(الصفحة 55)
غيرها ، فالمساجد أفضل من غيرها من الأمكنة ، والمساجد نفسها تتفاوت من حيث الأفضلية ، والمشاهد المشرفة أيضاً لها أفضليتها ، إلاّ أنّه لا يشترط في صحّة الصلاة أن تؤدّى في المسجد ، مع أ نّ الوارد في الرّوايات أ نّ الاُمم السالفة كانت لها أماكن مخصّصة للعبادة بحيث لو أ نّهم أرادوا أن يعبدوا الله عزّوجلّ خارج هذه الأماكن لما صحّت عبادتهم . لذا كان البعض منهم يضطر أن يقطع المسافات الشاسعة للوصول إلى هذه البقاع المخصّصة للعبادة بغية أن يحرز جانب الصحّة في عبادته .
وفي المقابل نجد أ نّ الأرض جعلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مسجداً . لذلك جاز للمسلم أن يقيم الصلاة في أيّ مكان شاء ، فكلّ مكان يصدق عليه إسم الأرض ، يصلح لأن يكون مسجداً وكذا الحال بالنسبة لطهوريّة الأرض ، حيث أ نّ التيمّم هو من المزايا التي أمتازت بها هذه الاُمّة المرحومة . وكان العنوان العامّ الذي يفيد التيمم هو أ نّ «التراب أحد الطهورين» . أمّا في الاُمم السالفة فلا يوجد شيء من هذا القبيل .
فمن التكاليف الشاقّة التي كانت مفروضة على الاُمم السابقة هو أنّهم إذا أصابت أجسامهم نجاسة ، وخاصّة إذا كانت النجاسة بولاً فلا يطهرون إلاّ إذا اقتطعوا تلك القطعة المتنجسة من الجسم بالمقاريض(1) . وظاهر عبارة الرواية يتعيّن من خلالها قصّ الجلد بالمقراض بالقدر المتنجّس حتّى يطهر . أمّا بالنسبة للاُمّة الإسلامية فقد جعل الله الماء مطهراً ، بحيث إذا تنجّس المكلّف من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه فبإمكانه أن يتطهّر بالماء .
وتذكر الرواية بعض الواجبات والتكاليف التي قد تبدو بعضها شديدة
- 1 . الوسائل 1: 133 ، الباب الأوّل من أبواب الماء المطلق ، الحديث 4 ، والرواية وإن كانت صحيحة إلاّ أنّ العقل لا يساعد مضمونها ، ولابدّ من التأويل فيها . ومن البعيد أن يكون المراد ظاهرها .
(الصفحة 56)
الغرابة ، والآية الكريمة: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} تؤيّد هذا المعنى . وكما أشرنا سابقاً في خصوص دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، فإن الله عزّ شأنه عندما يحكي دعاء أحد الأنبياء ثمّ يسكت ، فهذا يعني ، أن الدّعاء قد اُستجيب ، وإلاّ لكان من غير المناسب نقل هذا الدعاء ، ومع نقله وعدم إجابته يتحتّم على الله عزّوجلّ أن يردّ بالنفي عليه .
إذن ، المنظور في الآية ليس مجرّد دعاء الرسول ، وإنّما دعاء يستتبعه إستجابة . وهنا كلمة «إصراً» جاءت في سياق النفي ، وهي تفيد العموم ، أي: لا تحمّلنا أيّ إصر في أيّ من التكاليف . إذن الآية تطرح معنىً عامّاً وكليّاً .
الاستدلال بصدر الآية وبيان المراد من «الوسع»
بعد ذلك تأتي فقرة جديدة من الدعاء وهي قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، والمتتبع لسياق الآية يجد أ نّ هناك ارتباطاً خاصّاً بين صدر الآية: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وبين الفقرة من الدعاء ، وهي {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وقد عدّ المحقّق النراقي (رحمه الله) في كتابه العوائد قوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} من الأدلّة التي يستدلّ بها على قاعدة نفي الحرج ، وأ نّها دليل مستقل عن هذا المضمار ، وتبعه في ذلك المحقّق البجنوردي (رحمه الله) في كتابه «القواعد الفقهية» .
