(الصفحة 161)
بلحاظ وجود كلمة (على) في الآية وبلحاظ كون كلمة (حرج) صفة للتكليف بالنحو الذي قلناه ، هو أ نّ الله لم يجعل عليكم تكليفاً إلزاميّاً حرجيّاً ، فإذن قاعدة (لا حرج) تنفي الإلزام والوجوب والتكليف الحرجي .
ومن جهة اُخرى فإنّ القاعدة كما يستفاد من الآية نفسها ، ويستفاد أيضاً من الروايات واردة في مقام الإمتنان ، ومنشأ هذه القاعدة ومستندها هي المنّة التي تفضّل بها الله تعالى على الاُمّة الإسلاميّة ، وعندها إذا جعلنا هذين الإثنين إلى جانب بعضهما ، فمن جهة نشاهد ظهور (لا حرج) في نفي الإلزام والوجوب ، ومن جهة اُخرى فإنّ منشأ هذه القاعدة عبارة عن الإمتنان على الاُمّة ، فماذا يقتضي الإمتنان على الاُمّة والمسلمين؟
إنّ الإمتنان يقتضي أن نقول: إنّ الصوم الحرجي غير واجب ، ولا نجعلك أيّها المسلم تقع في حرج من ناحية التكليف بالصوم ، فلا يجب عليك الصوم ، ولا يقتضي أنّ هذا المسلم المسكين إذا صام من شدّة الورع والإحتياط والتعبّد أن يكون عمله هذا باطلاً ، إذ أنّ بطلان هذا العمل لايتناسب مع الإمتنان ، إنّ الإمتنان يجري فقط في حدود نفي اللزوم ، أمّا أنّه علاوة على نفي اللزوم يقوم أيضاً بنفي المشروعية والمقرّبية والصحّة ، فإنّه لايتناسب أصلاً مع المنّة .
والآن لابدّ من الإلتفات إلى الأدلّة التي ذكرها هؤلاء ، فإذا لم تكن هذه الأدلّة سليمة وبقينا نحن ومفاد (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وأنّه وارد في مقام الإمتنان على الاُمّة ، فلازم ذلك هو أنّ العبادة الحرجيّة تقع صحيحة ، وفيها مشروعيّة ومقرّبية ، خاصّة وقد سمعت (أ نّ أفضل الأعمال أحمزها) فيستبعد أنّ الشخص الذي يصوم بشكل اعتيادي يكون صومه صحيحاً ، وأمّا الذي يأتي ويتحمّل الحرج فيقال له: إنّ صومك باطل ، إنّه مستبعد جدّاً ، علاوة على أنّه خلاف ظاهر الدليل ، إلاّ أنّ هذا ليس كافياً ، فلابدّ لنا أوّلاً أن نلاحظ أدلّة القائلين
(الصفحة 162)
بالبطلان ، فإذا أمكننا الإجابة عنها ، عندها يمكننا الأخذ بهذا الظاهر ونقول بصحّة العبادة الحرجيّة .
أدلّة القائلين بالبطلان:
الدليل الأوّل خلاصة ما أفاده المرحوم المحقّق النائيني مع توضيح مختصر انّه قال: ماهو الفرق بين قاعدة (لا ضرر) وبين قاعدة (لا حرج)؟ وفسّر (لا ضرر) بأنّه لم يُشرّع في الإسلام حكم ضرري ، إلاّ أنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) يرد على شكل دليل حاكم ، والدليل الحاكم وظيفته التفسير والتبيين والنظر إلى الدليل المحكوم ، وأمّا باطنه فإنّه يضيّق وأحياناً يوسّع ، فهنا الدليل الحاكم يقوم بتضييق دائرة الدليل المحكوم ، ويقول: إنّ آية الوضوء لغير مورد الحرج ، وعندما نضع (ما جعل عليكم في الدين من حرج) إلى جنب آية الصوم نستفيد أ نّه لو كان في وجوب الصوم حرج على شخص فإنّ الوجوب غير مجعول أصلاً من قبل الشارع ، وإن كانت الآية (كتب عليكم الصيام) تشمل من ناحية الدلالة والإرادة الإستعمالية حتّى المورد الحرجي ، إلاّ إنّه حينما تطرح مسألة المراد الجدّي نفهم من (ما جعل عليكم في الدين من حرج) أنّ الصوم لا يتعلّق بذمّة من كان الصوم حرجيّاً له ، وفي الحقيقة نفس المسألة التي تجرونها في التخصيص تجري هنا أيضاً وإن كان اللسان لسان الحكومة ، إلاّ إنّها تعود بالتحليل إلى التخصيص والتقييد ، فكيف تتعاملون مع موارد التخصيص والتقييد؟
