(الصفحة 64)
شيء من النجاسة . ولمّا كان جسم الجنب في أغلب الأحيان فيه شيء من النجاسة ، من هنا يأتي السّؤال ، وهو أ نّ الماء لاقى جسم الجنب فتنجّس ، ثمّ انتزح هذا القسم من الماء في الإناء ، لسقوط بعض قطرات الماء المتنجّس في الإناء الذي يستعمل للغسل ، فما هو الحكم الشرعي هنا؟ فيجيب الإمام (عليه السلام) «لا بأس» ويعلّل جوابه بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} .
ثانيهما: والآن لنرى ما الذي يعنيه السائل من سؤاله على ضوء النقل الآخر للرواية أي بناءً على القول بأ نّ الماء ينتزح من الأرض في الإناء . فالظاهر من السؤال أ نّ السائل شكّ في نجاسة الأرض بلحاظ أنّ إنساناً جنباً يغسل على هذه الأرض ، ولذلك يحتمل أن تلاقي قطرات الماء هذه الأرض المشكوك في نجاستها ، ثمّ تسقط بعد ذلك في الإناء . والسؤال هو: كيف نتعامل مع هذا الاحتمال؟ فيجيب الإمام (عليه السلام) ، لابأس ، ما جعل عليكم في الدين من حرج . إذن بناءً على النقلين ، يوجد هناك ثلاث احتمالات:
الأوّل: احتمال أ نّ الماء قد استعمل في رفع الحدث الأكبر .
الثاني: احتمال أن يكون جسم الجنب نجساً .
الثالث: احتمال نجاسة الأرض وملاقاة الماء لها .
فهل يمكن أن يجيب الإمام (عليه السلام) على هذه الاحتمالات الثلاثة بـ«لا بأس» ، ويعلّل جوابه بالآية الكريمة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}؟ في حين أ نّ بعض هذه الاحتمالات لا تحتمل أن يجاب عليها بـ«لابأس» . وفي البعض الآخر يمكن أن يكون الجواب هو «لا بأس» لكن تعليل الجواب بالآية «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج» غير واضح .
أمّا بالنسبة للاحتمال الأوّل وهو سؤال الراوي عمّا إذا وقع شيء من ماء الغسل في الإناء ، هنا الجواب بـ«لابأس» صحيح ، ولكنّ التعليل بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ
(الصفحة 65)
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} غير واضح وفيه إبهام ، لأ نّ قطرات الماء بعد سقوطها في الإناء تستهلك فيه ، وإذا استهلكت عندئذ لا يصدق أ نّه غسل بماء استعمل في رفع الحدث الأكبر .
إذن ، لو لم تكن هناك قاعدة لا حرج في الإسلام ، ولو فرضنا عدم وجود الآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} في هذا الحال إذا سقطت عدّة قطرات من ماء الغسل في إناء الماء ، فهل يبطل الغسل بماء الإناء ، ولماذا؟ فإذا قيل: نعم لا يجوز الغسل ، لأ نّه ماء استعمل في رفع الحدث الأكبر ، فيجاب: إنّ قطرات الماء هذه قد استهلكت في ماء الإناء ، واستعمال الماء الموجود في الإناء لا يسمّى استخدام الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر .
أمّا الاحتمال الثاني ، وهو أنّ الرواية ناظرة إلى تلك النجاسة التي غالباً تكون على جسم الجنب .
ففيه: أ نّ عدم التصريح بوجود النجاسة على الجسم يبّعد هذا الاحتمال . والمبّعد الآخر لهذا الاحتمال ، هو أ نّ المجنب يلزم عليه أن يُطهّر جسمه قبل أن يغتسل ، في حين أ نّ الرواية تفرض أ نّ رجلاً جنباً يغتسل ، فما المقصود من عبارة يغتسل؟ هل المقصود أ نّه يريد أن يغتسل لتشمل ما قبل الغسل ، أي تطهير الجسم؟
وإذا كان المقصود من عبارة «يغتسل» هو عمليّة الغسل بحدّ ذاتها ، حينئذ يفترض أ نّه طهّر جسمه قبل الغسل .