والآن لنرى هل هي كذلك ، أم لا؟ هنا لابدّ أن نبحث المسألة من جهتين:
الجهة الاُولى:
هو أ نّنا نعلم مسبقاً أ نّ القدرة العقليّة تعتبر شرطاً عقلياً في تعيّن التكليف بالنسبة للإنسان ، فلو أمر رجلٌ إبنه بالقيام بعمل لايقدر على إنجازه بالمرّة ، لأستقبح العقلاء منه ذلك . لأ نّ العقل يقرّر هذه الحقيقة ، وهي أ نّه لا معنى أن تأمر
(الصفحة 57)
وتنهي أو تزجر شخصاً لا حول ولا قوّة له على القيام بعمل معيّن أو تركه . وهذا أمرٌ بيّن وواضح ، وفي باب الاُصول هناك بحث بحثه سيّدنا الأستاذ الأعظم الإمام ـ مدّ ظلّه العالي ـ وبحثناه أيضاً تبعاً للسيّد الاُستاذ ، ومفاده أ نّ التكاليف العامّة هل يشترط فيها القدرة؟
وأمّا كون العجز عن القيام بالتكليف هل هو معذّر ، أم لا؟ فهذا بحث آخر .
المسألة هي: أ نّ التكليف حتّى لو كان تكليفاً غير عامّ ، فإنّه يشترط فيه القدرة على أدائه ، فإذا لم تتوفّر القدرة ، يفقد التكليف معناه ، والسيّد الإمام ـ مدّ ظلّه العالي ـ يرى هذا المعنى .
بعد أ نّ اتّضح لنا هذا المعنى ، ننتقل إلى الآية الشريفة: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} هل المقصود من الآية هو القدرة العقليّة؟ نستبعد ذلك ، لأ نّ ظاهر قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} في مقام الامتنان على كافّة المكلّفين في جميع الملل والأديان . فالآية لا تقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} في هذه الاُمّة وفي هذه الشريعة ، بل معناها أ نّ المكلّف يكلّف بقدر وسعه دائماً .
وكما أ نّ الظّلم ممتنع الصدور منه تعالى ، كذلك تكليف الإنسان بما لايطاق . فالمسألة مسألة إمتنان ، بالإضافة إلى الشرط الذي يستقلّ به العقل . وفحوى إشتراط القدرة هي أ نّه مع عدم وجود القدرة لايبقى هناك أيّ معنى للتكليف .
ومن هنا نفهم أ نّ الوسع ليس بمعنى القدرة العقليّة ، ولا يعني الوسع ما يشترط العقل في مسألة التكليف . إذن ماذا يريد بالوسع؟ هل من الممكن أن نضع مسألة الوسع مقابل مسألة الحرج فنقول: لايكلّف الله نفساً إلاّ مالا يكون حرجيّاً عليها؟
الفقهاء الذين استدلّوا بهذه الآية استندوا إلى هذا الرأي ، ومنهم المحقّق النراقي (رحمه الله) في العوائد والمحقّق البجنوردي (قدس سره) في القواعد الفقهية ، ويفهم موقفهم هذا من خلال إستدلالهم بهذه الآيات ، علماً أ نّ هذين العلمين لم يعلّقا على هذه الآية ،
(الصفحة 58)
ولكن من الطبيعي أن يكون رأيهم هو أ نّ الآية: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}يعني إلاّ مالا يكون حرجياً عليها . وإذا حملنا هذه الآية على هذه المعنى فستدرج ضمن أدلّة نفي الحرج .
ولكن هذه الآية لا تدلّ على هذا المعنى ، والدليل على ذلك هو الفقرة التي تبعت قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً . . .} وهي قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} هذه الفقرة من الآية تعرّض مسألة اُخرى غير مسألة الإصر وغير مسألة الحرج ، فمسألة الحرج ومسألة الإصر صيغتا بصورة دعاء .
