(الصفحة 32)
ويتلى عليه آيات الكتاب ؟
فبحسب الظاهر هناك منافاة بين الإثنين ، بين العرب وبين كلّ من التربية والتزكية والتعليم وتلاوة آيات الكتاب . إذن كيف دعا إبراهيم (عليه السلام) بمثل هذا الدعاء؟ وكيف طلب من الله أن يبعث بين العرب رسولاً بكونه معلّماً ومربّياً ؟ فلا يوجد أيّ نوع وفاق أو تقارب بين سلوكهم وتفكيرهم وبين هذه القضايا ، فهم بعيدون كلّ البعد عنها .
يقول صاحب المنار : إنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) كانا ملتفتين إلى هذه النقطة ، ومع ذلك قالا في آخر دعائهما:
{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وبالطبع هناك معاني عديدة للعزّة ، وأحدها هي القدرة ، والعزيز هو القادر ، فقول:
{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ}بمعنى إنّك أنت القادر ، أي تستطيع بقدرتك أن تعلِّم وتربِّي هؤلاء العرب الذين هم بعيدون عن الحضارة ، وبعيدون عن التربية والتعليم . صحيح أن الأمر بذاته يعدُّ أمراً صعباً ولا يتناسب مع هؤلاء ، ولكن ليست هناك أيّة صعوبة إزاء عزّتك وقدرتك ، فبقدرتك يمكن حلّ هذه المسألة ، خاصّة إذا كانت القدرة مصحوبة بالحكمة والتدبّر والتعقّل ، لا بالخشونة والغلظة والإجبار والإكراه ، فإذا كانت هناك قدرة تصحبها الحكمة يمكن حلّ هذه المشكلة .
إذن فصاحب المنار أراد أن يخصّص قوله:
{من ذريّتنا} بالعرب ، ومن ثمّ حلَّه بذيل الآية:
{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو : هل أن كلّ العرب هم ذريّة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)؟ وهل تنتهي كافّة القبائل العربيّة بإبراهيم وإسماعيل؟
الآية تقول:
{ ومن ذرّيتنا } أي ليس كل الذّرية ، وإنّما بعض ذريّة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)؟ ما علاقة «ذريّتنا» بالعرب حتّى تكون شاملة لكلّ العرب؟ وبوجود «من» التي تفيد التبعيض تبدوا المسألة أصعب من السابق . فما هو المبرّر
(الصفحة 33)
والأساس في قولنا: إنّ بعض الذريّة هم العرب ، وكلّ الذريّة هم أيضاً عرب؟ فالعرب كانوا عبارة عن طوائف وقبائل متعدّدة ، وأحد هذه الطوائف هم بني هاشم ، وينتهي نسبهم إلى إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، أمّا كلّ العرب من حيث النسب والأصل فليسوا من إبراهيم (عليه السلام) وإن كانوا يعودون إلى زمن إبراهيم ، ومن هنا فإنّ هذا النوع من التفسير مردود .
وهناك تفسير ثالث أرى أنه أفضل ممّا ذهب إليه صاحب المنار ، وهو أن نغضّ الطرف عن عبارة:
{من ذرّيتنا} ونفسّر قوله
{أمَّة مسلمة} بالمجتمع الإسلامي ، والاُمّة المسلمة ، لأن هذا التفسير على الأقلّ يعطي تصوّراً صحيحاً للمجتمع الإسلامي حيث يجمع بين العرب وغير العرب ، وفي الحقيقة هناك ثمّة سنخية بين هذا التفسير وآية:
{ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } ، أمّا حصرنا للآية في العرب فلا يمكن الأخذ به ، لأنه لا يتطابق لا مع ظاهر الآية ولا يوافق الآية الاُخرى آية:
{ لَقَدْ مَنَّ اللهُ . . . . } لأ نّ في آية ،
{ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } ليس المسألة مسألة العرب ، وإنّما المقصود هم المسلمين وأتباع الرسول (صلى الله عليه وآله) ، سواء كانوا عرباً ، أو لم يكونوا ، كسلمان الفارسي (رحمه الله) الذي يمثّل أوضح مصاديق المؤمنين في ذلك الوقت ، وكان فارسيّاً وبعيداً عنه العروبة تماماً .
