(الصفحة 58)
ولكن من الطبيعي أن يكون رأيهم هو أ نّ الآية:
{لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}يعني إلاّ مالا يكون حرجياً عليها . وإذا حملنا هذه الآية على هذه المعنى فستدرج ضمن أدلّة نفي الحرج .
ولكن هذه الآية لا تدلّ على هذا المعنى ، والدليل على ذلك هو الفقرة التي تبعت قوله تعالى:
{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً . . .} وهي قوله:
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} هذه الفقرة من الآية تعرّض مسألة اُخرى غير مسألة الإصر وغير مسألة الحرج ، فمسألة الحرج ومسألة الإصر صيغتا بصورة دعاء .
والسؤال الآن: ماذا يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدعائه هذا:
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}؟ هل يريد أن يقول: لا تحمّلنا ما تقصر عنه قدرتنا العقلية؟ هذا الأمر يقرّ العقل بقبحه ، وهو قبيح بالنسبة للأشخاص العاديّين ، فكيف لايكون قبيحاً بالنسبة لله تعالى؟
وإذا أراد الله أن يكلّف الإنسان بما لايقدر عليه ، فما هو المبرّر لهذا الدعاء:
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} بعد بيان مسألة الحرج ومسألة الإصر؟
ومن جهة اُخرى لايمكن أن تطرح مسألة القدرة العقليّة وعدّها في هذا الخصوص ، لأ نّها لا تشكّل دليلاً محكماً لوجود معنى جديد يقع برزخاً بين الحرج وعدم القدرة الفعليّة ، أو فقل درجة تتوسّط بينهما .
وسأذكر العنوان الذي يدخل هذا المعنى في إطاره ، كما سأذكر الشواهد التي تؤيّده فيما بعد . والآن نتساءل هل يمكن أن نستفيد من نفس الآية على أ نّ قوله تعالى:
{مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وكذا كلمة
{وُسْعَهَا} التي طرحت في صدر الآية ، لايدلاّن على مسألة الحرج ، بدليل أ نّ هذه الفقرة من الدعاء
{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} بعيدة عن مفهوم الحرج؟ هذا من جهة .
ومن جهة اُخرى فإنّ الدعاء:
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} غير ناظر
(الصفحة 59)
إلى مسألة عدم القدرة ، لأ نّه كما قلنا سابقاً ـ إذا عدم المكلّف القدرة على القيام بالتكليف سقط التكليف ، ولا داعي حينئذ للدعاء ، وأمّا قوله:
{لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فهذا في مقام الإمتنان .
وهناك نقطة اُخرى لابدّ من الإشارة إليها ، وهي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن قال في دعائه :
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} لم يقل بعده «كما حملته على الذين من قبلنا» كما قالها في دعائه بخصوص الإصر . والظاهر أ نّ الدعاء
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يدخل ضمن قوله تعالى:
{لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وحيث يقرّر حقيقة عامّة تشمل كافّة الأديان والملل والمذاهب .
إذن ، ماهو ذاك المعنى الذي قد يكون هو الصحيح والذي عبرّنا عنه بأ نّه برزخ بين الحرج وبين مسألة القدرة العقلية؟
إنّه عبارة عن القدرة العرفيّة ، أي القدرة على القيام بالعمل أو عدم القدرة بالمنظور العرفي . فقد يوجد هناك عملٌ لا يستحيل على الإنسان فعله عقلاً . ولكنّ العرف يرى ذلك العمل من المستحيلات . وهذا يشبه تماماً الموارد التي يختلف فيها حكم العرف عن حكم العقل ، والشواهد في هذا المجال كثيرة وواضحة .
ولقائل أن يقول: لماذا اخترت هذا المعنى؟
الجواب: إنّكم تلاحظون أنّ كل مسألة قائمة على الدليل يجب أن يرجع فيها إلى العرف ; فمثلاً إذا قام الدليل على أ نّ الدم نجسٌ ، فهذا يعني أ نّ كلّ ما يراه العرف دماً يكون نجساً . وإذا قال الدليل : إنّ البول نجس ، فمعناه أ نّ ما يراه العرف بولاً يكون نجساً . ولمّا كانت كلّ من كلمتي: «الوسع ، وعدم الطاقة» قد اخذتا بنظر الإعتبار في الدليل ، إذن فالعرف هو الذي يحدّد معنى الوسع . وعدم الطاقة .
إنّ العرف إذا أراد أن يفسّر قوله تعالى:
{وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ومعنى
(الصفحة 60)
الوسع ، فإنّه يشرحه من وجهة نظره ، لا من وجهة نظر العقل وهذا هو الصحيح . لأ نّ معنى الوسع في قوله:
{لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} يجب أن يرجع فيه إلى العرف .
وكذلك بالنسبة إلى تحديد دلالة قوله:
{مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} لابدّ من الرّجوع إلى العرف ، وللعرف ملاكاته الخاصّة في تحديد معنى الوسع ، ومعنى عدم الطاقة والتي قد لاتتفق مع ملاكات العقل . وبناءً على ذلك يتقوّم معنى الآية ، وتأخذ الآية نسقها الصحيح .
ومع الأخذ بنظر الإعتبار السياق الطبيعي للآية على ضوء المعنى الذي قررناه يتضح أن ما أشرنا إليه ـ وهو أنّه قوله تعالى:
{لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} جاء في مقام الإمتنان ـ صحيح جدّاً ، كما أنّ قوله:
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}أيضاً كدعاء صحيح هو الآخر .
