(الصفحة 225)
ومنها : عموم قوله(عليه السلام) : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة . . .»(1) والتمسّك به مخدوش أيضاً ، من جهة احتمال اختصاص حديث لا تعاد بما إذا صار النسيان سبباً لترك شيء ممّا اعتبر وجوده في المأمور به جزءً أو شرطاً ، وأمّا إذا صار سبباً لإيجاد بعض الموانع التي اعتبر عدمها فيها ، فلا يعلم أن يشمل هذا الحديث له، والسرّ فيه أنّ الاستثناء في الحديث يكون مفرغاً ، لعدم ذكر المستثنى منه ، والأمور الخمسة المستثناة دائرة بين ما اعتبر وجوده بنحو الجزئية ، أو الشرطية ، فيحتمل قويّاً أن يكون المستثنى منه من سنخها ، بحيث لم يعمّ الأمور التي يكون وجودها مخلاًّ بالمأمور به كما لا يخفى .
ومنها : خصوص رواية عليّ بن جعفر ، المروية في محكيّ قرب الإسناد إنّه سأل أخاه عن رجل افتتح الصلاة فقرأ سورة قبل فاتحة الكتاب ثم ذكر بعدما فرغ من السورة؟ قال : «يمضي في صلاته ويقرأ فاتحة الكتاب فيما يستقبل»(2).
ودلالتها على الصحة وإن كانت ظاهرة ، إلاّ أنّها بظاهرها مخالفة للمشهور القائلين بوجوب إعادة السورة بعد قراءة الفاتحة ، لأنّ ظاهرها الاكتفاء بالسورة التي قرأها ، وعدم وجوب قراءة الفاتحة ، ولا إعادة السورة ، ومرجعه إلى فوات محلّ الفاتحة بسبب تقديم السورة ، لأنّ المراد بقوله : «يمضي في صلاته» ، هو المضيّ بنحو كأنّه قرأ الفاتحة قبلها .
فالمراد بقوله : «فيما يستقبل» هي الركعات التي بعد هذه الركعة ، فمضمون الرواية هو الاكتفاء بالسورة التي قرأها ، لفوات محلّ الفاتحة بسببها ، وإن لم يركع .
وأمّا ما في المصباح من كون المراد بقوله : «يمضي في صلاته» ، هو مجرّد
- (1) الفقيه 1 : 181 ح857 ; التهذيب 2: 152 ح597; الوسائل 4 : 312 . أبواب القبلة ب9 ح1 .
- (2) قرب الاسناد : 170 ح748; الوسائل 6 : 89 . أبواب القراءة في الصلاة ب28 ح4 .
(الصفحة 226)
الصحة ، ووجوب القراءة فيما يستقبل راجع إلى وجوب الابتداء بها بعد المضيّ في الركعة التي قدّم فيها السورة(1) ، فهو خلاف ظاهر الرواية كما لايخفى على المتأمّل المنصف .
ولكن يعارض هذه الرواية في خصوص موردها مع بعض الروايات الاُخر ، مثل موثقة سماعة قال : سألته عن الرجل يقوم في الصلاة فينسى فاتحة الكتاب؟ قال : «فليقل: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم إنّ الله هو السميع العليم، ثم ليقرأها مادام لم يركع فإنّه لا قراءة حتّى يبدأ بها في جهر أو إخفات»(2) .
فإنّ نسيان الفاتحة قبل الركوع لا يصدق إلاّ بعد الشروع فيما يكون بعدها من السورة ، مضافاً إلى أنّه نفي القراءة والبدء بالفاتحة إنما يكون فيما إذا قرأ شيئاً من غيرها ، وإلاّ فلا معنى له أصلا كما لا يخفى .
وحينئذ فمفاد الرواية وجوب قراءة الفاتحة بعد التذكّر ، وارتفاع النسيان في مورد تلك الرواية ، فتكون معارضة لها .
ونظيرها رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل نسي أُمّ القرآن؟ قال : «إن كان لم يركع فليعد اُمّ القرآن»(3) ، فإنّ نسيانها إنما هو فيما إذا قرأ السورة أو شيئاً منها ، والتعبير بالإعادة مع أنّه لم يقرأ الفاتحة بملاحظة استئناف القراءة ، كأنّه لم يقرأ أصلا ، فالمراد منها هو الرجوع ورفع اليد عمّا قرأ ، ولا يخفى أنّ الترجيح بعد التعارض معهما باعتبار كون فتوى المشهور ـ وهو وجوب قراءة الفاتحة وإعادة السورة ـ مطابقاً لهما ، فالرواية الأولى معرض عنها .
