(الصفحة 66)
نجسة أبداً ، أو أ نّها نجسة ، ولكنّها لا تضرّ بالإناء؟ أيّهما نختار ؟ . فإذا قلنا : إنّ الإمام (عليه السلام)يقصد من وراء جوابه المتقدّم أ نّ هذه القطرات من الماء غير نجسة ، فما علاقة هذا المعنى بقوله تعالى
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} أي إنّنا إذا قلنا بأ نّ الغسالة ليست بنجسة فلا داعي للتمسّك بقوله تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} وإذا كان مبنى الإمام (عليه السلام) أ نّ هذه القطرات حال وقوعها في الإناء نجسة ، إلاّ أنّها لا تنجّس الإناء ، يواجهنا إشكال وهو أ نّ الإناء قد تنجّس ، فلا معنى لقوله: لابأس . لأ نّ الماء إذا كان قليلاً تنجّس . فهل تستطيع قاعدة الحرج أن تبيح الغسل بهذا الماء . أو أ نّه يتعيّن عليه التيمّم؟
هل يصحّ أن نقول بأ نّ الماء إذا تنجّس ولا يوجد ماء غيره ، فإنّ مقتضى الآية
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} سقوط شرط طهارة الماء . وبناءً على ذلك يجوز الغسل بالماء النجس؟ لا يقول بذلك أحد وحتّى ولو فرضنا أ نّ الماء القليل لاينفعل ، فإنّ التعليل بالآية:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} لا محلّ له ، وغير وارد .
أمّا إذا قلنا بالاحتمال الثالث ، بناءاً على النقل الآخر لرواية فضيل بن يسار فهنا تتلّخص المشكلة في الأرض ، حيث يحتمل أن تكون هي النجسة ، ففي هذه الحالة ، الجواب بـ«لا بأس» صحيح ووارد في محلّه .
هنا تتحقّق إحدى مصاديق قاعدة الطهارة التي تقضي بالحكم بطهارة كلّ شيء مشكوك في طهارته ، فالأرض مشكوك النجاسة ، ولذلك فهي تدخل ضمن قاعدة الطهارة ، ويحكم بطهارتها ، ويتّضح من خلال ذلك أ نّ قاعدة الطهارة هي الأساس لقوله «لا بأس» ، والسؤال الآن: كيف يمكن أن نُبرّر استناد الإمام (عليه السلام) للآية
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} .
للإجابة على هذا السّؤال قد يقال: إنّ الآية تشكّل الأساس والأصل في تبلور
(الصفحة 67)
قاعدة الطهارة ، أي أ نّ الله سبحانه وتعالى جعل قاعدة الطهارة لئلاّ يقع المكلّف في الحرج .
والإشكال الذي يرد على هذا الجواب هو أ نّ لسان قاعدة نفي الحرج لسان النفي ، وليس لسان الإثبات ، وأمّا قاعدة الطهارة فلسانها لسان إثبات طهارة كلّ شيء حتّى تعلم بنجاسته ، فهل من الصحيح أن نجعل قوله:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} والذي يفيد النفي دليلاً على مسألة ثبوتية وهي قاعدة الطهارة؟ وحتّى لو سلّمنا بذلك ، فإنّ النتيجة المترتّبة على هذا الأساس لا تفيدنا شيئاً ، حيث سيكون الأساس في هذا الترابط معلّقاً على قاعدة الطهارة .
وحتّى لو قلنا : إنّ بإمكاننا أن نتمسّك بعموميّة القاعدة ، لكن فيما يخصّ المورد فلا يمكن أن تعود علينا بأيّة فائدة ، لأ نّ قاعدة الطهارة ، تجري هنا . ومن المستبعد أن تكون الآية:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ناظرة إلى قاعدة الطهارة ، فقاعدة الطهارة وإن كانت في الأصل مبتنية على أساس التسهيل وعلى أساس الشريعة السمحة السهلة ، وهذا المعنى بنفسه أي كون الشريعة سمحة وسهلة يُراد له فيما بعد أن يكون من الأدلّة على قاعدة الحرج ، أمّا أن نربط آية:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} فيما يخصّ هذه الرواية بقاعدة الطهّارة ، فهذا أمرٌ لا يجوّزه العقل .
