(الصفحة 172)
أ نّ كلّ واجب فيه مصلحة تامّة ، فإذن هناك أمر خارجي نضمّه إلى هذا الدليل ، فإنّ دلالة الدليل على وجوب الصوم تطرح بعنوان أنّها دلالة أصليّة ، ودلالته على المصلحة تطرح بعنوان أنّها دلالة تبعيّة وفرعيّة .
ولكنّ الصحيح أنّه إذا جاءت قاعدة (لا حرج) وحذفت مقداراً من الدلالة الأصليّة وقالت: لا تحقّق للوجوب في حالة الحرج ، فمن أين لنا حينئذ أن نحصل على مسألة المصلحة في العبادة الحرجيّة؟ فنحن عن طريق الوجوب نفهم على أنّ كلّ واجب يشتمل على المصلحة ، ولكن قد قامت قاعدة (لا حرج) وقالت إنّه لا وجوب في الأمر الحرجي من الأساس ، فإذا لم يكن هناك وجوب فمن أين نحصل على وجود المصلحة؟
وهكذا في المقارنة بين الخبرين المتعارضين ، فالمسألة أيضاً محلّ خلاف ، فإنّ المحقّق النائيني لايرتضي ذلك أيضاً ، فإنّه لا يقول: إذا تساقطت الروايتان بالتعارض تبقى الحجيّة محفوظة بالنسبة إلى نفي الثالث ، بل يقول بسقوط كلا الدليلين المطابقي والإلتزامي .
وثانياً: لو فرضنا أ نّنا سلّمنا بقاء الحجيّة بالنسبة إلى نفي الثالث في الخبرين المتعارضين ، إلاّ إنّ الفرق بين المسألتين; أ نّ المسألة هناك مسألة عقليّة ونريد فيها أن نرى كيف يتعامل العقل مع الخبرين المتعارضين؟ وطبعاً يقوم العقل بالتجزئة والتحليل ، فالعقل محلّل ، فيأتي هناك ويقول: إنّ نزاع هذين الخبرين قائم في المدلول المطابقي ، فلابدّ أن يتساقطا ، وأ مّا في المدلول الإلتزامي فلا نزاع بينهما ، فلا داعي إلى تساقطهما ، لأنّ المسألة مسألة عقلية .
أمّا فيما نحن فيه فليست المسألة مسألة العقل ، وإنّما المسألة هي لسان قاعدة نفي الحرج في قبال دليل وجوب الصوم ، ولا مجال للعقل هنا حتّى نقول: لو أدرك العقل من الأوّل أنّ الصوم الحرجي فيه مصلحة فلا حاجة لنا بهذه البحوث . إلاّ
(الصفحة 173)
أنّنا نفترض أ نّ عقلنا لم يتوصّل إلى إدراك شيء ، فعلينا أن نستفيد حكم المسألة من هذه الأدلّة ، فإنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) يقول : إنّ الصوم الحرجي لم يُجعل من البداية ، فكيف علمنا بأنّ الحرجي يشتمل على المصلحة؟ خاصّة مع وجود المؤيّد الذي ذكرته ، وهو أنّ في آية الصوم نفسها تجري (لا يريد بكم العسر) الذي هو عبارة عن قاعدة نفي الحرج عن المسافر ، في حين أ نّه لا توجد مصلحة في صوم المسافر حتّى بمقدار رأس الإبرة ، وإنّما صومه محكوم بالبطلان .
نتيجة البحث
فعليه رغم إنّني فكّرت طويلاً في المسألة من أجل العثور على طريق مطمئنّ لاكتشاف الملاك ووجود المصلحة في العبادات الحرجيّة ، إلاّ أنّني لم أجد مثل هذا الطريق ، بل علاوة على ذلك توجد مؤيّدات اُخرى أيضاً ، فمن جملة المؤيّدات أ نّنا إلى الآن لم يطرق أسماعنا ممّا سمعناه أو شاهدنا وقرأناه من أن الإنسان حينما يريد أن يصلّي فعليه إمّا أن يتوضّأ أو يتيمّم ولا وجود لشيء ثالث ، فقد يستفيد الإنسان هذا المعنى من آية الوضوء ، في حين أ نّنا لو قلنا بصحّة الوضوء الحرجي ، فلازم ذلك من الناحية العلميّة أن يكون مخيّراً ، فإذا شاء توضّأ وصلّى ، وإذا لم يشأ يتيمّم ويصلّي عن تيمّم ، وقلنا في الواجبات التخييرية: إذا كان أحد أطراف الواجب التخييري حرجيّاً فلا يوجد إشكال ، ويكون كالمستحبّ الحرجي ، ويكون مخيّراً بين الوضوء والتيمّم .