- (1) مصباح الفقيه، كتاب الصلاة: 289.
- (2) التهذيب 2 : 147 ح574; الوسائل 6 : 89 . أبواب القراءة في الصلاة ب28 ح2.
- (3) الكافي 3: 347 ح2; الوسائل 6: 88 . أبواب القراءة في الصلاة ب28 ح1.
(الصفحة 227)
المسألة العاشرة : هل يجوز القراءة من المصحف؟
قد وقع الخلاف بين فقهاء العامة والخاصة ، في جواز القراءة من المصحف لدى التمكّن من الحفظ عن ظهر القلب ، بعد الاتّفاق ظاهراً على الجواز عند الضرورة ، وعدم القدرة على الحفظ .
فعن ظاهر الشيخ(1) في أكثر كتبه وجماعة(2) المنع ، وظاهر جماعة كالمحقّق والعلاّمة القول بالجواز(3) ، ويدلّ عليه مضافاً إلى الأصل ، ما رواه الشيخ في
- (1) لا يخفى أنّ منع الشيخ (قدس سره) بحسب ظاهر كلامه إنما هو فيما إذا قرأ الفاتحة أو السورة الواجبة بعدها في المصحف ، وأمّا مجرّد قراءة القرآن في الصلاة من المصحف فلا يظهر من كلامه المنع ، بل صرّح بالجواز ، فإنّه قال في كتاب الخلاف 1: 427 مسألة 157 : من لا يحسن القراءة ظاهراً جاز له أن يقرأ في المصحف ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : ذلك يبطل الصلاة ، دليلنا اجماع الفرقة وأخبارهم وأيضاً قوله تعالى :
{فاقرؤوا ما تيسّر من القرآن}
- ولم يفرق . انتهى
- وقال في ص441 مسألة 189: إذا قرأ في صلاته من المصحف فجعل يقرأ ورقة فإذا فرغ صفح اُخرى وقرأ لم تبطل صلاته وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تبطل صلاته ، لأنّه تشبّه بأهل الكتاب، وهذا ممنوع منه ، دليلنا إجماع الفرقة، وأيضاً الأصل الاباحة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، وأيضاً نواقض الصلاة يعلم شرعاً ، وليس في الشرع ما يدلّ على أنّ ذلك يبطل الصلاة . وروى الحسن بن زياد الصيقل قال : سألته إلى آخر الرواية . انتهى .
- وأنت خبير بأنّ مورد كلامه الأول الذي حكم فيه بالجواز لخصوص من لا يحسن القراءة ظاهراً ، وظاهره المنع لغيره إنما هي القراءة المعتبرة في صحة الصلاة ، ومورد كلامه الثاني هي القراءة من المصحف زائدة على ما يعتبر في أصل الصلاة; ومنه يعلم أنّه(رحمه الله) حمل رواية الحسن بن زياد الصيقل على هذا المعنى ، ولذا لم يستدلّ به في كلامه الأول ، كما أنّه يعلم أنّ استدلال أبي حنيفة للبطلان بأنّه تشبّه بأهل الكتاب ، إنما هو في هذا المورد ، فيمكن أن يكون دليله على المنع في المورد الأول هو
- (2) المبسوط 1: 109; الخلاف 1: 427 مسألة 175; النهاية : 80 ; الذكرى 3: 306; مدارك الأحكام 3: 342; مسالك الأفهام 1: 205; جامع المقاصد 2: 252; كشف اللثام 4: 22.
- (3) المعتبر 2 : 174; المنتهى 5 : 70; تذكرة الفقهاء 3: 151 مسألة 235; الذخيرة: 272; مجمع الفائدة والبرهان 2 : 212; مستند الشيعة 5: 81 ; جواهر الكلام 9: 311.
(الصفحة 228)
التهذيب بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن العبّاس بن معروف، عن عليّ ابن مهزيار، عن فضالة بن أيّوب، عن أبان بن عثمان، عن الحسن بن زياد الصيقل قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : ما تقول في الرجل يصلّي وهو ينظر في المصحف يقرأ فيه يضع السراج قريباً منه؟ فقال : «لا بأس بذلك»(1) .
