(الصفحة 185)
والمهم توضيح هذه الغاية ومن المؤسف أ نّ أكثر الكتب التي اُلّفت في توضيح آيات الأحكام وبعض التفاسير التي راجعتها لم أجد توضيحاً وافياً بالنسبة إلى هذه الغاية مع إنّ ثمرة مهمة فقهيّة تترتّب على هذه الفقرة وقبل توضيح هذه الغاية نقدم مقدّمة عبّر عن هذه المقدّمة في بعض الكتب بعنوان «الضابطة» .
الضابطة: وهو أنّ العناوين والمفاهيم المأخوذة في موضوعات الأحكام وخصوصيات الأحكام ظاهرة في الفعلية أو لا .
مثال ذلك أنّه إذا قال الشارع في دليل: «الماء المتغيّر نجس» أو قال الفقهاء في الرسائل العملية أو الكتب الفقهية: «إذا تغيّر الماء الطاهر أحد أوصافه الثلاثة ـ اللون والرائحة والطعم ـ بملاقاة نجس العين يصير نجساً ولو كان الماء عشرة اكرار» . فما المراد بالتغير ، هل التغير فعلي وتحقيقي بمعنى أنّه إذا تغير رائحته يستشمّ منه الرائحة بالفعل وإذا تغير لونه يرى تغيره كالدم الذي اُريق في الكرّين من الماء وصار الماء أحمر أو أنّ المراد بالتغيّر هو الأعم من الفعلي والتقديري كما إذا اُرِيقَتْ مادة كيمياوية في الماء ثمّ اريق دم كثير فيه بنحو لو لم تكن تلك المادة في الماء لتغيّر لونه ، هل هو نجس أو لا .
يذكر المحققون هنا تلك الضابطة ويقولون ظاهر العنوان المأخوذ في موضوع الدليل الفعلية أيّ الماء المتغيّر بالفعل ، ففي المثال لا يحكم بالنجاسة لأنّ التغير هنا «تقديرى» أو «لولائي» بمعنى أنّه لولا المادة لأثّر الدم في الماء لكنّها مانعة عن التغيّر بالفعل .
واستثنى الفقهاء من هذه القاعدة عنوان العلم واليقين وأمثال ذلك فإنّه إذا أخذ في الدليل فلا موضوعية له بل هو طريق إلى الواقع كقوله «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنه نجس» .
أو «كلّ شيء شكّ في طهارته ونجاسته فهو طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» .
(الصفحة 186)
ولا خصوصية لعنوان العلم بل يجوز قيام البيّنة مقامه فيثبت بها نجاسة الشيء أيضاً وهكذا يجوز قيام الاستصحاب مقام العلم فيثبت به نجاسة الشيء أيضاً . وهكذا يجوز قيام أخبار ذي اليد مقامه كما إذا أخبر صاحب البيت بأنّ هذه السجادة نجسة فيثبت بأخباره نجاستها وإخباره حجّة ولو لم تحصل مظّنة أو علم بالنجاسة .
فتحصل أن هنا ضابطتين الأولى بالنسبة إلى المستثنى منه وهي إنّ موضوعات الأحكام ظاهرة في الفعلية ولعناوين الموضوعات خصوصيّة وموضوعيّة .
والثانية بالنسبة إلى المستثنى وهو عنوان العلم واليقين وأمثال ذلك كالتبيّن ولا خصوصيّة عرفاً لهذه العناوين ولذا يجوز قيام غيره كالأمارة والأصل مقامه .
ثمّ إذا اتضح هاتان الضابطتان نرجع إلى قوله تعالى:
(كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الاَْبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الاَْسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ)فنقول:
أوّلاً: أنّ الخيط الأبيض هو الفجر الصادق الذي يشبه الخيط لقلّة عرضه وهو بنحو أفقي في السماء ويتزايد شيئاً فشيئاً .