إذن محصّل القول : إنّ الأساس الذي يجعلنا نتعامل مع هذه الآية [الآية 127 من سورة البقرة] بخلاف تعاملنا في فهم آية
{ لَقَدْ مَنَّ اللهُ علينا . . . } يكمن في عبارة
{ومن ذريّتنا} ، وبرأيي أ نّ المعنى الذي طرحناه كان على مستوى من الوضوح . وقد أشار بعض الإخوة إلى أنّ أحد كتب التفسير تعرض إلى نفس هذا المعنى مستعيناً في ذلك بالرّوايات ، لكن لا على نحو التفصيل الذي أوردناه ، وقد راجعت التفسير بنفسي فوجدته قد ذهب إلى ما ذهبنا إليه بمنهجية تختلف عن منهجيتنا بالإفادة من الروايات .
(الصفحة 34)الرّوايات الشّريفة
والآن نستعرض رواية تتناول تفسير الآية:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ}والآيات التي تليها ، ويمكن من خلالها التأكّد من المعنى الذي ذكرناه قبل قليل ، هذه الرواية نقلها العيّاشي في تفسيره ـ وتفسير العيّاشي من التفاسير القديمة جداً ، لكنّه بحسب الظاهر لم يصل إلينا بكامله ـ ينقل العيّاشي عن أبي عمرو الزّبيدي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت: أخبرني عن أمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله) من هم؟ قال (عليه السلام):
«اُمَّة محمّد بنوّ هاشم خاصّة» . [ والظاهر هنا أن المراد من كلمة «بنو هاشم» ليس كلّ بني هاشم وإنّما خصوص الأئمّة المعصومين والعترة الطاهرة (عليهم السلام) وهذا ما سيتّضح بقرينة السؤال التالي الذي يسأله الراوي من الإمام (عليه السلام)] .
قلت: «فما الحجّة في اُمَّة محمّد إنّهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟» .
فقال (عليه السلام): «قول الله عزّوجلّ:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ . . .} فلمّا أجاب الله إبراهيم وإسماعيل . . .الخ»(1)؟ .
هنا يستدلّ الإمام المعصوم (عليه السلام) بدليل من القرآن ، وكما هو واضح لديكم فإنّ تعامل الأئمّة (عليهم السلام) مع القرآن على نمطين:
أحدهما هو تفسيرهم للقرآن ، ولعلّ تفسير الإمام للقرآن من وجهة نظرنا غير منسجم مع ظاهر الآيات ، ولكن على ضوء مبادئ واُصول التفسير يبقى رأي الإمام (عليه السلام) كقرينة على اتجاه معيّن في التفسير ، وذلك استناداً إلى حديث الثّقلين وسائر الأدلّة المطروحة في هذا الباب .
والنمط الآخر في تعامل الإمام (عليه السلام) مع القرآن ، هو استشهاده بالقرآن ، وفي هذه الحالة يكون الإمام (عليه السلام) متمسكاً بظاهر الآية ، فالإمام المعصوم إذا استدلّ بالقرآن ،
- 1 . تفسير العيّاشي: ج 1 ص 60 .
(الصفحة 35)
فمعناه أن القرآن يجب أن يدلّ على ذلك المعنى بغض النظر عن كلام الإمام (عليه السلام) وحديثه ، وإلاّ فمن غير المعقول أن يستدلّ (عليه السلام) بالقرآن ومن ثمّ يقول: بأ نّ المراد من قوله تعالى معنى غير المعنى الظاهر للآية ، فهذا لايعتبر استدلالاً ، إنّما هو تعبّد ، ولابدّ من قبوله ، وأمّا في مقام الاحتجاج فيكون الباب مفتوحاً للاستدلال ، ومعنى الاستدلال هو أنَّ القرآن في نفسه يظهر من خلاله هذا المعنى ، وإلاّ فلا يبقى هناك أيّ معنىً للاستدلال بالقرآن .