وعلينا أن نعود إلى أوّل نقطة إنطلقنا منها ، وهي إذا لم نستطع أن نحدّد دلالة الرواية بالشكل الصحيح على ضوء الاحتمالات التي استعرضناها ، ولاحظنا أ نّ بعضها غير صحيح أصلاً ، وبعضها الآخر لايستقيم معها التعليل بالآية ، نقول: فهل لنا أن نعود إلى نفس المعنى الذي أشرنا إليه مُسبقاً ، فالإمام أجاب بـ«لا بأس» ولا ندري كيف يمكننا أن نستفيد من هذا الجواب ، وهل أ نّ قوله (عليه السلام): لابأس ، يشكّل أصلاً فيما يخصّ فتوى الفقهاء؟ لاندري ، فما هو معلوم أ نّ الإمام (عليه السلام) نفى البأس
(الصفحة 68)
وعلّل ذلك بـ
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ، وهذا التعليل العامّ فيما يخصّ نفي البأس دليل على وجود قاعدة تسمّى قاعدة نفي الحرج . ودليل على أ نّ الآية الكريمة حتّى في هذه الموارد الجزئية والفرعية أيضاً تأخذ مجراها أينما يوجد هناك مورداً حرجيّاً .
ولنا أن نتساءل هنا: هل يمكننا أن نقرّر هذا المعنى حتّى لو لم نطّلع على المعنى الواقعي للرواية؟
لأ نّ الاحتمالات الثلاثة الموجودة في الرواية لاتخلو من إشكال ، والإشكالات الموجودة فيها هي إشكالات مورديّة ، ولكن محور بحثنا ليس فيما يخصّ انفعال الماء القليل ، ولا في خصوص قاعدة الطهارة . ولا في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ، فإذا قصرنا جهدنا في بحثنا الروائي على الموارد والمصاديق ، فوجود هذه الاحتمالات لاتسمح لنا أن نرجّح أو أن نستظهر ، ولكنّنا في غنى عن كلّ هذه الموارد ، فما نحن بصدده هو أن نتوصّل إلى قاعدة نفي الحرج من خلال هذه الرواية بغضّ النظر عن خصوصّية الموارد ، وبناءاً على ذلك فإنّ النتيجة التي نتوصّل إليها في هذه الرواية الصحيحة هي:
إنّ الحكم بعدم البأس في الاستدلال بالآية:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} يكفي بالنسبة لنا في ما نحن فيه ، وإن كان يُراد لتلك الروايات في مواقع اُخرى أن نبحث جزئيات وموارد الرواية بما فيها من اشكالات تتعلّق ببحثنا هذا ، فلعلّه لايوجد هناك أيُّ اشكال كما هو الحال في غيره .
الرواية الثانية:
من الروايات التي استدلّ بها هي الرواية المعروفة الواردة في أبواب الوضوء ، نقلاً عن الشيخ الطوسي (قدس سره) بسنده ، قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): عثرت فانقطع
(الصفحة 69)
ظفري ، فجعلت على أصبعي مرارة ، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّوجلّ ، قال الله تعالى:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} إمسح عليه(1) .
سند الرواية
سند الشيخ صحيح باستثناء الراوي الأخير وهو عبد الأعلى مولى آل سام . فأغلب الرجاليين باستثناء الكشّي (رحمه الله) لا يوثّقون المولى عبد الأعلى مولى آل سام هذا توثيقاً جيّداً . والمرحوم الكشّي (رحمه الله) ، عندما يصل الحديث إليه يروي رواية في مدحه ، والرواية ينقلها عن لسانه وهي أ نّ عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبدالله: إنّ الناس يعيبون عليِّ بالكلام ، وأنا اكلّم الناس .
فقال (عليه السلام):
«أما مثلك من يقع ثمّ يطير فنعم ، وأمّا من يقع ثمّ لا يطير فلا»(2) .
