(الصفحة 45)
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وإذا تتبعنا سياق الآية نجد أن الآية تشير إلى موضوع التيمم .
بعد ذلك كلّه تتابع الآية سياقها القرآني بقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} ، وهنا بامكاننا أن نعتبر هذه العبارة تعليلاً لما سبق ، حينئذ يواجهنا هذا السّؤال وهو: هل أنّ هذا التعليل شامل لكلّ الأحكام التي ذكرتها الآية ، أي لهذه الطّهارات الثلاث ، أم أ نّ التعليل هو في خصوص التيمّم فقط ، وذلك لأ نّ التيمّم فيه جانبان: جانب عدم ، ونفي حيث ينتفي مع التيمّم كلّ من الوضوء والغسل ، وهناك جانب إثبات ووجوب ، وهو وجوب التيمّم . فمعنى أن يتيمّم المكلّف بدل الوضوء ، أ نّ المكلف إذا سقط عنه الوضوء لايبقى بدون تكليف ، ولايسقط عنه الواجب الذي وجب الوضوء كمقدّمة له .
وبناءً على ذلك ، فإنّ ما جاء في مقام التعليل إذا قصرناه على التيمم ، أي قلنا : إنّ السّبب في أ نّ المريض لا وضوء عليه والمسافر يسقط عنه الوضوء ، والغسل ، وكذا الحال بالنّسبة لمن لايجد ماءً وهو قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} إنّما يريد أن ينفي سقوط التكليف لتفادي المشقّة والكلفة في نفس الوقت ، لأ نّ استعمال الماء إذا كان مضرّاً بالمريض ، فإنّه سيوقعه في حرج شديد عند الوضوء .
سؤال وهنا قد يسأل البعض: ماهي مدخليّة قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} بالنسبة لمن لايجد ماءً ؟ أي لا معنى للحرج بأعتبار أ نّ المكلف لا ماء لديه ، ولايمكنه أن يتوضأ بالتراب ، أو يغسل بغير الماء؟
الجواب كما ورد في الفقه هو أ نّ قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} يدلّ على أ نّ الملاك ليس افتقاد الماء بالمرّة ، وإنّما عدم الوجدان ، وهذا يقع في حدود معيّنة . ولذلك يقال: إنّ على المكلف أن يقطع كذا مسافة بحثاً عن الماء في المناطق الرخوة ،
(الصفحة 46)
وكذا مسافة في الأراضي الصلبة . إذن عدم وجود الماء لا يراد به الإطلاق ، أو المعنى الحقيقي للكلمة ، لأ نّه لو لم يكن هناك ماء حقيقة ، لما كان باستطاعة المكلّف أن يتوضّأ ، أو أن يغتسل .
أمّا لو فسّرنا عدم وجدان الماء بما هو متعارف عليه في الفقه ، حينئذ سنصل إلى هذا الحكم ، وهو أنّ المكلف الذي لم يجد ماءً في المنطقة التي يتواجد فيها ، لايجب عليه أن يقطع مسافات بعيدة بسيّارته مثلاً بحثاً عن الماء ، وان كان يحتمل الوصول إلى الماء ، ولكن هذا ليس هو الملاك ، لأ نّه لو كان الملاك هو عدم وجدان الماء حقيقة ، لانتفى وجوب الوضوء والغسل من الأصل ، ولايوجد حينها أيّ مبرّر للحديث عن الحرج .
وأمّا عدم الوجدان بمعناه الفقهي ، فيمكن معه أن نتصوّر هذا المعنى ، وهو أن يكون واجباً على المكلّف أن يحصل الماء بأيّ شكل من الأشكال ، وبأيّ طريقة ، ومن أيّ مكان كان ، سواء من البحر أو من الصحراء للوضوء والاغتسال ، وهنا يأتي قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} ، فيسقط عن المكلّف الوضوء والغسل للحرج والمشقّة .
