(الصفحة 70)
فهو حجّة ، حتّى ولو كان بينه وبين الإمام (عليه السلام) وسيط واحد أو عدّة وسائط ، فلا داعي لإعمال الدّقة والنظر في الوسيط والوسائط ، ويكفي في ذلك أ نّ السند يصل مثلاً إلى ابن محبوب ، فإذا صحّ السند بالنسبة إلى من سبق ابن محبوب ، فلا داعي بعد ذلك إلى التأمّل فيه أو فيمن يروي هو عنهم .
ومن ضمن الذين يروي عنهم ابن محبوب في هذا السند هو عبد الأعلى ، وإذا أردنا توضيح معنى ما يقال عادة في خصوص أحد الرواة ، أو مجموعة من الرواة من أنهم معقد الإجماع ، فمعنى ذلك أ نّ العصابة أجمعت على تصحيح ما يصحّ عن الجماعة ، فيلزم ذلك أن نعتبر هذه الرواية صحيحة السند بلحاظ أنّ ابن محبوب في سند هذه الرواية ، وسند الرواية إلى أن يصل إلى ابن محبوب صحيح أيضاً ، ومن ابن محبوب فصاعداً لا يحتاج إلى تفحّص .
أمّا إذا لم نلتزم بهذا المعنى ، باعتبار أ نّ ما ورد في كتاب رجال الكشّي في خصوص من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم لا يفيدنا أكثر من أ نّ هؤلاء متّفقٌ على وثاقتهم ، بخلاف بقية الرواة ، حيث إنّ وثاقتهم غير محرزة ، وقد يؤيّد البعض وثاقتهم ، والبعض الآخر يختار الصمت إزائهم ، أو يكونوا مختلفٌ فيهم ، أمّا في خصوص أصحاب الإجماع ، فلا أحد يشكّ في وثاقتهم .
إذن معنى «أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة» هو أ نّ الرواية إذا وصلت صحيحة إلى أصحاب الإجماع فعليكم أن لا تشكّوا فيهم ، لأ نّهم قد احرزت وثاقتهم ، إذا ألتزمنا بهذا المعنى لأصحاب الإجماع ، يلزم أن تكون رواية عبد الأعلى مولى آل سام غير صحيحة بالضرورة ، حتّى ولو كان ابن محبوب والذي يُعدّ من أصحاب الإجماع من ضمن سند الرواية .
ومن هنا تتّضح لدينا نظرّيتان ، وظهر لي من خلال التحقيق أ نّ القول الأوّل هو الأصوب ، أو فقل : هو أكثر شهرةً من القول الأوّل ، أي أ نّ ميزة أصحاب
(الصفحة 71)
الإجماع لا تقتصر على أنفسهم فحسب ، بل إنّ من ينقل عنهم أيضاً يمتازون بمميزاتهم ، يعني أ نّ رواياتهم تكون صحيحة .
البحث في دلالة الرواية
هذه الرواية تمتاز عن بقية الروايات الاُخرى بميزة ، وهي أ نَّ الإمام (عليه السلام) يصرّح على أ نّه مع وجود الآية وهو قوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} لم تكن هناك حاجة للسؤال ، وكان عليك أيّها السائل أن تستعين بكتاب الله في التوصّل إلى حكم هذه المسألة . وهذا مالم نشهده في الروايات الاُخرى ، فقد يرد استشهاد في غيرها من الروايات بقول الله تبارك وتعالى ، ولكن ليس بالدرجة التي يفقد بوجودها السؤال معناه . وهذا يكشف عن أ نّ الآية: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} فيها معنىً عرفيّاً واسعاً لا يحتاج إلى تفسير ، وأ نّ معناها بدرجة من الوضوح والظهور بحيث إنّ الإنسان إذا التفت إلى هذا المعنى ، يمكنه أن يستخرج أحكاماً لمصاديق الحرج هذه بنفسه .
نتيجة القول: إنّ هذه الرواية صالحة للاستدلال بغضّ النظر عن سندها ، وكما قلت ، فإنّ دلالة هذه الرواية هي على موردها .
