(الصفحة 187)
الأوّل أنّه للتبعيض وعلى هذا «من» متعلّق بالخيط الأبيض(1) ومعنى الآية هكذا «حتّى يتبين الخيط الأبيض الذي هو بعض الفجر» والبعضية بحسب شروع الفجر حيث إنّ الفجر الصادق في شروعه كالخيط الأبيض الدقيق وقليل العرض ثمّ بتقرّب الشمس إلى الأفق يصير البياض عريضاً يعترض شيئاً فشيئاً . والإمام الخميني جعل هذا الاحتمال بعيداً عن ظاهر الآية(2) .
والثاني: أنّه للتبيين وفي هذا الفرض احتمالان:
أحدهما: وهو الذي عليه المفسّرون ـ أنّه يُبيّن الخيط الأبيض الّذي هو فاعل «يتبيّن» ونقل أهل التفسير أ نّ عدي بن حاتم بعد نزول الآية توهّم أنّ معناها عدم جواز الأكل والشرب حتّى إذا بلغ بياض السماء إلى حدٍّ يتميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولذا أخذ بيده خيطاً أبيض وخيطاً أسود(3) .
ونقل بعض أنه أخذ عقالين أسود وأبيض ووضعهما تحت فراشه وآخر الليل كان يستيقظ وينظر إليهما ولكنّه لمّا لم يتمكن من التميّز إلاّ بعد مضي زمان كثير من طلوع الفجر راجع النبي ونقل ما فعل فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال (صلى الله عليه وآله) : ليس معنى الآية ما فهمتَ بل المقصود من الخيط الأبيض هو الفجر والنهار والمقصود من الخيط الأسود الليل .
فعلى هذا الاحتمال أعني من للتبيّين وأنّها مبّينة للخيط الأبيض فمعنى الآية هكذا «حتّى يتبّين لكم الخيط الأبيض أيّ الفجر» وبناءً على هذا الاحتمال الفجر
- 1 . مراده الشريف أنّه متعلّق بأحد أفعال العموم مثل «ثابتاً» وهو حال للخيط الأبيض .
- 2 . قال في رسالته الشريفة: «وأمّا جعل «من» تبعيضية فبعيد كما لايخفى» (رسالة في تعيين الفجر ، ص 13 في الليالي المقمرة) ولعلّ وجهه إنّ الفجر هو أول ظهور الضوء وشروعه ولا فرض للكلّ والبعض هنا .
- 3 . قال في المجمع: روى أنّ عدي بن حاتم قال للنبي: إنّي وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود فكنت انظر فيهما فلا يتبين لي فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى رؤيت نواجذه ثمّ قال يابن حاتم إنّما ذلك بياض النهار وسواد الليل (مجمع البيان ، ج 1 ، ص 281 ، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي) .
(الصفحة 188)
شيء والتبين شيء آخر .
وثانيهما: أنّه يبيّن نفس التبين وهذا الاحتمال في كلام الإمام الخميني وجعله ظاهر الآية وكانّ الفجر يبين مجموع الفعل والفاعل والمفعول «يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود» ومعنى الآية أنه يجوز الأكل والشرب حتّى يتبين لكم الخيط الأبيض عن الخيط الأسود وهذا التبين هو الفجر .
والعجب أنه (رحمه الله) لم يذكر الاحتمال الأوّل الذي ذكره المفسرون حتّى بنحو الاحتمال وكأنه التزم بأنّ «من» لو كان للتبيين كانا بياناً للتبين فقط لا غير .
وهذا الاحتمال اساس فتوايه بتأخير الصلاة والصوم هو هذا المطلب فإنه من جهة استبعداحتمال التبعيض ومن جهة اُخرى التزم بكون«من»للتبيين بالمعنى الثاني وإنّ التبين هو الفجر والفجر لم يتحقّق إلاّ بعد غلبة ضوء الشمس على ضوء القمر .
وعلى هذا الاحتمال الفجر عين التبين .
والثالث: أنه للنشوء ـ بمعنى أنّ التبين ناش عن الفجر وهذا الاحتمال في الآية يقول الإمام الخميني (قدس سره) أنه من ابداعاتنا ولم نجده في كلمات المفسرين(1) .
