(الصفحة 21)
فيهم كما اختصّها الله سبحانه وتعالى به وتلطّف بها عليه حيث نصبه بقوله تعالى:
{جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} ، ولكن في تلك الآية فإنّ القضيّة طرحت بصيغة السؤال ، حيث سأل إبراهيم (عليه السلام) ربّه:
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي هل للبعض من ذرّيتي نصيباً في الإمامة والقيادة قيادة الإمامة ، فجاء الردُّ من قبل الله سبحانه وتعالى ، وهو قوله:
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .
ويبدو لنا إذا قارنّا بين هذه الآية وتلك ـ خاصّة بعد الأخذ بنظر الاعتبار ـ ما أشرنا إليه من أ نّ الآيات:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ . . .} تحكي عن الظروف التي انطلق الدعاء في أجوائها . حيث تصوّر لنا الآية أ نّ إسماعيل كان شابّاً ذا نظارة وممتلئاً بالطاقة والحركة ، وبإمكانه مساعدة إبراهيم في بنائه للبيت الحرام ، وبناءاً على أ نّ هذه الآية جاءت بعد الآية التي يقول فيها تعالى:
{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} ، فعمر إبراهيم (عليه السلام) يدلّنا على أ نّ هذه الآيات في تسلسلها الزمني تأتي متأخّرة عن تلك الآية ـ والآن إذا قرنّا بين الآيتين ، نرى أ نّه في الآية الأولى يسأل إبراهيم ربّه قائلاً:
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} فيردّ عليه تعالى:
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .
في الحقيقة هنا حصل إبراهيم على معيار أو ملاك معيّن حيث فهم أ نّ المرشّح لأمر الإمامة بالجعل الإلهي والعطاء الإلهي يجب أن لايمت إلى الظلم بأيّة صلة . واستناداً إلى الرّوايات ، وكذلك بحكم التناسب أو السنخية الموجودة بين الحكم والموضوع فإنّ عدم التلبّس بالظلم هو شرط ليس فقط عند التصدّي لأمر الإمامة ، بل يجب أن يكون الإمام غير متلبّس بالظلم في الماضي أيضاً ، أي أن يكون بعيداً عن الظلم طوال عمره . والمقصود من الظلم هنا ليس المعنى المتداول بيننا وفي استعمالاتنا العرفيّة . والظلم له معنى خاص ، وفهم العامّة للظلم هو أن يسرق شخص مال شخص آخر ، أو أن يضرب إنسان إنساناً آخر بلا أي مبرّر ،
(الصفحة 22)
فنحن نعبرّ عن هذه المصاديق بالظلم .
أمّا القرآن فإنّه يعدّ أيّ عملية تمّرد ، أو أيّ عصيان أو مخالفة تجاه الله تبارك وتعالى ظلماً . بدءاً بالشرك وحتّى المعاصي والمخالفات المتعارف عليها . يقول القرآن الكريم في الشرك:
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(1) في حين نحن لانعتبر الشرك ظلماً ، ولكنّ القرآن لايعدّ الشرّك ظلماً فحسب ، بل إنّه ظلم عظيم .
وإلى جانب ذلك نلاحظ أنّ القرآن الكريم في حديثه عن المعاصي والذنوب يعبر بقوله:
{الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}(2) ، ومن هنا فإنّ ظلم النفس يدخل في إطار معصية الله تبارك وتعالى ومخالفة أوامره ونواهيه ولايمكن تصور أيّ معنى آخر للمفهوم الذي طرحه القرآن الكريم ، ألا وهو مفهوم الظالم لنفسه . فالظلم من وجهة نظر القرآن الكريم والأنبياء (عليهم السلام) له معنى أوسع وأشمل من المعنى الذي نتصوّره نحن ، وفهم الأنبياء للظلم يختلف عما نعبّر عنه بالظلم .