وثانياً: أنّ الخيط الأسود عبارة عن الليل وعبّر عنه بالخيط أيضاً لوجهين أمّا للمشاكلة(1) التي من المحسنات البديعية التي ذكرت في المطول والمختصر بمعنى أنه لمّا عبّر عن الفجر بالخيط الأبيض عبّر عن الليل بالخيط الأسود للمشاكلة في التعبير وإمّا للمقايسة بين الخط الأبيض ومايشغل من الليل فإنّ الخيط الأبيض يشغل بمقدار خيط أسود من الليل وأنّه يزول بالخيط الأبيض مثله من السواد وهذا الوجه يمكن استفادته من المجمع بالتأمّل وإن لم أقل أنه يريد ذلك جزماً .
وثالثاً: أنّ قوله «من الفجر» احتمالات ثلاثة: التبعيضية والتبيينية والنشوية
- 1 . قال الخطيب القزويني في تلخيص المفتاح: المشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً (مختصر المعاني ، ص 190) .
(الصفحة 187)
الأوّل أنّه للتبعيض وعلى هذا «من» متعلّق بالخيط الأبيض(1) ومعنى الآية هكذا «حتّى يتبين الخيط الأبيض الذي هو بعض الفجر» والبعضية بحسب شروع الفجر حيث إنّ الفجر الصادق في شروعه كالخيط الأبيض الدقيق وقليل العرض ثمّ بتقرّب الشمس إلى الأفق يصير البياض عريضاً يعترض شيئاً فشيئاً . والإمام الخميني جعل هذا الاحتمال بعيداً عن ظاهر الآية(2) .
والثاني: أنّه للتبيين وفي هذا الفرض احتمالان:
أحدهما: وهو الذي عليه المفسّرون ـ أنّه يُبيّن الخيط الأبيض الّذي هو فاعل «يتبيّن» ونقل أهل التفسير أ نّ عدي بن حاتم بعد نزول الآية توهّم أنّ معناها عدم جواز الأكل والشرب حتّى إذا بلغ بياض السماء إلى حدٍّ يتميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولذا أخذ بيده خيطاً أبيض وخيطاً أسود(3) .
ونقل بعض أنه أخذ عقالين أسود وأبيض ووضعهما تحت فراشه وآخر الليل كان يستيقظ وينظر إليهما ولكنّه لمّا لم يتمكن من التميّز إلاّ بعد مضي زمان كثير من طلوع الفجر راجع النبي ونقل ما فعل فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال (صلى الله عليه وآله) : ليس معنى الآية ما فهمتَ بل المقصود من الخيط الأبيض هو الفجر والنهار والمقصود من الخيط الأسود الليل .
فعلى هذا الاحتمال أعني من للتبيّين وأنّها مبّينة للخيط الأبيض فمعنى الآية هكذا «حتّى يتبّين لكم الخيط الأبيض أيّ الفجر» وبناءً على هذا الاحتمال الفجر
- 1 . مراده الشريف أنّه متعلّق بأحد أفعال العموم مثل «ثابتاً» وهو حال للخيط الأبيض .
- 2 . قال في رسالته الشريفة: «وأمّا جعل «من» تبعيضية فبعيد كما لايخفى» (رسالة في تعيين الفجر ، ص 13 في الليالي المقمرة) ولعلّ وجهه إنّ الفجر هو أول ظهور الضوء وشروعه ولا فرض للكلّ والبعض هنا .
- 3 . قال في المجمع: روى أنّ عدي بن حاتم قال للنبي: إنّي وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود فكنت انظر فيهما فلا يتبين لي فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى رؤيت نواجذه ثمّ قال يابن حاتم إنّما ذلك بياض النهار وسواد الليل (مجمع البيان ، ج 1 ، ص 281 ، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي) .
(الصفحة 188)
شيء والتبين شيء آخر .
وثانيهما: أنّه يبيّن نفس التبين وهذا الاحتمال في كلام الإمام الخميني وجعله ظاهر الآية وكانّ الفجر يبين مجموع الفعل والفاعل والمفعول «يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود» ومعنى الآية أنه يجوز الأكل والشرب حتّى يتبين لكم الخيط الأبيض عن الخيط الأسود وهذا التبين هو الفجر .
والعجب أنه (رحمه الله) لم يذكر الاحتمال الأوّل الذي ذكره المفسرون حتّى بنحو الاحتمال وكأنه التزم بأنّ «من» لو كان للتبيين كانا بياناً للتبين فقط لا غير .