عندما يقول أحد الدليلين: (أكرم كلّ عالم) والآخر يقول: (لا تكرم زيداً العالم) فبضمّ الدليل المخصّص إلى جانب الدليل العامّ يتّضح أنّ زيداً لم يتّصف بوجوب الإكرام من البداية حتى لو كان في دليل الإكرام بحسب الإرادة الاستعماليّة عموم . وهكذا الحكم في مسألة الإطلاق والتقييد فلو قال أحد الدليلين: (أعتق رقبة)
(الصفحة 163)
كدليل مطلق ، والآخر يقول: (لا تعتق رقبة كافرة) فحينما نضع هذا الدليل المقيّد إلى جانب الدليل المطلق ، لا يمكن أن نستنتج من البداية أنّ الواجب هو عتق كلّ رقبة ، بل أراد من الأوّل جعل وجوب متعلّق (بالرقبة غير الكافرة) ، وأمّا العنوان المطلق فاستخدمه فقط في الإرادة الإستعمالية لا في الإرادة الجدّية .
ففي الأدلّة الحاكمة التي تقتضي التضييق ، من قبيل قاعدة (لا حرج) في قبال الأدلّة الأوّليّة يرد هذا المعنى أيضاً وإن كان اللسان لسان الحكومة لا التخصيص أو التقييد ، إلاّ أنّه في النتيجة يجري نفس معنى التخصيص والتقييد ، فنحن من خلال وجود قاعدة لا حرج نستفيد من البداية عدم جعل وجوب الوضوء الحرجي ، وانّه من الأوّل لم يقع وجوب الصوم الحرجي متعلّقاً للجعل ، وكذلك بالنسبة إلى سائر الأحكام ، وعندها يقول المرحوم المحقّق النائيني : إنّه كما قلنا في قاعدة (لا ضرر) أ نّها حاكمة على الأدلّة الأوّليّة ، ومع أنّ مفاد (لا ضرر) نفس مفاد (لا حرج) فلسانهما واحد ، هذا يقول: لم يجعل حكم حرجي ، وهذا يقول: لم يجعل حكم ضرري ، فالفرق بينهما فقط في الحرجيّة والضرريّة ، وأمّا لسانهما فواحد ، وكلاهما في مرتبة واحدة ، وكلاهما حاكم على الأدلّة الأوّليّة والمطلقات والعمومات ، ويقول (رحمه الله): كيف نحكم بالبطلان في باب الوضوء والغسل الضرريّين ، ولا نحكم بالبطلان في الصور الحرجيّة ، فما الفرق بينهما؟
وطبعاً هناك في باب الوضوء والغسل الضرريين نكتة لابدّ من الإلتفات إليها ، وقد إلتفت إلى هذه النكتة المرحوم السيّد صاحب العروة ، وهو أنّ المراد من الوضوء والغسل الضرريّين أن يكون الوضوء بنفسه ضرريّاً لا مقدّماته ، فلم يقل أحد بأنّ الشخص المسكين الذي باع فراش بيته وأشترى ماء وتوضّأ به: إنّ وضوءه باطل ، لأنّه وضوء ضرري ، كلاّ فإنّ المراد من الوضوء الضرري هو ما كان في نفس أعمال الوضوء ضرر ، مثل من يكون الماء مضرّاً به ضرراً جسميّاً ، فهنا
(الصفحة 164)
أفتى المرحوم السيّد (قدس سره) ، بل المشهور في الوضوء والغسل الضرريّين بالبطلان ، وعندها يستفيد المرحوم المحقّق النائيني (قدس سره) من هذه المقايسة ويقول: نحن لم نفهم ما هو الفرق بين قاعدة (لا ضرر) وقاعدة (لا حرج) ، فإذا كان الوضوء والغسل الضرريان موجبين للبطلان كما أفتى به المشهور ظاهراً ، فإنّ الوضوء والغسل الحرجيّين فيهما نفس الملاك والمناط ، فلابدّ أن يحكم عليهما بالبطلان أيضاً .