ومن جهة اُخرى لايبقى أيّ مبرّر لأن نربط مفهوم الوسع وعدم الطاقة بمسألة الإصر والحرج ، أي أ نّه ليس من الأدلّة التي يستدلّ بها على قاعدة لا حرج .
بناءً على ذلك ، فإنّ ما ورد في الحديث الشريف
«رفع عن اُمّتي مالا يطيقون» هو من باب الامتنان ، ويدلّ على نفس المعنى هذا ، وإلاّ لو كان المقصود من قوله «مالا يطيقون» هو مالا يطيقون عقلاً ، لما بقي معنى للحديث ، أي لا معنى لأن يمنّ الله على الاُمّة الإسلامية خاصّة بأن يرفع عنها ما هو خارج عن تكليفها ، ومالم يؤمر به في أيّ من الأديان أو المذاهب .
محصّلة القول: إنّ هذه الفقرة من الآية:
{لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} والتي إستدلّ بها بعض العلماء على قاعدة نفي الحرج ، لا تصلح لأن يستدلّ بها على هذه القاعدة .
(الصفحة 61)الروايات الدالّة على القاعدة
هناك روايات كثيرة في قاعدة نفي الحرج يمكن أن يستشهد بها في هذا الباب . وقيل : إنّ هذه الروايات في هذا المجال فيها تواتر معنوي . ويقصد بالتواتر المعنوي هو طرح مسألة نفي الحرج بتعابير وألفاظ مختلفة في هذه الروايات ، والمرحوم الميرزا الآشتياني (قدس سره) صاحب الحاشية الموسّعة على الرّسائل المسمّات بـ(بحر الفوائد) يدّعي التواتر المعنوي في الروايات .
الميرزا الأشتياني (قدس سره) من تلاميذ المحقق الشّيخ الأنصاري (قدس سره) المتفوقين ، وقد عثرنا على رسالة مختصرة منه (رحمه الله) في قاعدة نفي الحرج كتبها بقلمه الشريف ، وبعد أن يستعرض سماحته الروايات ، يدّعي أ نّ فيها تواتراً معنويّاً . ولا تستبعد أن تكون المسألة بهذه الكيفية وإن لم تكن هناك حاجة لاستشعار هذا التواتر ، لأ نّه من بين هذا العدد الكبير من الروايات ، هناك الكثير من الروايات الصحيحة والمعتبرة ، ورواية واحدة منها كافية للاستدلال ، فضلاً عن الروايات الصحيحة المتعدّدة ، فكيف إذا وصلت إلى حدّ التواتر؟
ومن الجدير بنا أن نبحث هنا بعض هذه الروايات .
الرواية الأولى
هناك رواية يرويها صاحب الوسائل «في أبواب الماء المضاف ، الباب التاسع ، الحديث الخامس» هذه الرواية صحيحة السند عن فضيل بن يسار عن أبي عبدالله (عليه السلام): في الرجل الجنب يغتسل فينتزح من الماء في الإناء؟
فقال (عليه السلام):
«لابأس ، ما جعل عليكم في الدين من حرج»(1) .
- 1 . الوسائل 1: الباب 9 من أبواب الماء المضاف ، الحديث 5 .
(الصفحة 62)
هنا لابدّ من الإشارة إلى أنّنا في تعاملنا مع الروايات أحياناً لا ننظر في مورد الروايات ، ولكن ننظر إلى حكم الإمام ، فإذا قال (عليه السلام): لا بأس ، كما في هذا الرواية ، ثمّ علّلها بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} فهذا يكفي لأن يكون دليلاً على قاعدة نفي الحرج ، وبناءً على ذلك نستنتج أ نّ قوله : {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} يدلّ على نفي البأس في موارد الحرج ، ويدلّ على رفع الإلزام في موارد الحرج .
ولكن بالنسبة لمورد الرواية قد لا نحتاج أن نبحث مورد الرواية المسوقة في مقام الإستدلال على قاعدة نفي الحرج ، علماً بأنّ ملاحظة مورد الرواية قد يكون مؤثّراً في بعض الفروع التي ستطرح فيما بعد ـ إن شاء الله ـ ولكن بالنسبة لأصل القاعدة ، فلا ضرورة في مناقشة موارد الروايات .
ولكن وضوح معنى الرواية أمرٌ مهم ، وبناءاً على ذلك فمن الأفضل أن ندقّق في سؤال الراوي ونرى ما هي الموارد الذي حكم الإمام بنفي البأس عنها . وما هو الإشكال الذي حصل في ذهن الرواي ، والذي أراد الإمام حلّه بأن قال له: «لا بأس» .
ونشير إلى عنصر التدقيق في أصل نقل الروايات ، حيث كان للمرحوم السيّد البروجردي ـ أعلى الله مقامه ـ باعٌ كبير في هذا المجال ، فقد ذكرت الرواية بنفسها في الباب التاسع بعنوان الحديث الأوّل ، والراوي هو فضيل بن يسار ، مع وجود اختلاف في السؤال ، فبدل من قوله «ينتزح منه الماء» رويت هناك (ينتزح من الأرض في الإناء) ، فالرواية واحدة ، والرواي هو نفسه فضيل بن يسار . وهذه من ضمن الإشكالات المهمّة الموجّهة إلى صاحب الوسائل (قدس سره) ، فكثيراً ما حكم بتعدّد الروايات ، وهنا عرض روايتين: إحداهما بعنوان الحديث الأوّل ، والآخر تحت عنوان الحديث الخامس ، في حين أ نّ الراوي واحد ، وهو فضيل بن يسار ،