وإذا قلت: لدينا دليل على عدم وجود الوجوب التخييري ، فنقول: ضع آية (لا حرج) إلى جانب (آية الوضوء) يتولّد عندنا الوجوب التخييري ، وما هو الإشكال في أن يكون الوجوب تخييريّاً؟ فإنّ الحرجيّة تنفي التعيين إلاّ أنّها لا تنفي التخيير ، فحينئذ لابدّ أن نلتزم في مورد العبادات الحرجيّة (طبعاً ليس في كلّ
(الصفحة 174)
العبادات الحرجية فإنّ هذا الكلام لايجري في الصوم وإنّما يجري في مسألة الوضوء والتيمّم ، والغُسل والتيمّم) أ نّ المسألة تطرح بعنوان الواجب التخييري: (أيّها المكلّف إمّا يجب عليك الوضوء مع كونه حرجيّاً ، وامّا عليك التيمّم) ولا مانع من أن يكون أحد أطراف الواجب التخييري حرجيّاً .
ولكن هل يمكننا أن نلتزم بهذا المعنى؟ وهل نستطيع أن نقول فيما يتعلّق بمثل هذا الشخص : إنّ مسألة الوضوء والتيمّم تطرح بعنوان الواجب التخييري؟ طبعاً ليس لدينا دليل عقلي على خلافه ، إلاّ إنّه في ذهننا بما أ نّنا متشرعة ونتناول شؤون الفقه ، نستبعد في الجملة أ نّ مسألة الوضوء والتيمّم مع كونهما في طول الآخر أن يكونا في مورد في عرض بعضهما وعلى هيئة الواجب التخييري ، لذا يبدو في نظري ـ ولا أقطع بهذا المعنى ـ إنّني لم أجد طريقاً لتصحيح العبادة الحرجيّة بحسب ما يستفاد من الأدلّة ، فبناءً على القاعدة فإنّ العبادات الحرجيّة محكومة بالبطلان .
بقي بحث أو بحثان في قاعدة (لا حرج) نبحثهما بشكل مختصر .
التعارض بين «لا ضرر» و «لا حرج»
أحدهما: إذا تعارضت قاعدة (لا حرج) مع قاعدة (لا ضرر) وطبعاً هذا البحث نبيّنه على المعنى الذي بيّنه المرحوم الشيخ في قاعدة (لا ضرر) ، أو المعنى الذي أفاده المرحوم الآخوند في قاعدة (لا ضرر) ، وأ مّا على بيان المرحوم شيخ الشريعة الأصفهاني أعلى الله مقامه ، أو على بيان الاُستاذ الأعلم الإمام مدّ ظلّه العالي فلا يرد هذا البحث ، وإنّما يرد على المبنى الذي يفسّر (لا ضرر) كما يفسّر (لا حرج) ويرى شأنهما واحداً ، أي كما أ نّ (لا حرج) يطرح كدليل حاكم في قبال الأدلّة الأوّليّة فكذلك ، (لا ضرر) أيضاً يطرح بعنوان أ نّه دليل حاكم في قبال الأدلّة الأوّليّة ، غاية الفرق بينهما أ نّ هذا ينفي التكليف الحرجيّ ، وذلك ينفي
(الصفحة 175)
التكليف الضرريّ ، فهما يختلفان في عنوان الضرر والحرج ، وأمّا من حيث الدرجة والمرتبة فكلاهما حاكم ومتقدّم على الأدلّة الأوّليّة .
إنّ مبنى المرحوم الشيخ والمرحوم الآخوند (قدس سره) هو في الحقيقة مبنى المشهور في (لا ضرر) ، وأمّا بيان المرحوم الشريعة الأصفهاني وبيان الإمام مدّ ظله العالي فمنحصر بهما ، أي على خلاف نظريّة المشهور في قاعدة (لا ضرر) .