وهناك عدَّة ملاحظات فيما يخصّ جوانب الرواية ، إحدى هذه الملاحظات هي أ نّ الإمام (عليه السلام) بعد أن قرأ قول الله تبارك وتعالى ، قال إمسح عليها ، أي إمسح على الجبيرة ، والسؤال هنا: هل هذا الحكم الإثباتي استفيد من قوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} أو أ نّ الآية الكريمة ـ كما سنوضّح ذلك إن شاء الله ـ تريد أن تنفي الإلزام أو الوجوب أو التحريم ، ولكن نفي الآية: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} لايستفاد منها أمراً لزوميّاً معيّناً ، ففي الآية التي تطرَّقنا إليها سابقاً {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} قلنا : إنّ هذه الآية لا علاقة لها
(الصفحة 72)
بإيجاب التيمم ، إنّما لها مدخلية في نفي وجوب الوضوء ، فمن لم يجد ماءً لا يجب عليه الوضوء لقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} وهنا لابدّ أن نتصور معنى مشابهاً لذلك المعنى ، أي أ نّ هذا الشخص قبل أن ينقطع ظفره كان واجباً عليه أن يمسح على البشرة ، ويقصد بالبشرة نفس الأظفر . وهو جزء من القدم ، وبالتالي جزء من الجسم ، فمسح البشرة كان واجباً عليه ، والآن حيث انقطع الظفر وضُمَّد محل الجرح ، فإنّ بقاء وجوب المسح على البشرة مستلزم للحرج ، من هنا فإنّ الآية {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} تنفي وجوب المسح على البشرة ، ويرتفع بذلك الوجوب الذي كان ثابتاً على المكلّف قبل أن يعثر .
والسؤال هو: بأيّ دليل توجب المسح على القماش؟ فهل استند في صدور هذا الحكم إلى آية نفي الحرج ، أو أ نّ هذا الحكم مبتن على قاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» ؟ .
بيّن المرحوم الشّيخ الأنصاري ـ أعلى الله مقامه ـ في كتاب الرسائل كيفية الاستدلال بآية الحرج مع كون المسح على الجبيرة أمرٌ لازم ، فيقول: لو انقطع الظفر ولم يكن الحكم قد صدر في هذه المسألة بعد ، لكان المسح على المكلّف أمراً واجباً . وفي المسح يوجد هناك لحاظان:
أحدهما: إمرار اليد على المحلّ .
والآخر: هو أن يكون للمحلّ بشرة ، أي أن تمر اليد على البشرة مباشرةً ، ثمّ يقول: والآن حين انقطع الظفر ، فأيُّ من هذين الحكمين اللزوميين ـ لزوم إمرار اليد على المحلّ ولزوم كون المحلّ هي البشرة ـ هو من باب الحرج ، وباعتقادنا فإنّ الحرج يكمُن في اللحاظ الثاني ، وهو مباشرة البشرة ، ووقوع اليد على البشرة يستلزم الحرج ، أمّا أصل إمرار اليد على المحلّ بغضّ النظر عن إمرار اليد على البشرة لايكون حكماً حرجيّاً ، ولا يكون إلزاماً موجباً للوقوع في الحرج .
(الصفحة 73)
إذن ، في الحقيقة نحن لسنا بحاجة إلى قاعدة (الميسور لايسقط بالمعسور) وما شابهها ، فنفس المسح الاختياري ينحلّ إلى حكمين لزوميّين ، وأحد هذين الحكمين اللزوميين يوجب الحرج ، وتدخل في الآية: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}يقول مباشرة: (إمسح عليه ، أي على المرارة) من باب أ نّ المسح على المرارة يتحقّق معه شرط إمرار اليد .
وقد أشكل البعض على الشيخ بأ نّه ليس بمقدورنا أن نحلّل الحكم بلزوم المسح إلى حكمين عرضيين ، فإمرار اليد إنّما هو مقدّمة للمسح على البشرة ، وصحيح أ نّهما حُكمان ، أحدهما يعتبر مقدّمة للآخر ، فإذا رفعت الآية الكريمة ذا المقدّمة ، فإنّ وجوب المقدّمة يرتفع لوحده ، لأ نّه معلّق بشكل كامل على وجوب ذي المقدّمة ، ولأ نّ وجوبها تبع لوجوب ما كانت مقدّمة لأجله .