وعلى هذا الاحتمال ، الناشئ أي التبين متأخر عن المنشأ أي الفجر والتبين شيء والفجر شيء آخر ولازم هذا الاحتمال الإلتزام بجواز الأكل والشرب بعد الفجر إلى حصول التبين مع أنه لايمكن الإلتزام بجوازهما بعده ولذا ضعّف هذا الاحتمال(2) .
- 1 . لم يذكر المفسرون هذا الاحتمال وإليك عبارة الطبرسي; في المجمع: «يحتمل «من» معنيين أحدهما أن يكون بمعنى التبعيض لأن المعنى من بعض الفجر وليس الفجر كلّه ، عن ابن دريد والآخَر أنه للتبيين لأنّه بيّن الخيط الأبيض فكأنه قال الخيط الأبيض الذي هو الفجر» (مجمع البيان ، ج 1 ، ص 281 ، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي) .
- 2 . قال: اِنّ جعلها نشوية خلاف الظاهر بل هو احتمال أبديناه والمفسرون جعلوها للتبيين أو التبعيض (رسالة في تعيين الفجر في الليالي المقمرة ، ص 13) .
(الصفحة 189)
وهنا بحث من جهة الحكم الظاهري في إستدامة جواز الأكل والشرب بمقتضى الاستصحاب في ليلة رمضان لمن لم يحرز طلوع الفجر وفي وجوب الإمساك في النهار لمن لم يحرز غروب الشمس وهذا لايرتبط بكلامنا الآن لأنّ كلامنا الآن في الحكم الواقعي لا الحكم الظاهري والرجوع إلى الاستصحاب .
والفجر بنظره الشريف عين التبيّن ولكنّ بناءً على احتمال المفسّرين ، الفجر على نحوين امّا متبيّن وامّا غير متبيّن كما انّ سائر العناوين كالنجاسة أمّا متبيّن سواء كان بالعلم أو البينّة أو غيرهما وامّا غير متبيّن .
لايقال بناء على نظره (رحمه الله) فإذا لم يتفحّص المكلّف عن الفجر لم يحصل التبين والفجر .
لانا نقول: التبين وصف للواقع وانّ له واقعية في الخارج ويحصل في وقته وان لم نُحِقّق عنه وهذا كضوء سراج في غرفة فإنه موجود وإن لم نفتح باب الغرفة ولم نَره الاّ أنّ الذي يأكل السحور ويريد الصوم لابد أن يحقق عنه حتّى لم يقع أكله بعد الفجر .
مُلخّص نظر الإمام الخميني
ومحصّل نظره أنّ من للتبيين لا للتبعيض والنشوء «ومن» بيان لنفس التبين لا الخيط الأبيض وعلى هذا الفجر عبارة عن تبين الخيطين وتميزهما وفي الليالي المقمرة يقهر نور القمر على بياض الفجر بواسطة أصل وجود القمر أولاً وبواسطة قربه من الاُفق الشرقي ثانياً . وذلك حيث إنّ ضوء القمر شديد ويمنع عن تبين البياض في أوائل طلوع بياض الفجر وحينما تقرب الشمس من الاُفق وينبسط الخيط الأبيض يتفوّق البياض على ضوء القمر ولايتحقّق التبين بحسب الواقع أصلاً إلاّ أنّه يتحقق واقعاً ولكنّه مستور بالنسبة إلينا وهذا مثل السراج الذي نوره
(الصفحة 190)
ضعيف في قبال السراج الذي نوره شديد فنور الضعيف لايتبين ولا يتميز أصلاً هذا بيان كلامه (قدس سره) بفهمنا الناقص .
ولنا في هذه النظرية إشكالات:
الأوّل: أنّ «من» التبيينية لا تكون بياناً للجملة بل بياناً لكلمة واحدة أو المضاف والمضاف إليه أو الصفة والموصوف(1) .
والثاني: أنه لو سلّم أنّ «من» التبيينية تكون بياناً للجملة كما يكون بياناً للمفرد فاللازم الاستظهار من الآية بأنّ «من» في الآية بيان لأيّ شيء للجملة أو المفرد .