شرط العصمة في الإمام
هنا تكوَّن لدى إبراهيم الملاك والمعيار في مسألة الإمامة ، وعرف أنّ الذي يتولّى منه الإمامة والذي تجعل له الإمامة وتختص به لابدّ وأن يكون طوال عمره نزيهاً عن الظلم ، ولا يمت للظلم بأيّ صلة ، وبالطبع فإن من تتوفّر فيه هذه الشخصيّة ويتجسّد هذه المعنى في شخصيّته لابدّ وأن يكون أحد مصاديق قوله تعالى:
{مسلمة لك} .
إذن الشخصيّة التي هي دائماً وأبداً في مقام التسليم إلى الله تعالى ، ولاتخرج عن دائرة التسليم في أيّ وقت من الأوقات هذه الشّخصية هي التي بمقدورها الأرتباط
- 1 . لقمان: 13 .
- 2 . النساء: 64 .
(الصفحة 23)
بالإمامة وأن تكون من سنخ الإمامة ، ومن هنا يتّضح لنا السبب الذي دفع بإبراهيم أن يدعو بهذا الدعاء {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ، لأ نّ الله قد قال بأنّه {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ، واقصى الظالم ـ ولو ارتكب الظلم لحظة واحدة ، أو في جانب ، أو بُعد واحد ـ عن مسار الإمامة ، بناءاً على الملاك والضابطة راح إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) يدعوان الله سبحانه وتعالى أن يجعل من ذرّيتهما اُمّة مسلمة له ، أي أن تكون ذرّيتهما بمستوى الإمامة ولها صلاحيّة الإمامة .
وهنا نقطة لابدَّ من الإشارة إليها ، وهي أنّ قوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} تقابل تماماً ما جاء على لسان إبراهيم (عليه السلام) في دعائه {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ، إذن في الحقيقة دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) وما طلباه من الله عزّوجلّ كان بناءاً على تلك الضابطة ، وذلك الملاك الذي حدّده الله سبحانه وتعالى لإبراهيم في الإمامة . فلم يسأل إبراهيم (عليه السلام) الله تعالى: هل سيحصل أحد من ذرّيتي على منصب الإمامة؟ وإنّما عرض المسألة هذه بصيغة الدعاء . فدعا الله أن يجعل من ذرّيته من يتوفّر فيه شرط الإمامة والملاك المعتبر فيها .
سؤالٌ وهنا قد يتبادر هذا السّؤال إلى الأذهان ، وهو أ نّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) في دعائهما {واجعلنا مسلمين لك} وفي قولهما {وتقبل منّا} و {أرنا مناسكنا} في جميع هذه الموارد الدعاء يختصّ بهما ، ويعود عليهما بالذات ، ولكن في دعائهما {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} هنا الطلب لايخصّهما ، فما علاقة فحوى الدعاء بإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ؟
الجواب الإجابة عن هذا السّؤال لها علاقة بموضوع الإمامة ، فعندما وجد إبراهيم (عليه السلام) نفسه تتوفّر فيه شروط الإمامة ، أحبَّ بوازع من رغبته في هداية المجتمع وإرشاد البشريّة عبر مراحلها التاريخية حتّى قيام الساعة ، أن يحتفظ بمنصب الإمامة السامي في ذرّيته ، أيّ أن يتصدّى جماعة من ذريّة إبراهيم
(الصفحة 24)
في المستقبل منصب الإمامة وقيادة المجتمع من بعده . وإلاّ لو أردنا تجاوز هذه النقطة إلى مسألة إمامة هذه الاُمّة المسلمة ، تبقى هناك علامة استفهام كبيرة ، فما معنى أن يدعو إبراهيم وإسماعيل بهذا الدعاء ، ويطلبان من الله عزّوجلّ هذا الطلب؟
وماذا يعني أ نّنا ندعو الله تعالى أن يجعل في أبنائنا وأحفادنا أفراداً صالحين ومتديّنين؟ ولماذا لاندعو بالخير لجميع أبناءنا؟ ولماذا لم يدعُ إبراهيم لجميع ذريّته؟
إذن ، من هنا نتوصّل إلى هذه الحقيقة وفي قوله {ومن ذرّيتنا} ، يعني أ نّ الأمر ليس أمراً عامّاً ، ولايمكن أن يشمل جميع أفراد الذريّة ، ولايمكن لجميع الذريّة أن تشترك في هذا الأمر ، إذ أنّ الذرية بأجمعها لايمكن أن تتوفّر فيها مواصفات وشروط الإمامة ، فالإمامة أمر خاصّ ومحدود بعدّة قليلة ممّن يمكنهم أن يتصدّوا لهذا الأمر ، ولذلك جاءت {من} الذي مفاده التبعيض .
