(الصفحة 316)
وإن كان موافقاً للأخبار الدالة على هذا المضمون ، إلاّ أنّه لا يلائم مع ما يدلّ على كون التسليم محلّلا ، لأنّ ظاهره باعتبار إضافة التحليل إلى الصلاة أنّه ما لم يسلّم يكون الإتيان بشيء من المنافيات مضرّاً بالصلاة ، وموجباً لبطلانها ، فكيف يلائم ذلك مع القول بعدم كون الحدث قبل وجود المحلّل مبطلا كما هو ظاهر ؟!
والحقّ في مقام الجمع بين الأخبار أن يقال : إنّك عرفت أنّ اعتبار كون التسليم محلّلا إنما هو لعدم كونه من سنخ الصلاة التي هي عبارة عن سنخ القراءة ، والركوع ، والسجود ، كما عرفت في بعض الأخبار المتقدمة(1) ، لأنّه من كلام الآدميّين ، ولا مناسبة بينه وبين التوجه إلى الخالق .
وبعبارة اُخرى التسليم ـ باعتبار كونه منافياً لحقيقة الصلاة ، ولذا تبطل لو وقع في أثنائها ـ جعل محلّلا من الاحرام الصغير المبتحقق بتكبيرة الاحرام الباقي إلى آخر الصلاة ، ففي الحقيقة لايكون من أجزاء الصلاة ، لعدم كونه من سنخها ، كما أنّه ليس بخارج منها، لعدم وقوع التحلّل بغيره .
وحينئذ فلا بأس في التعبير بتمامية الصلاة بعد التشهد ، كما أنّه يمكن أن لايكون الحدث غير العمدي مضرّاً بصحتها إذا وقع قبل التسليم ، لبتحقق الفراغ من أجزاء الصلاة حقيقة ، وإن توقّف التحلّل على التسليم ، لكونه مقتضى اتصافه بوصف المحلّلية للصلاة كما لايخفى .
وربما يستدلّ على وجوب التسليم بما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم»(2) . والإشكال فيه من جهة الارسال لا يوجب القدح ، بعد كون رواته من العامة مورداً للوثاقة ، وبعد اشتهار الاستدلال به ، حتى ممّن لا يعمل بخبر الواحد ، ولو
- (1) الوسائل 6: 417. أبواب التسليم ب1 ح10 .
- (2) سنن ابن ماجة1 : 101 ح 275 و 276 .
(الصفحة 317)
كان مسنداً .
مضافاً إلى أنّه مرويّ مسنداً من طريق الإمامية أيضاً(1) ، كما أنّ الإشكال فيه من حيث الدلالة مندفع بظهور الرواية في انحصار التحليل في التسليم ، كما هو المتفاهم منها بنظر العرف ، والوجه فيه إمّا أنّ التسليم حيث وقع خبراً فلا يجوز أن يكون أخصّ ، فلابدّ من أن يكون مساوياً أو أعمّ ، وإمّا أنّه مبتدأ مؤخّر ، والتسليم خبر مقدّم، لأنّه عارض للتسليم لاالعكس، ومن المعلوم أنّ تقديم الخبر يفيد الحصر.
وبالجملة: لا مجال للمناقشة فيها; لا من حيث السند ، ولا من حيث الدلالة .
ثم إنّه ذكر السيد المرتضى(قدس سره) في الناصريّات في جملة الأدلة على وجوب السلام وردّ من يقول بعدم الوجوب كلاماً هذا لفظه :
وممّا يجوز الاستدلال به على من خالف من أصحابنا في وجوب التسليم ، أن يقال : قد ثبت بلا خلاف وجوب الخروج من الصلاة ، كما ثبت وجوب الدخول فيها ، فإن لم يقف الخروج هاهنا على السلام دون غيره ، جاز أن يخرج بغيره من الأفعال المنافية للصلاة كما يقول أبو حنيفة ، وأصحابنا لا يجوّزون ذلك ، فثبت وجوب السلام(2) ، انتهى .