ويفهم من الرواية أ نّ عبد الأعلى آل سام كان ضليعاً في علم الكلام ، وإذا كبا على الأرض فسرعان ما ينهض ويطير ، ولكن قد يستشكل على هذه الرواية أ نّ الراوي لها هو عبد الأعلى المولى آل سام نفسه ، لذا روايته هذه ليست حجّة .
ومن ضمن الرواة في سند هذه الرواية التي يذكرها الشيخ الطوسي (رحمه الله) هو ابن محبوب ، وهو من أصحاب الإجماع الذي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه ، ويصل عدد العصابة هذه إلى ثمانية عشر شخصاً ، يتوزّعون على طبقات مختلفة وأزمنة متفاوتة ، ويتميّز أصحاب الإجماع بخصوصيّة ، وهي : أ نّ الرّواية إذا وصلت إليهم صحيحة ، حينئذ لا حاجة إلى التأمّل لا في وثاقة هؤلاء ، ولا في الرواة الذين يروون عنهم . أي أ نّ أحدهم إذا روى عن الإمام (عليه السلام) بصورة مباشرة
- 1 . الوسائل 1: 464 ، الباب 39 من أبواب الوضوء ، الحديث 5 .
- 2 . اختيار معرفة الرجال ـ ص 319 ـ رقم 578 .
(الصفحة 70)
فهو حجّة ، حتّى ولو كان بينه وبين الإمام (عليه السلام) وسيط واحد أو عدّة وسائط ، فلا داعي لإعمال الدّقة والنظر في الوسيط والوسائط ، ويكفي في ذلك أ نّ السند يصل مثلاً إلى ابن محبوب ، فإذا صحّ السند بالنسبة إلى من سبق ابن محبوب ، فلا داعي بعد ذلك إلى التأمّل فيه أو فيمن يروي هو عنهم .
ومن ضمن الذين يروي عنهم ابن محبوب في هذا السند هو عبد الأعلى ، وإذا أردنا توضيح معنى ما يقال عادة في خصوص أحد الرواة ، أو مجموعة من الرواة من أنهم معقد الإجماع ، فمعنى ذلك أ نّ العصابة أجمعت على تصحيح ما يصحّ عن الجماعة ، فيلزم ذلك أن نعتبر هذه الرواية صحيحة السند بلحاظ أنّ ابن محبوب في سند هذه الرواية ، وسند الرواية إلى أن يصل إلى ابن محبوب صحيح أيضاً ، ومن ابن محبوب فصاعداً لا يحتاج إلى تفحّص .
أمّا إذا لم نلتزم بهذا المعنى ، باعتبار أ نّ ما ورد في كتاب رجال الكشّي في خصوص من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم لا يفيدنا أكثر من أ نّ هؤلاء متّفقٌ على وثاقتهم ، بخلاف بقية الرواة ، حيث إنّ وثاقتهم غير محرزة ، وقد يؤيّد البعض وثاقتهم ، والبعض الآخر يختار الصمت إزائهم ، أو يكونوا مختلفٌ فيهم ، أمّا في خصوص أصحاب الإجماع ، فلا أحد يشكّ في وثاقتهم .
إذن معنى «أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة» هو أ نّ الرواية إذا وصلت صحيحة إلى أصحاب الإجماع فعليكم أن لا تشكّوا فيهم ، لأ نّهم قد احرزت وثاقتهم ، إذا ألتزمنا بهذا المعنى لأصحاب الإجماع ، يلزم أن تكون رواية عبد الأعلى مولى آل سام غير صحيحة بالضرورة ، حتّى ولو كان ابن محبوب والذي يُعدّ من أصحاب الإجماع من ضمن سند الرواية .
ومن هنا تتّضح لدينا نظرّيتان ، وظهر لي من خلال التحقيق أ نّ القول الأوّل هو الأصوب ، أو فقل : هو أكثر شهرةً من القول الأوّل ، أي أ نّ ميزة أصحاب