ونحن نبحث هذا الاحتمال ونناقشه ، بالرغم من أ نّ هناك مبعّدان لهذا الاحتمال . وبناءاً على هذا الاحتمال فإنّ جسم الجنب نجس ، ولذا لو سقط الماء المستعمل لطهارة الجسم في الإناء الذي يريد أن يغتسل به الجنب ، فما الحكم؟ يجيب الإمام (عليه السلام) بقول «لا بأس» فما هو المراد بـ«لابأس»؟ هل يعني أ نّ قطرات الماء ليست
(الصفحة 66)
نجسة أبداً ، أو أ نّها نجسة ، ولكنّها لا تضرّ بالإناء؟ أيّهما نختار ؟ . فإذا قلنا : إنّ الإمام (عليه السلام)يقصد من وراء جوابه المتقدّم أ نّ هذه القطرات من الماء غير نجسة ، فما علاقة هذا المعنى بقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} أي إنّنا إذا قلنا بأ نّ الغسالة ليست بنجسة فلا داعي للتمسّك بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} وإذا كان مبنى الإمام (عليه السلام) أ نّ هذه القطرات حال وقوعها في الإناء نجسة ، إلاّ أنّها لا تنجّس الإناء ، يواجهنا إشكال وهو أ نّ الإناء قد تنجّس ، فلا معنى لقوله: لابأس . لأ نّ الماء إذا كان قليلاً تنجّس . فهل تستطيع قاعدة الحرج أن تبيح الغسل بهذا الماء . أو أ نّه يتعيّن عليه التيمّم؟
هل يصحّ أن نقول بأ نّ الماء إذا تنجّس ولا يوجد ماء غيره ، فإنّ مقتضى الآية {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} سقوط شرط طهارة الماء . وبناءً على ذلك يجوز الغسل بالماء النجس؟ لا يقول بذلك أحد وحتّى ولو فرضنا أ نّ الماء القليل لاينفعل ، فإنّ التعليل بالآية: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} لا محلّ له ، وغير وارد .
أمّا إذا قلنا بالاحتمال الثالث ، بناءاً على النقل الآخر لرواية فضيل بن يسار فهنا تتلّخص المشكلة في الأرض ، حيث يحتمل أن تكون هي النجسة ، ففي هذه الحالة ، الجواب بـ«لا بأس» صحيح ووارد في محلّه .
هنا تتحقّق إحدى مصاديق قاعدة الطهارة التي تقضي بالحكم بطهارة كلّ شيء مشكوك في طهارته ، فالأرض مشكوك النجاسة ، ولذلك فهي تدخل ضمن قاعدة الطهارة ، ويحكم بطهارتها ، ويتّضح من خلال ذلك أ نّ قاعدة الطهارة هي الأساس لقوله «لا بأس» ، والسؤال الآن: كيف يمكن أن نُبرّر استناد الإمام (عليه السلام) للآية {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} .
للإجابة على هذا السّؤال قد يقال: إنّ الآية تشكّل الأساس والأصل في تبلور
(الصفحة 67)
قاعدة الطهارة ، أي أ نّ الله سبحانه وتعالى جعل قاعدة الطهارة لئلاّ يقع المكلّف في الحرج .
والإشكال الذي يرد على هذا الجواب هو أ نّ لسان قاعدة نفي الحرج لسان النفي ، وليس لسان الإثبات ، وأمّا قاعدة الطهارة فلسانها لسان إثبات طهارة كلّ شيء حتّى تعلم بنجاسته ، فهل من الصحيح أن نجعل قوله: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} والذي يفيد النفي دليلاً على مسألة ثبوتية وهي قاعدة الطهارة؟ وحتّى لو سلّمنا بذلك ، فإنّ النتيجة المترتّبة على هذا الأساس لا تفيدنا شيئاً ، حيث سيكون الأساس في هذا الترابط معلّقاً على قاعدة الطهارة .