ولكن هذا الإشكال غير صحيح ، لأ نّه كما لاحظنا في باب الوضوء بالنسبة للأعضاء التي يجب غسلها كالوجه واليدين ، لايشترط في غسلها آلة خاصّة ، حيث يصح للمكلّف أن لا يستخدم يدهُ عند الوضوء ، كأن يصبّ الماء على وجهه بواسطة إناء ، وكذلك على اليد اليمنى واليد اليسرى ، فلا مانع من ذلك ، لأ نّه يشترط في الغسل غسل الوجه ، ولكن بأيّ طريقة تتحقّق عملية الغسل ، فهذا غير مهمّ ، فيمكنه أن يتوضّأ وضوءً إرتماسياً ، ولكن في غسل الوجه عليه أن يبدأ من الأعلى إلى الأسفل ، وأن يراعي الترتيب ، وأن يغطس يديه من الأعلى إلى الأسفل ، فالمهمّ في الوضوء غسل الوجه والكفّين بأيّ شكل كان .
أمّا بالنسبة للمسح ، فهل المراد هو إيجاد رطوبة على الرجل ، أو أ نّ حقيقة المسح ومفهومه هو نفس إمرار اليد ، فبالنسبة للوضوء توجد هناك قرينة على أ نّ إمرار اليد له مدخلية في ماهيّة المسح ، إذ لا معنى لأن نقول : إنّ الإمرار باليد هو مقدّمة وقوع الرطوبة على بشرة الرجل أو على بشرة الرأس ، ومن هنا نلخص إلى
(الصفحة 74)
القول بأ نّ إمرار اليد نفسه له أصالة وموضوعيّة ، والشرط في المسح أن تكون يدك مرطوبة .
إذن نعود ونؤكّد بأ نّه لايصحّ أن نقول بأ نّ إمرار اليد هو مقدّمة في باب المسح ، لأ نّ هذا المعنى لايلائم مع حقيقة المسح ، ولا يلائم مع قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} لأ نّ نفس عمليّة إمرار اليد لها مدخليّة في ماهيّة المسح ، بخلاف ماهية الغسل والذي يتحقق بغسل المحلّ بأيّ نحو كان .
إذن هناك فرق بين المسح وبين الغسل ، وليس بمقدورنا أن نفرض موضوع إمرار اليد مقدّمة في باب المسح ، أي أ نّ الغرض ليس إيصال رطوبة من الوضوء إلى الرأس وإلى الرجلين ، وإنّما الهدف هو تحقّق عنوان المسح ، ومن هنا يتّضح صحّة بيان المرحوم الشيخ الأنصاري (قدس سره) في هذا الخصوص حيث يقول: إنّ الآية: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} يستفاد منها حكمان لزوميان .
أحدهما: إمرار اليد ، ويستفاد هذا المعنى من الروايات والقرائن الخارجيّة .
والثاني: أ نّ ذاك المحل يجب أن يكون على بشرة ، كأن يكون بشرة الرأس وبشرة الرجلين .
إذن بعد أن أصبح قيد البشرة مستلزماً للحرج ، لانقطاع الظفر ووجود المرارة على المحلّ حيث لايمكن أن نرفع المرارة ـ قطعة الضماد والدواء الموضوع على محلّ الحرج ـ فإنّ هذا القيد ينتفي بواسطة الآية الكريمة: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ، وأمّا أصل قوله تعالى «إمسحوا» فيما يخّص الوضوء الذي تتحقّق فيه حقيقة المسح وهي إمرار اليد فهو أمرٌ باق .
والإشكال الآخر الذي يشكل به على هذه الرواية ويحتاج إلى بحث ومناقشة ، هو أ نّ المسح على الرجلين يختلف عن المسح على الرأس ، فبالنسبة للمسح على الرأس لايلزم الاستيعاب ، لا طولاً ولا عرضاً ، ويكفي في ذلك أن
|