أقول : لا يخفى أنّ المركب مادام لم يتحقق أجزاؤه بأجمعها ، لا يكون متحققاً أصلا ، وإذا حصلت يوجد ثم ينعدم ، ولا يتوقّف انعدامه على الخروج منه بشيء آخر ، بل يكفي في ذلك مجرّد الفراغ من أجزائه، وحينئذ فما ذكره من أنّ الخروج من الصلاة واجب كالدخول فيها، لا يتم لو كانت الصلاة عبارة عن نفس الأقوال
- (1) الكافي 3 : 69 ح2 ، وفيه : «عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
: افتتاح الصلاة الوضوء و . . .»; والفقيه 1 : 23 ح68 ، وفيه : «قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : «افتتاح الصلاة الوضوء ، و . . .» ; الوسائل 6: 415 و 417. أبواب التسليم ب1 ح1 و 8 .
- (2) المسائل الناصريات : 213 مسألة 82 .
(الصفحة 318)
والأفعال المعهودة المعلومة ، إذ مادام لم تبتحقق تلك الأفعال والأقوال لا تبتحقق الصلاة ، فلا يصدق الدخول فيها ، كما أنّه إذا تحقّقت بأجمعها تحصل ثم تنعدم ، فلا يتوقّف الخروج منها على شيء .
وبالجملة: فالتعبير بالدخول والخروج والتكليف بهما لا يصح ، لو كانت الصلاة عبارة عمّا ذكرنا ، نعم يتمّ ذلك لو كانت عبارة عن التوجه إلى الخالق ، والخضوع ، والخشوع ، في مقابله الذي هو أمر يتحقق بمجرّد التكبير الذي هو إحرام للصلاة ، ويستمرّ إلى أن يتحقق الفراغ منها بالتسليم الذي به يحصل التحلّل من إحرامها ، كحصوله في إحرام الحجّ والعمرة بالحلق أو التقصير .
وحينئذ فيصحّ التكليف بالخروج منها ، إذ هي باقية مادام لم يحصل التحلّل منها بالإتيان بشيء من المنافيات ، فما أفاده السيد(قدس سره) يؤيد ما ذكرنا في معنى كون السلام محلِّلا كما عرفت .
فروعٌ
الفرع الأوّل : نسيان التسليم
إذانسي التسليم ، فذكر بعد الإتيان بشيء من المنافيات مطلقاً عمداً أو سهواً ، أوبعد فوت الموالاةولولم يأت بشيءمن المنافيات ، فهل تصحّ صلاته أم لا؟ وجهان.
من أنّ مقتضى حديث «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة . . .»(1) ، عدم بطلانها إلاّ من ناحية الاخلال بشيء من الاُمور الخمسة المذكورة فيه ، والتسليم ليس منها ، فلا تجب إعادتها من جهة الاخلال به .
- (1) الفقيه1 : 181 ح857; التهذيب 2: 152 ح597; الوسائل 4 : 312. أبواب القبلة ، ب9 ح1 .
(الصفحة 319)
ومن أنّ بطلان الصلاة ليس من جهة ترك التسليم ، بل من جهة الاتيان بالمنافي في أثناء الصلاة ، والمفروض كونه منافياً مطلقاً ولو صدر سهواً .
هذا ، ولا يخفى أنّ وقوعه في أثناء الصلاة متوقّف على عدم سقوط السلام عن الجزئية ، وإلاّ فالمنافي قد وقع بعد الصلاة ، لا في أثنائها ، فالاستدلال لعدم السقوط بوقوع المنافي في الأثناء إنما يصير على وجه دائر .
والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ للمسألة صورتين :
الصورة الأولى : ما إذا سهى عن التسليم ، واستمرّ سهوه إلى أن فات بسببه الموالاة ، بحيث لا يمكن إلحاق السلام الذي هو الجزء الآخر للصلاة بباقي الأجزاء ، فعدم صلاحية اللحوق بها ليس لوقوع مثل الحدث بينه وبينها ، بل لأجل فوات الموالات المعتبرة عرفاً في الصلاة بالنسبة إلى أجزائها .