وهنا يطلب السّائل من الإمام (عليه السلام) الدّليل ، مع العلم أن قول الإمام (عليه السلام) حجّة حتّى لو لم يأت بالدليل ، ولكن أحياناً بل مكرّراً يقدّم الإمام (عليه السلام) الدليل حتّى في المسائل الفقهيّة . حيث نرى في باب الوضوء أن زرارة يطالب الإمام (عليه السلام) بالدليل في أن مسح الرأس غير منظور فيه استيعاب الرأس كلّه ، فيجيبه الإمام (عليه السلام) معلّلاً: «لمكان الباء»(1) في قوله تعالى في آية الوضوء:
{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}(2) حيث جاء بالباء ، بخلاف ما إذا تتحدث عن الغسل
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} حيث لا يوجد هناك (باء) ، وهذا يعني أن الإمام يريد أن يبين لزرارة: إنك إن أمعنت النظر بالآية وتحريت الدّقة فيها حينذاك يكون بإمكانك أن تفرّق بين المسح والغسل ، ففي الغسل تطرح مسألة الاستيعاب وأمّا في باب المسح فإن الباء تفيد التبعيض ، وبناءاً على هذا فإنّ المسح يكون على بعض الرأس دون البعض الآخر .
نعود إلى بحثنا ، فالراوي يسأل الإمام (عليه السلام) عن دليله في أ نّ المقصود باُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) هم أهل البيت النّبي خاصّة؟ فقال (عليه السلام): قول الله عزّوجلّ:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} ، فهذه الآيات دليل على أن الاُمّة المسلمة
- 1 . وسائل الشيعة ج 3 الصفحة: 364 ، الحديث 3878 .
- 2 المائدة: 6 .
(الصفحة 36)
هم عترة الرسول (صلى الله عليه وآله) . ثمّ يصل الإمام (عليه السلام) إلى هذه النتيجة فيقول: فلمّا أجاب الله إبراهيم وإسماعيل وجعل من ذريتهما اُمّة مسلمة [أي من تلك الاُمّة] من الجماعة الخاصّة ، من بني هاشم {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . . . إلى آخر الحديث .
وكما ترون فإنّ الإمام (عليه السلام) قد استدلّ بهذه الآية ، ومعنى استدلاله هو أ نّ ظاهر الآية يتضمّن هذا المعنى ، وبناءاً على ذلك يتّضح أ نّ قول الإمام من أ نّ المقصود من الاُمّة هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ليس من باب التعبّد أو التفسير أو التأويل .
من الذي سمّاهم بالمسلمين؟
تقول الآية: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الكلام يدور عن الأب ، فمن هم أؤلئك الذين كان إبراهيم أباهم ، وهم ذرّيته؟
في الآيات التي بحثناها سابقاً عبَّر عنهم القرآن الكريم وعلى لسان إبراهيم بقوله: {ومن ذرّيتنا} ، وأمّا في هذه الآية بما أن ضمير المتكلم يعود على الله سبحانه وتعالى لذلك عبّرت عنهم الآية الكريمة: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ، هنا الضمير «هو» قد يبدو لأوّل وهلة أ نّه يعود على إبراهيم ، ولكن في الواقع أ نّ «هو» يعود على الله سبحانه وتعالى ، والموضوع له ثمَّة علاقة بإبراهيم ، على اعتبار أ نّ الآية لها علاقة ومدخلية بدعاء إبراهيم ، ولكنّنا لا نستطيع أن نرجع الضمير «هو» على إبراهيم باعتبار تكملة الآية ، حيث جاء فيها: {سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا . . .}أي في الكتب الإلهية السابقة وفي القرآن أيضاً ، ومن هنا لا يحقّ لنا أن نربط الضمير بـ«إبراهيم» لأ نّنا لا نستطيع أن نقول بأن إبراهيم هو الذي أطلق على أئمّتنا (عليهم السلام)تسمية الاُمّة المسلمة . إذن لابدّ وأن نرجع الضمير إلى الله سبحانه وتعالى الذي