الجواب على دليل المحقّق النائيني:
هذا هو الطريق الذي سلكه المحقّق النائيني ، ولكن أشكل عليه ، وفي الحقيقة اُجيب من نفس هذه المقايسة ، وهو: إنّنا لماذا نحكم ببطلان الوضوء والغسل الضرريين؟ لأنّ الإضرار بالنفس أحد المحرّمات ، وطبعاً فإنّ للإضرار بالنفس مراتب ، فلو لم تكن بأجمعها حرام ، فإنّ تلك المرتبة التي ترفع وجوب الوضوء هي رفع في مورد الإضرار المحرّم ، أمّا إذا كان في الوضوء ضرر جزئي ، وقد أفترضنا أ نّ هذا المقدار من الضرر لا حرمة فيه ، فهنا لم يرفع وجوب الوضوء ، فإنّ وجوب الوضوء فيما يتعلّق بالإضرار يدور مدار الإضرار المحرّم ، فكلّما اتّصف الإضرار بالحرمة يرتفع وجوب الوضوء ، فإذا كان الإضرار محرّماً فإنّ الحرمة لا تتناسب مع العباديّة ، والمحرّم الذي هو مبغوض للمولى وما يبعّد عن المولى لا يمكنه أن يكون مقرّباً إلى المولى بوصفه عبادةً ، ويكون فيها ملاك العبادة ، لذا فنحن في الوضوء الضرري نحكم بالبطلان لحرمة الإضرار .
وأ مّا في باب الوضوء الحرجي ، فهل هو حرام؟ وهل لدينا دليل على حرمة تحمّل الحرج؟ إذا كان كذلك فقد قلنا في باب المستحبّات: إنّ لدينا الكثير من المستحبّات الحرجيّة ، فصيام السنة بأجمعها ماعدا العيدين مستحبّ ، ولو كان واجباً لكان حرجيّاً ، إلاّ إنّه مادام بنحو الإستحباب ، فلا منافاة بين الحرجيّة
(الصفحة 165)
والإستحباب ، فإذا كان تحمّل الحرج حراماً ، فكيف يمكن أ نّ يتّصف بالإستحباب؟ وكيف يعقل أن يكون الأمر المحرّم مستحبّاً وراجحاً شرعاً؟ فمن هنا نفهم أن تحمّل الحرج لا يتّصف بالحرمة أبداً ، ولا يوجد فيه أيّ عنوان للمبغوضيّة والمبعديّة .
ومن هنا يفترق الوضوء الحرجي عن الوضوء الضرري ، إذ في الوضوء ترد مسألة حرمة الإضرار وعدم إجتماع الحرمة مع العباديّة ، وأمّا في الوضوء الحرجي فلا يرد هذا المعنى أبداً ، فلذا فقياس الوضوء والغسل الحرجيّين على الوضوء والغسل الضرريّين باطل .
جواب آخر على دليل المحقّق النائيني:
ونحن ضمن قبولنا لهذا الجواب ندّعي علاوةً على ذلك أنّنا لا نرتضي أساساً كون الوضوء والغسل الضرريّان باطلين ، حتّى وإن كان الإضرار فيهما من نوع الإضرار المحرّم ، فمع ذلك نقول بصحّة هذا الوضوء ، لماذا؟ لما اعتقدناه في مسألة إجتماع الأمر والنهي ، وهو أنّ متعلّق الحرمة غير متعلّق الأمر العبادي ، ومغاير لذلك الشيء الذي تعلّقت به المقربيّة ، أي يوجد هنا عنوانان:
أحدهما: عنوان الإضرار بالنفس ، ولا ربط للإضرار بالنفس مع الوضوء ، فإنّك لو أجريت الماء على يدك لا بنيّة الوضوء ، أو صببت الماء على جسمك لا بنيّة الغسل أيضاً يتحقّق الإضرار ، فإنّ الإضرار لا دخل له بالوضوء ، وإنّما هو نتيجة ملامسة الماء البارد للجسم ، بأيّ كيفية كانت هذه الملامسة ، لذا يوجد لدينا هنا عنوان باعتبار الإضرار بالنفس ، وعنوان آخر وهو عبارة عن الوضوء ، والوضوء
|