الصورة الثانية : ما إذا سهى عن التسليم ، وأتى بشيء من المنافيات كالاستدبار ونحوه ، بحيث لا يمكن إلحاق السلام بباقي الأجزاء ، لوقوع المنافي بينهما لا لفوات الموالات .
ففي الصورة الأولى: لاينبغي الإشكال في صحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها، لأنّ المفروض أنّ ما صار سبباً لعدم إمكان إلحاق السلام بباقي الأجزاء ، هو السهو عن التسليم فقط ، لا هو مع أمر آخر ، وحديث «لا تعاد» يدلّ على عدم وجوب الإعادة ، من جهة الاخلال بشيء من أجزاء الصلاة ، أو شرائطها ، غير الخمسة المذكورة فيه ، إذا كان ذلك سهواً ، فيدلّ على عدم وجوب الإعادة في المقام.
وأمّا الصورة الثانية: فيشكل الحكم بالصحة فيها ، لأنّ الاخلال بالتسليم لم يكن مسبّباً عن السهو عنه فقط ، بل عنه وعن الإتيان بالمنافي ، لأنّه صار سبباً لعدم إمكان لحوقه بباقي الأجزاء ، وإلاّ فلو فرض عدم كونه منافياً لم يكن هنا ما يمنع عن لحوقه واتصافه بجزئيته للصلاة ، لعدم استمرار سهوه إلى حدّ فوت
(الصفحة 320)
الموالات كما هو المفروض .
وحينئذ فليس هنا ما يدلّ على سقوط التسليم عن الجزئية حتّى يقال بأنّ مقتضاه وقوع المنافي بعد الصلاة ، لا في أثنائها ، فالظاهر البطلان ووجوب الإعادة .
ثم إنّه قد يقال في وجه البطلان في هذه الصورة : إنّه لا إشكال في أنّ جزئيّة السلام إنما ترتفع بعد فعل المنافي ، إذ قبل وقوعه يجب عليه التسليم قطعاً ، ولازم ذلك وقوع المنافي في أثناء الصلاة ، فتبطل الصلاة من جهته ، لأنّ المفروض إنّه مناف مطلقاً عمداً وسهواً .
وأجاب عنه بعض الأعاظم من المعاصرين في كتاب صلاته بما هذا لفظه :
لا معنى لإسقاط الجزئية بعد عدم إمكان التدارك ، نعم يمكن العفو والاغماض ، وتقبل الناقص مكان التام ، ولو فرضنا أنّ مقتضى قولهم : «لا تعاد» ، جعل المركب الناقص في حق الساهي كما هو الظاهر منه ، وفرغنا عن إمكان ذلك عقلا ، كما قرّر في الاُصول ، فاللاّزم أنّ الجزئية تكون ساقطة في حق من يسهو عنه ، ويستمرّ سهوه في علم الله تعالى إلى مضيّ محلّ التدارك ، فوقوع الحدث بعد سهوه عن التسليم كاشف عن عدم كونه جزءً من أوّل الأمر .
نعم لو قلنا بعدم إمكان تخصيص الساهي بتكليف ، وحملنا قولهم(عليهم السلام) : «لاتعاد» على العفو عمّا هو عليه ، يمكن أن يقال : إنّ العفو إنما ثبت هنا من حيث ترك التسليم ، وأمّا من حيث وقوع المنافي المطلق في الأثناء فلا يدلّ على العفو ، ولعل هذا هو منشأ الاحتياط بل الفتوى لسيّد مشايخنا الميرزا الشيرازي(قدس سره) في حاشية نجاة العباد(1)، انتهى موضع الحاجة .
وأنت خبير بأنّ السهو المقارن لإيقاع المنافي والسهو غير المقارن له ، لا
- (1) نجاة العباد (مع تعليقة المجدّد الشيرازي): 150; كتاب الصلاة للمحقّق الحائري(رحمه الله) : 283 .