ودلالته على الجواز في مورد الكلام ، مبنية على أن يكون المراد بالقراءة في المصحف ، هي القراءة المعتبرة في صحة الصلاة ، بمعنى أنّه يقرأ فاتحة الكتاب ، أو السورة التي تجب قراءتها بعدها في المصحف ، وأمّا لو كان المراد هي قراءة القرآن عدا ما اعتبرت في صحة الصلاة ، بحيث كان مرجعه إلى السؤال عن جواز قراءة القرآن في الصلاة ناظراً في المصحف ، فهو أجنبيّ عن المقام ، ولكنّه لا دليل على تعيّن هذا الاحتمال ، مضافاً إلى أنّ السؤال وترك الاستفصال دليل على الشمول وعدم الاختصاص ، كما هو واضح .
وقد استدلّ للمنع بما رواه الحميري في قرب الإسناد عن عبدالله بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل والمرأة يضع المصحف أمامه ينظر فيه ويقرأ ويصلّي؟ قال : «لا يعتدّ بتلك الصلاة»(2) . ولكنّه محمول على الكراهة جمعاً بينه وبين الخبر المتقدّم ، لأنّ هذا ظاهر في عدم الجواز ، وهو نص في الجواز ، فيرفع اليد عن الظهور بسبب النص .
مضافاً إلى أنّ كتاب قرب الإسناد لا يبلغ في الاعتبار ما بلغه مثل التهذيب الذي كان مرجعاً لأهل الفتوى في كلّ عصر وزمان ، وذلك يوجب شدّة الاهتمام به ، وتحصيل كلّ منهم نسخة صحيحة مطابقة لنسخة الأصل ، وإلى أنّه يحتمل قريباً أن يكون هذا الخبر صدر تقية، باعتبار كون الفتوى الشائع من العامة في ذلك
- (1) التهذيب 2 : 294 ح1184; الوسائل 6 : 107 . أبواب القراءة في الصلاة ب41 ح1 .
- (2) قرب الاسناد : 168 ح728; الوسائل 6 : 107 . أبواب القراءة في الصلاة ب41 ح2 .
(الصفحة 229)
الزمان هو المنع .
ثم إنّه حكي عن أبي حنيفة القائل ببطلان الصلاة بسبب القراءة من المصحف أنّه استدلّ لمذهبه تارة بأنّه تشبّه بأهل الكتاب كما هو المحكيّ عنه في الخلاف(1) ، واُخرى بقول النبي(صلى الله عليه وآله) للأعرابي الذي صلّى مرتين أو مرّات فاسدة ، في مقام بيان الصلاة الصحيحة : «إقرأ ما تيسّر من القرآن»(2) ، ولم يأمره بالقراءة من المصحف ، فلو كان ذلك جائزاً لكان الواجب أن يأمره به .
وأنت خبير بفساد كلا الدليلين :
أمّا الأول: فواضح .
وأمّا الثاني: فلأنّ الأعرابي البدوي لا يتمكّن من القراءة من المصحف ، ولا من غيره غالباً ، مضافاً إلى وضوح قلّة المصاحف في ذلك الزمان .
وبالجملة: فلم يقم على المنع دليل ، فلا يبعد القول بالجواز ، وإن كان الأحوط الترك .
ثم إنّه على المنع اختلف في تقدّمه على الائتمام ، أو اتباع القارئ ، أو تأخّره عنهما ، أو التساوي ، فالمحكيّ عن البيان والمسالك أنّ المصحف مقدّم على الائتمام(3) ، وقال الشهيد في محكيّ الذكرى : وفي ترجيحه ـ يعني اتباع القارئ ـ على المصحف احتمال ، لاستظهاره في الحال، ولو كان يستظهر في المصحف استويا(4) .
والمحكيّ عن كشف اللّثام ، وجامع المقاصد التخيير بين الأمور الثلاثة ، وعدم الترتيب بينها(5) ، والتحقيق أنّه لا وجه لتقدّمه على الائتمام ، لأنّ الائتمام إنما يكون
- (1) الخلاف1 : 441 مسألة 189 .
- (2) سنن ابن ماجة 1: 336 ح1060.
- (3) مسالك الأفهام 1: 205; البيان : 83 .
- (4) الذكرى 3 : 307 .
- (5) كشف اللثام 4 : 22; جامع المقاصد 2: 252.