وهذا الاحتمال اساس فتوايه بتأخير الصلاة والصوم هو هذا المطلب فإنه من جهة استبعداحتمال التبعيض ومن جهة اُخرى التزم بكون«من»للتبيين بالمعنى الثاني وإنّ التبين هو الفجر والفجر لم يتحقّق إلاّ بعد غلبة ضوء الشمس على ضوء القمر .
وعلى هذا الاحتمال الفجر عين التبين .
والثالث: أنه للنشوء ـ بمعنى أنّ التبين ناش عن الفجر وهذا الاحتمال في الآية يقول الإمام الخميني (قدس سره) أنه من ابداعاتنا ولم نجده في كلمات المفسرين(1) .
وعلى هذا الاحتمال ، الناشئ أي التبين متأخر عن المنشأ أي الفجر والتبين شيء والفجر شيء آخر ولازم هذا الاحتمال الإلتزام بجواز الأكل والشرب بعد الفجر إلى حصول التبين مع أنه لايمكن الإلتزام بجوازهما بعده ولذا ضعّف هذا الاحتمال(2) .
- 1 . لم يذكر المفسرون هذا الاحتمال وإليك عبارة الطبرسي; في المجمع: «يحتمل «من» معنيين أحدهما أن يكون بمعنى التبعيض لأن المعنى من بعض الفجر وليس الفجر كلّه ، عن ابن دريد والآخَر أنه للتبيين لأنّه بيّن الخيط الأبيض فكأنه قال الخيط الأبيض الذي هو الفجر» (مجمع البيان ، ج 1 ، ص 281 ، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي) .
- 2 . قال: اِنّ جعلها نشوية خلاف الظاهر بل هو احتمال أبديناه والمفسرون جعلوها للتبيين أو التبعيض (رسالة في تعيين الفجر في الليالي المقمرة ، ص 13) .
(الصفحة 189)
وهنا بحث من جهة الحكم الظاهري في إستدامة جواز الأكل والشرب بمقتضى الاستصحاب في ليلة رمضان لمن لم يحرز طلوع الفجر وفي وجوب الإمساك في النهار لمن لم يحرز غروب الشمس وهذا لايرتبط بكلامنا الآن لأنّ كلامنا الآن في الحكم الواقعي لا الحكم الظاهري والرجوع إلى الاستصحاب .
والفجر بنظره الشريف عين التبيّن ولكنّ بناءً على احتمال المفسّرين ، الفجر على نحوين امّا متبيّن وامّا غير متبيّن كما انّ سائر العناوين كالنجاسة أمّا متبيّن سواء كان بالعلم أو البينّة أو غيرهما وامّا غير متبيّن .
لايقال بناء على نظره (رحمه الله) فإذا لم يتفحّص المكلّف عن الفجر لم يحصل التبين والفجر .
لانا نقول: التبين وصف للواقع وانّ له واقعية في الخارج ويحصل في وقته وان لم نُحِقّق عنه وهذا كضوء سراج في غرفة فإنه موجود وإن لم نفتح باب الغرفة ولم نَره الاّ أنّ الذي يأكل السحور ويريد الصوم لابد أن يحقق عنه حتّى لم يقع أكله بعد الفجر .
مُلخّص نظر الإمام الخميني
ومحصّل نظره أنّ من للتبيين لا للتبعيض والنشوء «ومن» بيان لنفس التبين لا الخيط الأبيض وعلى هذا الفجر عبارة عن تبين الخيطين وتميزهما وفي الليالي المقمرة يقهر نور القمر على بياض الفجر بواسطة أصل وجود القمر أولاً وبواسطة قربه من الاُفق الشرقي ثانياً . وذلك حيث إنّ ضوء القمر شديد ويمنع عن تبين البياض في أوائل طلوع بياض الفجر وحينما تقرب الشمس من الاُفق وينبسط الخيط الأبيض يتفوّق البياض على ضوء القمر ولايتحقّق التبين بحسب الواقع أصلاً إلاّ أنّه يتحقق واقعاً ولكنّه مستور بالنسبة إلينا وهذا مثل السراج الذي نوره