والسؤال الآن: ماذا يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدعائه هذا: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}؟ هل يريد أن يقول: لا تحمّلنا ما تقصر عنه قدرتنا العقلية؟ هذا الأمر يقرّ العقل بقبحه ، وهو قبيح بالنسبة للأشخاص العاديّين ، فكيف لايكون قبيحاً بالنسبة لله تعالى؟
وإذا أراد الله أن يكلّف الإنسان بما لايقدر عليه ، فما هو المبرّر لهذا الدعاء: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} بعد بيان مسألة الحرج ومسألة الإصر؟
ومن جهة اُخرى لايمكن أن تطرح مسألة القدرة العقليّة وعدّها في هذا الخصوص ، لأ نّها لا تشكّل دليلاً محكماً لوجود معنى جديد يقع برزخاً بين الحرج وعدم القدرة الفعليّة ، أو فقل درجة تتوسّط بينهما .
وسأذكر العنوان الذي يدخل هذا المعنى في إطاره ، كما سأذكر الشواهد التي تؤيّده فيما بعد . والآن نتساءل هل يمكن أن نستفيد من نفس الآية على أ نّ قوله تعالى: {مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وكذا كلمة {وُسْعَهَا} التي طرحت في صدر الآية ، لايدلاّن على مسألة الحرج ، بدليل أ نّ هذه الفقرة من الدعاء {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} بعيدة عن مفهوم الحرج؟ هذا من جهة .
ومن جهة اُخرى فإنّ الدعاء: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} غير ناظر
(الصفحة 59)
إلى مسألة عدم القدرة ، لأ نّه كما قلنا سابقاً ـ إذا عدم المكلّف القدرة على القيام بالتكليف سقط التكليف ، ولا داعي حينئذ للدعاء ، وأمّا قوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فهذا في مقام الإمتنان .
وهناك نقطة اُخرى لابدّ من الإشارة إليها ، وهي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن قال في دعائه : {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} لم يقل بعده «كما حملته على الذين من قبلنا» كما قالها في دعائه بخصوص الإصر . والظاهر أ نّ الدعاء {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يدخل ضمن قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وحيث يقرّر حقيقة عامّة تشمل كافّة الأديان والملل والمذاهب .
إذن ، ماهو ذاك المعنى الذي قد يكون هو الصحيح والذي عبرّنا عنه بأ نّه برزخ بين الحرج وبين مسألة القدرة العقلية؟
إنّه عبارة عن القدرة العرفيّة ، أي القدرة على القيام بالعمل أو عدم القدرة بالمنظور العرفي . فقد يوجد هناك عملٌ لا يستحيل على الإنسان فعله عقلاً . ولكنّ العرف يرى ذلك العمل من المستحيلات . وهذا يشبه تماماً الموارد التي يختلف فيها حكم العرف عن حكم العقل ، والشواهد في هذا المجال كثيرة وواضحة .
ولقائل أن يقول: لماذا اخترت هذا المعنى؟
الجواب: إنّكم تلاحظون أنّ كل مسألة قائمة على الدليل يجب أن يرجع فيها إلى العرف ; فمثلاً إذا قام الدليل على أ نّ الدم نجسٌ ، فهذا يعني أ نّ كلّ ما يراه العرف دماً يكون نجساً . وإذا قال الدليل : إنّ البول نجس ، فمعناه أ نّ ما يراه العرف بولاً يكون نجساً . ولمّا كانت كلّ من كلمتي: «الوسع ، وعدم الطاقة» قد اخذتا بنظر الإعتبار في الدليل ، إذن فالعرف هو الذي يحدّد معنى الوسع . وعدم الطاقة .
إنّ العرف إذا أراد أن يفسّر قوله تعالى: {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ومعنى