فالآن لو حصل تعارض ـ بناء على نظريّة المشهور ـ بين قاعدة (لا ضرر) و (لا حرج) في مورد ، ومثاله أن نفرض أنّ الإنسان لو احتاج احتياجاً مبرماً في أن يحدث بالوعة ، وإحداث مثل هذه البالوعة أضرّ بجاره بشكل مباشر ، فهنا تجويز إحداث البالوعة بناءً على قاعدة (الناس مسلّطون على أموالهم) يؤدّي إلى تضرّر الجار بشكل كامل ، كما أنّ في منعه من حفر البالوعة حرج عليه ، فإنّه سيضطرّ إلى حمل الفضلات إلى خارج بيته باستمرار وإلقائها في محلّ بعيد ، وهذا فيه حرج وضيق واضح . فهنا يتحقّق التعارض بين قاعدة (لا حرج) وقاعدة (لا ضرر) ، فإنّ قاعدة لا ضرر تقف إلى جانب الجار ، وبعنوان أ نّها حاكمة على (الناس مسلّطون على أموالهم) تقف بوجه تسلّط المالك على ماله وتمنعه من حفر البالوعة ، ومن جهة اُخرى فإنّ منع المالك من التصرّف في ماله مع حاجته المبرمة للبالوعة فيه أيضاً حرج شديد عليه ، فتأتي قاعدة (لا حرج) وتجيز له ذلك .
يقول المرحوم الشيخ في كتاب الرسائل في أواخر بحث قاعدة (لا ضرر) نحن لابدّ أن نعطي الحقّ إلى المالك ، لأنّ قاعدة (لا ضرر) وقاعدة (لا حرج) كدليلين حاكمين وفي مرتبة واحدة ، فبين هذين الدليلين الحاكمين تتحقّق المعارضة ، وعندما تقع المعارضة بينهما يتساقطان مع كونهما في مرتبة واحدة ، فإذا تساقطا يبقى الدليل المحكوم باقياً على حاله ، والدليل المحكوم هو (الناس مسلّطون على أموالهم) وهذا يجيز للمالك أن يحفر بالوعة في ملكه ، إذ لا يوجد دليل حاكم في قبال
(الصفحة 176)
(الناس مسلّطون على أموالهم) .
إلاّ أ نّ المرحوم الشيخ (قدس سره) يطرح طريقاً آخر وهو أ نّه من الممكن أن نقول: إنّ قاعدة (لا حرج) فيها حكومة على قاعدة (لا ضرر) ، فكما أنّ قاعدة (لا حرج) حاكمة على الأدلّة الأوّليّة فهي حاكمة أيضاً على قاعدة (لا ضرر) ، فلو فرضنا صحّة هذه الحكومة ، فإنّ قاعدة (لا حرج) تجري هنا ، ونسمح للمالك أن يحفر البالوعة .
إلاّ أنّ البحث أ نّه من أين جاء إحتمال الحكومة هذا؟ وما هو منشؤه؟ وهل بإمكاننا ـ حتّى كإحتمال ـ أن نجعل قاعدة (لا حرج) حاكمة على قاعدة (لا ضرر) ، أو أنّه لا يوجد أصلاً محلّ لمثل هذا الإحتمال؟ إذا فسّرنا (لا ضرر) كما فسّرها الشريعة الأصفهاني من أنّ (لا ضرر) مطروح بعنوان أ نّه دليل للحكم الأوّلي ، وأ نّ (لا ضرر في الإسلام) مثل (لا تشرب الخمر) يطرح كحكم أوّلي ، فإذن يصحّ لقائل أن يقول: إنّ قاعدة (لا حرج) كدليل حاكم على سائر الأدلّة الأوّليّة ، يتقدّم على قاعدة (لا ضرر) ، إلاّ أنّ الشيخ لايقول بهذا المبنى ، لأنّ (لا ضرر) و (لا حرج) في عرض واحد ، لا بتلك الكيفيّة التي طرحها المرحوم الشريعة الأصفهاني .
عندها نقول للشيخ: ما هو المنشأ لإحتمال حكومة (لا حرج) على (لا ضرر)؟ ليس بإمكاننا أن نذكر أيّ منشأ لهذا الإحتمال ، وإذا أردنا توضيحاً أكثر في هذا الخصوص نذكر كلام المرحوم المحقّق النائيني (الذي له أيضاً رسالة في موضوع «لا ضرر») وقد كتبها بنفسه ، بقلمه ظاهراً ، وفيها عندما يذكر خلاصة إشكاله على المرحوم الشيخ يقول: إنّ كلام الشيخ مبتن على مقدّمتين ، كلتاهما باطلتين وفاسدتين ، فإحدى المقدّمتين هي: أنّنا أصلاً لايمكننا أن نتصوّر التعارض بين قاعدة (لا حرج) و (لا ضرر) ، لماذا؟ يقول: لأنّ قاعدة (لا ضرر) تخبر عن نفي الحكم ، فإذا أراد شيء أن يعارض الدليل النافي ، فلابدّ أن يقوم هذا المعارض
|