إذن ، محصّلة الحديث أ نّ الآية: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} إذا خصّصناها بالتيمم ، يكون فيها جانبان:
الجانب الأوّل هو نفي وجوب الوضوء والغسل ، وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} فيه إشارة إلى هذا الجانب ، فالمريض لا وضوء عليه ، والمسافر لا وضوء ولا غسل عليه ، وكذا الحال بالنسبة لمن لايجد ماءً ، وأمّا تتمّة الآية وهي قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فهي ناظرة للجانب الإثباتي للتيمّم . أي أ نّه بعد ما ارتفع وجوب الوضوء والغسل نظراً للحرج ، وجب التيمّم ، لماذا؟
(الصفحة 47)
هنا يأتي التعليل ، وهو: لأ نّ الله يريد أن يطهّرنا ، والتراب أحد الطهورين ومن ثمّ يقول تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} ، وبناءاً على ذلك فإنّ هذه الآية الشّريفة يمكن أن تكون من الأدلّة على قاعدة نفي الحرج .
وهنا لابدّ من الأشارة إلى نقطة هامّة ، وهي أ نّ الله سبحانه وتعالى عندما يقرّر بأ نّ المريض لايجب عليه الوضوء ، لأ نّه لم يرد أن يجعل عليه من حرج ، هنا المريض أحد موارد نفي الحرج ، ولا خصوصيّة بحيث تجعل الحكم يختصّ به ، فمسألة عدم وجوب الوضوء ، وعدم وجوب حكم الغسل ليس فيها أيّة خصوصيّة معيّنة ، وإنّما هي موارد ومصاديق للموضوع الأساسي ، وذلك لأ نّ قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} جاء بمثابة التعليل ، وكما تعلمون فإنّ المورد لا يكون مخصّصاً ، فالتعليل معنى عامّ يصدق في هذه الموارد وفي غيرها . وبذلك تصبح هذه الآية أحد الأدلّة القرآنية على قاعدة الحرج ، خاصّة وأ نّ كلمة الحرج قد وردت في الآية نصّاً .
التعليل ورجوعه إلى الطهارات الثلاث
أمّا على مستوى الاحتمال الآخر ، وهو أ نّ قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} له علاقة بالآية بكاملها ، وليس من باب نفي الحرج في خصوص التيمم الذي أشرنا إليه في الاحتمال السابق ، أي أ نّه مرتبط بالطهارات الثلاثة ، هنا قد يطرح هذا التساؤل ، وهو ما معنى قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج}؟ هذا أوّلاً .
وثانياً: إذا أخذنا بهذا الاحتمال ، فهل يبقى هناك مجال للحديث عن قاعدة (نفي الحرج) والاستدلال عليها بالآية الشّريفة؟
إذن علينا أوّلاً أن نرى ما هو معنى الآية في ضوء هذا الاحتمال؟ لا شك أ نّ
(الصفحة 48)
الآية وبناءً على هذا الاحتمال أيضاً تبقى في مقام التعليل ، فلا فرق بين هذا الاحتمال والاحتمال الأوّل ، ولكن السؤال: ما هو وجه التعليل في هذا الاحتمال؟
التعليل هنا لبيان العلّة في وجوب الوضوء ، أي للجواب على هذا السّؤال وهو: لماذا إذا قمتم إلى الصلاة عليكم أن تغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق؟ ولماذا {إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}؟ وما هي العلّة في أ نّكم لو كنتم مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماءً عليكم أن تيمّموا صعيداً طيّباً؟ ففي جميع هذه الموارد يأتي التعليل في خصوص الجانب الإثباتي للحكم .