وكذلك في الآية الاُخرى التي أجاب فيها الله سبحانه وتعالى على سؤالِ إبراهيم بقوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ، فهناك أيضاً طرحت المسألة مشتملة على «من» {ومن ذريتي} . وهذا يدلّ على أ نّ المسألة مسألة خاصّة ، وليست عامّة ، وإلاّ لكان الدعاء عامّاً ، وهذا ما يوافق مقتضى طبع الإنسان الذي إذا أراد أن يدعو ، فإنّه يدعو للجميع .
وبناءاً على ذلك ، كان المفروض أن يكون الدعاء بهذه الصورة «الهي اصلح جميع ابنائنا القريبين والبعيدين واجعلهم من المتّقين والمتديّنين» ، وأمّا قوله: {ومن ذريّتنا} ، فالظاهر أ نّه يستتبع هدفاً خاصّاً ، وهذا الهدف الخاصّ هو مسألة الإمامة ليس إلاّ ، والتي تتناسب مع قوله {مسلمة لك} ، ولها علاقة أيضاً بقوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .
مضافاً إلى وجود شواهد اُخرى في الآية التالية تؤيّد هذا المعنى ، وهو أ نَّ إبراهيم (عليه السلام) كان ينظر في هذه الآية إلى جماعة خاصّة من ذريّته ، وليس المقصود من
(الصفحة 25)
دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليه السلام) بحق هؤلاء أن يكونوا اُناساً مؤمنين ومتديّنين ، إذن الهدف أكبر وأهمّ ، وهو مسألة الإمامة ، فمسألة الإمامة ليست مسألة عامّة يمكن لأيّ شخص أن يتّصف بها ، وبرأيي أ نّ الآية الكريمة رائعة في تعبيرها فما الذي أراد إبراهيم وإسماعيل أن يقولا في هذا الدعاء؟
ويبدو جليّاً من خلال الشواهد والقرائن أ نّ إبراهيم (عليه السلام) كان يقصد في دعائه جماعة من بني هاشم ، نسمّيهم بعترة الرسول (صلى الله عليه وآله) ، فإبراهيم في حال بنائه الكعبة وإحداث عمارة الايمان وتأسيس مركز التوحيد ، يدعو لإمامة هؤلاء ، ولعلّ السّنخية بين الأثنين [بين الكعبة والإمامة] أنّ إمامة هؤلاء لها علاقة ببقاء وديمومة مركز ورمز التوحيد ، ولها الدور الأساسي في حفظ الكعبة وبيت الله . . . إنّ إمامة هؤلاء تعطي للناس المعنى الصحيح للحجّ والمناسك ، كما أ نّ إمامة هؤلاء لها علاقة وثيقة بالكعبة .
إذن يجب أن نلاحظ ظرف الدعاء ، لماذا صدر هذا الدعاء عن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) عند بنائها للكعبة؟ فقد كان بامكانهما أن يدعوا بهذا الدعاء في وقت آخر ، أمّا في ذلك الوقت بالخصوص وفي تلك الظروف الخاصّة ، فإنّ مثل هذا الدعاء يشعرنا أ نّ هناك إرتباطاً تامّاً وصلةً وثيقة بين إمامة هذه الامّة المسلمة له {اُمّة مسلمة لك} ، وبين الكعبة مركز التوحيد ورمزه ، وأ نّ الإمامة هي التي بمقدورها أن تحقّق هدف التوحيد بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وتنجّز الهدف من بناء الكعبة ، وقد شاهدنا عن كثب فداحة الخطب ، الخطب في المسارات البعيدة عن مسار الإمامة والأئمّة (عليهم السلام) .
المراد من الأب والذّرية
وبعد أن تقول الآية: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