والثالث: أنّ الفجر هل يكون فيه إجمال حتّى يحتاج إلى التبين . هل له حقيقة شرعية أو المتشرعية كالصلاة ، والظاهر أنّ العناوين التي مثل الفجر كزوال الشمس وغروبها ليس لهما حقيقة شرعية أو المتشرعية بل هما بمعناهما العرفي واللغوي موضوعان للأحكام الشرعية والزوال أمر محسوس بالعين للإنسان وهكذا الغروب ـ أيّ استتار القرص في الاُفق ـ أمر محسوس لمن يرى الاُفق نعم جعل الشارع ذهاب الحمرة المشرقية عن الرأس أمارة للغروب لمن يعيش في البلاد التي لم ير الاُفق فيها كبلدنا «قم» .
فمن البعيد جداً خروج الشارع عن المعنى العرفي واللغوي للفجر فالمستظهر من الآية عدم كون الفجر عبارة اُخرى عن التبين ولا يكون «من» للتبيين .
ثمّ تقدّم انّ الاحتمالات في الآية بناء على ما ذكره الإمام الخميني بالنسبة إلى
- 1 . وسيأتي انّ بعض الروايات الواردة في تفسير الآية مثل صحيحة علي بن مهزيار ـ التي قال الإمام الخميني بانها أظهر أخبار الباب في إثبات مختاره ـ تدلّ بالصراحة على بيانيّة الفجر للخيط الأبيض لا على بيانيته لنفس التبين حيث ذكر فيها «الفجر يرحمك الله هو الخيط الأبيض المعترض» والعجب كل العجب أنه (رحمه الله) لم يذكر هذا حتّى بنحو الاحتمال في الآية .
(الصفحة 191)
«من» ثلاثة:
التبعيض والتبيين والنشوية وبعد المراجعة إلى بعض الكتب المفصلة كمغنى اللبيب لابن هشام لم نجد معنى النشوء لـ «من» مع أنه ذكر خمسة عشر معنى لها نعم أحد هذه المعاني قابل للانطباق(1) على النشو وهو «من» بمعنى التعليل كما في الكتاب كقوله تعالى
(مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً)(2) أي الغرق ناش من خطيئاتهم ، وكما في الإشعار مثل الشعر المعروف لفرزدق في مورد الأمام زين العابدين «يُغْضى حياءً ويُغْضى من مهابته» أي الإغضاء ناش من المهابة .
فإذا كان المراد من النشو التعليل فله وجه وامّا بعنوان النشو فلا يوجد في كلام المحققين من الأدباء .
وأمّا «من» التبيينية فهي لبيان الجنس وهذا الجنس وهو الذي فيه الإبهام ويعبّر عن الماهية المبهمة ، بالجنس ومعلوم انّ الجنس بالاصطلاح الأدبي غير الاصطلاح المنطقي .
ولذا يقول الألف واللام لتعريف الجنس فيتضح انّ في الجنس إبهاماً يرفع بالألف واللام والأمثلة التي مثّلوا بـ«من» التبيينية تكون في المفردات في مقابل الجملة ولا يكون في كلمات الأدباء إشارة إلى أن «من» لتبيين الجملة .
فانقدح أولاً أنّه لا يكون «من» التبيين الجملة وثانياً: أنه لو فرض من الجهة الأدبية وجود «من» لتبيين الجملة فنقول لايمكن فرضه في الآية لنقطتتين:
الأولى: ماتقدّم من عدم وجود الحقيقة الشرعية بل المتشرعية للفجر كما
- 1 . الظاهر انطباقه على «من» الابتدائية إذا كانت ناظرة إلى منشأ الشيء مثل قوله تعالى «وجعلنا من الماء كلّ شيء حي» (انبياء 30) ولذا قيل في قوله تعالى: «فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله» (الزمر 21) انّ «من» للابتداء وفسّر الدسوقي بقوله: «ياويلنا ويلاً نشأ من هذا» (شرح الدسوقي ج 1 ، ص 319) .
- 2 . نوح: 25 .