ولنا أن نتساءل هنا كيف يمكن للتعليل أن يكون في الجانب الإثباتي للحكم؟
والجواب أ نّ الله تبارك وتعالى يريد أ نّ يبيّن أن ما ألزمكم به عند الصلاة من الوضوء أو الغسل أو التيمّم ، فلا اُريد بذلك أن أشقّ عليكم أو أثقل كاهلكم ، إنّما أقصد بذلك هدفاً أسمى وأعلى . وهذا الهدف الذي أبتغيه يخصّكم أنتم ، ويعود عليكم بالمنفعة ، وهو تطهيركم ، أي اُريد بذلك أن تحصلوا على طهارة النفس وطهارة البدن أيضاً . بناءً على ذلك ولتحقيق هذا الهدف السامي هل يعتبر الوضوء أمراً حرجيّاً؟ وهل يعدّ الغسل عملاً صعباً؟ وهل التيمّم شاقاً؟
ومثال ذلك ، أن يقول الأب لابنه : يابنيّ إنّما أوجب عليك الذهاب إلى المدرسة صبيحة كلّ يوم ، لا لكي أشقّ عليك ، أو أزيد في عنائك ، بل أريد بذلك أن تتعلّم وتحصل على مكانة علمية سامية في المجتمع .
إذن، إذا قلنا بأنّ الآية: {ومَايُرِيدُاللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} تتعلّق بالأحكام الثلاثة ، وبالجانب الإثباتي لهذه الأحكام ، أي أ نّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يقول: إنّي ما أوجبت الوضوء ولا التيمّم ولا الغسل لكي أشقّ عليكم ، أو أجعلكم في حرج ، وإنّما أردت أن أطهّركم ، وهذا المعنى يتطابق مع تعبيراتنا العرفيّة الشائعة ، ولكنّه خارج عن إطار بحثنا ، ولا علاقة له بقاعدة نفي الحرج ، والسبب في ذلك هو
(الصفحة 49)
أ نّ قاعدة نفي الحرج إنّما تستخدم عندما تكون لدينا إطلاقات وعمومات في الجانب الإثباتي للحكم ، ونريد أن ننفي بعض هذه الأحكام بواسطة هذه القاعدة .
فمثلاً ، إذا كان الصوم يشكل حرجاً بالنسبة لأحد المكلّفين ، هنا يسقط وجوب الصيام الذي يفهم من قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وتأتي قاعدة نفي الحرج هنا لتنفي بعض الأحكام التي تفهم بمقتضى الإطلاقات الموجودة في الآية ، ولو لم تكن هذه القاعدة ، لاقتضت الإطلاقات وجوب الصوم على الإنسان ولو كان في مرض الموت ، كالصلاة التي تجب حتّى على الغريق الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وعليه أن يؤدّيها في لحظة أو لحظات ، إذن قاعدة نفي الحرج في الحقيقة هي قاعدة نفي الحكم ، حيث تواجه الدليل الذي يريد أن يثبت الحكم من خلال الإطلاق في كلّ الموارد حتّى في موارد الحرج ، فتنتفي ذلك الحكم . لذا يعبّر عنها بالنفي [ ما جعل عليكم من حرج] فهناك إشارة إلى أ نّ الأحكام المستلزمة للحرج غير مرادة للشارع . وجعل الجاعل وإرادته الجديّة لم تبتن على أساسها ، حتّى ولو كان مقتضى الإطلاق يفيد الثبوت في موارد الحرج .
ومن هنا نتوصّل إلى هذه النتيجة ، وهي أ نّ مجرّد وجود كلمة (الحرج) في هذه الآية: {ومَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} لايعني أ نّها من أدلّة نفي الحرج ، بل يجب علينا أن نبحث هل أ نّ التعليل ناظر إلى التيمّم ، أو لا؟
وكما أشرنا سابقاً هناك جانبان في التيمّم: جانب نفي ، وهو عدم وجوب الوضوء والغسل ، وجانب إثباتي وهو التيمّم ، فإذا كان هذا التعليل فيما يخصّ التيمّم في جانب النفي ، حينئذ يمكن أن نعدّه من الأدلّة على بحثنا هذا . وإذا كان يتعلّق بكلّ الأحكام الموجودة في الآية وفي جانبها الإثباتي ، أي ذكر السبب والعلّة في وجوب الوضوء ووجوب الغسل والتيمّم ، حينذاك تكون الآية خارجة عن إطار بحث قاعدة نفي الحرج .
|