ، هو أ نّ الله لم يجعل عليكم تكليفاً إلزاميّاً حرجيّاً ، فإذن قاعدة (لا حرج) تنفي الإلزام والوجوب والتكليف الحرجي .
ومن جهة اُخرى فإنّ القاعدة كما يستفاد من الآية نفسها ، ويستفاد أيضاً من الروايات واردة في مقام الإمتنان ، ومنشأ هذه القاعدة ومستندها هي المنّة التي تفضّل بها الله تعالى على الاُمّة الإسلاميّة ، وعندها إذا جعلنا هذين الإثنين إلى جانب بعضهما ، فمن جهة نشاهد ظهور (لا حرج) في نفي الإلزام والوجوب ، ومن جهة اُخرى فإنّ منشأ هذه القاعدة عبارة عن الإمتنان على الاُمّة ، فماذا يقتضي الإمتنان على الاُمّة والمسلمين؟
إنّ الإمتنان يقتضي أن نقول: إنّ الصوم الحرجي غير واجب ، ولا نجعلك أيّها المسلم تقع في حرج من ناحية التكليف بالصوم ، فلا يجب عليك الصوم ، ولا يقتضي أنّ هذا المسلم المسكين إذا صام من شدّة الورع والإحتياط والتعبّد أن يكون عمله هذا باطلاً ، إذ أنّ بطلان هذا العمل لايتناسب مع الإمتنان ، إنّ الإمتنان يجري فقط في حدود نفي اللزوم ، أمّا أنّه علاوة على نفي اللزوم يقوم أيضاً بنفي المشروعية والمقرّبية والصحّة ، فإنّه لايتناسب أصلاً مع المنّة .
والآن لابدّ من الإلتفات إلى الأدلّة التي ذكرها هؤلاء ، فإذا لم تكن هذه الأدلّة سليمة وبقينا نحن ومفاد (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وأنّه وارد في مقام الإمتنان على الاُمّة ، فلازم ذلك هو أنّ العبادة الحرجيّة تقع صحيحة ، وفيها مشروعيّة ومقرّبية ، خاصّة وقد سمعت (أ نّ أفضل الأعمال أحمزها) فيستبعد أنّ الشخص الذي يصوم بشكل اعتيادي يكون صومه صحيحاً ، وأمّا الذي يأتي ويتحمّل الحرج فيقال له: إنّ صومك باطل ، إنّه مستبعد جدّاً ، علاوة على أنّه خلاف ظاهر الدليل ، إلاّ أنّ هذا ليس كافياً ، فلابدّ لنا أوّلاً أن نلاحظ أدلّة القائلين
(الصفحة 162)
بالبطلان ، فإذا أمكننا الإجابة عنها ، عندها يمكننا الأخذ بهذا الظاهر ونقول بصحّة العبادة الحرجيّة .
أدلّة القائلين بالبطلان:
الدليل الأوّل خلاصة ما أفاده المرحوم المحقّق النائيني مع توضيح مختصر انّه قال: ماهو الفرق بين قاعدة (لا ضرر) وبين قاعدة (لا حرج)؟ وفسّر (لا ضرر) بأنّه لم يُشرّع في الإسلام حكم ضرري ، إلاّ أنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) يرد على شكل دليل حاكم ، والدليل الحاكم وظيفته التفسير والتبيين والنظر إلى الدليل المحكوم ، وأمّا باطنه فإنّه يضيّق وأحياناً يوسّع ، فهنا الدليل الحاكم يقوم بتضييق دائرة الدليل المحكوم ، ويقول: إنّ آية الوضوء لغير مورد الحرج ، وعندما نضع (ما جعل عليكم في الدين من حرج) إلى جنب آية الصوم نستفيد أ نّه لو كان في وجوب الصوم حرج على شخص فإنّ الوجوب غير مجعول أصلاً من قبل الشارع ، وإن كانت الآية (كتب عليكم الصيام) تشمل من ناحية الدلالة والإرادة الإستعمالية حتّى المورد الحرجي ، إلاّ إنّه حينما تطرح مسألة المراد الجدّي نفهم من (ما جعل عليكم في الدين من حرج) أنّ الصوم لا يتعلّق بذمّة من كان الصوم حرجيّاً له ، وفي الحقيقة نفس المسألة التي تجرونها في التخصيص تجري هنا أيضاً وإن كان اللسان لسان الحكومة ، إلاّ إنّها تعود بالتحليل إلى التخصيص والتقييد ، فكيف تتعاملون مع موارد التخصيص والتقييد؟
عندما يقول أحد الدليلين: (أكرم كلّ عالم) والآخر يقول: (لا تكرم زيداً العالم) فبضمّ الدليل المخصّص إلى جانب الدليل العامّ يتّضح أنّ زيداً لم يتّصف بوجوب الإكرام من البداية حتى لو كان في دليل الإكرام بحسب الإرادة الاستعماليّة عموم . وهكذا الحكم في مسألة الإطلاق والتقييد فلو قال أحد الدليلين: (أعتق رقبة)