وحتّى لو قلنا : إنّ بإمكاننا أن نتمسّك بعموميّة القاعدة ، لكن فيما يخصّ المورد فلا يمكن أن تعود علينا بأيّة فائدة ، لأ نّ قاعدة الطهارة ، تجري هنا . ومن المستبعد أن تكون الآية: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ناظرة إلى قاعدة الطهارة ، فقاعدة الطهارة وإن كانت في الأصل مبتنية على أساس التسهيل وعلى أساس الشريعة السمحة السهلة ، وهذا المعنى بنفسه أي كون الشريعة سمحة وسهلة يُراد له فيما بعد أن يكون من الأدلّة على قاعدة الحرج ، أمّا أن نربط آية: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} فيما يخصّ هذه الرواية بقاعدة الطهّارة ، فهذا أمرٌ لا يجوّزه العقل .
وعلينا أن نعود إلى أوّل نقطة إنطلقنا منها ، وهي إذا لم نستطع أن نحدّد دلالة الرواية بالشكل الصحيح على ضوء الاحتمالات التي استعرضناها ، ولاحظنا أ نّ بعضها غير صحيح أصلاً ، وبعضها الآخر لايستقيم معها التعليل بالآية ، نقول: فهل لنا أن نعود إلى نفس المعنى الذي أشرنا إليه مُسبقاً ، فالإمام أجاب بـ«لا بأس» ولا ندري كيف يمكننا أن نستفيد من هذا الجواب ، وهل أ نّ قوله (عليه السلام): لابأس ، يشكّل أصلاً فيما يخصّ فتوى الفقهاء؟ لاندري ، فما هو معلوم أ نّ الإمام (عليه السلام) نفى البأس
(الصفحة 68)
وعلّل ذلك بـ {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ، وهذا التعليل العامّ فيما يخصّ نفي البأس دليل على وجود قاعدة تسمّى قاعدة نفي الحرج . ودليل على أ نّ الآية الكريمة حتّى في هذه الموارد الجزئية والفرعية أيضاً تأخذ مجراها أينما يوجد هناك مورداً حرجيّاً .
ولنا أن نتساءل هنا: هل يمكننا أن نقرّر هذا المعنى حتّى لو لم نطّلع على المعنى الواقعي للرواية؟
لأ نّ الاحتمالات الثلاثة الموجودة في الرواية لاتخلو من إشكال ، والإشكالات الموجودة فيها هي إشكالات مورديّة ، ولكن محور بحثنا ليس فيما يخصّ انفعال الماء القليل ، ولا في خصوص قاعدة الطهارة . ولا في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ، فإذا قصرنا جهدنا في بحثنا الروائي على الموارد والمصاديق ، فوجود هذه الاحتمالات لاتسمح لنا أن نرجّح أو أن نستظهر ، ولكنّنا في غنى عن كلّ هذه الموارد ، فما نحن بصدده هو أن نتوصّل إلى قاعدة نفي الحرج من خلال هذه الرواية بغضّ النظر عن خصوصّية الموارد ، وبناءاً على ذلك فإنّ النتيجة التي نتوصّل إليها في هذه الرواية الصحيحة هي:
إنّ الحكم بعدم البأس في الاستدلال بالآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} يكفي بالنسبة لنا في ما نحن فيه ، وإن كان يُراد لتلك الروايات في مواقع اُخرى أن نبحث جزئيات وموارد الرواية بما فيها من اشكالات تتعلّق ببحثنا هذا ، فلعلّه لايوجد هناك أيُّ اشكال كما هو الحال في غيره .
الرواية الثانية:
من الروايات التي استدلّ بها هي الرواية المعروفة الواردة في أبواب الوضوء ، نقلاً عن الشيخ الطوسي (قدس سره) بسنده ، قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): عثرت فانقطع
|