(الصفحة 102)
بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) جاء في النهاية: أ نّه ضدّ اليسر ، وهو الضيق والشّدة والصعوبة ، وكما هو واضح فإنّ هذه المعاني الثلاثة تعطي معنى واحد عبّر عنه بتعابير شتّى .
وورد في القاموس: العسر بالضم ضدّ اليسر ، وتعسّر عليه الأمر ، وتعاسر واستعسر ، اشتدّ وإلتوى ، الشّدة والالتواء هو تعبير آخر عن الضيق ، بدليل أ نّ صاحب النهاية أورد الضيق والشدّة معاً ، وفي القاموس قال: إشتدّ وإلتوى ويومٌ عسر ، أي شديدٌ أو شومٌ . إنّما جاء بالشؤم بلحاظ ما يرافقه من شدّة . فالشؤم عادةً يلازمه مصيبة مّا وشدّة عبرّ عنها بالعسر . وهنا نرى أ نّ هذا العنوان هو الآخر يرادف الضيق .
وورد في المفردات ـ وهو برأيي من أدقّ الكتب اللغوية ـ : أعسر فلان ، أي ضاق فلان ، وتعاسرا لقوم طلبوا تعسير الأمر . ويوم عسير يتعصّب فيه الأمر . ثمّ بعد أن أتى بلفظ يتعصّب . قال بعدها مباشرةً: ضاق: تعصّب فيه الأمر ، من هنا نجد أ نّ صاحب النهاية استعمل الضيق والشدّة والصعوبة التي عبرّ عنها في المفردات بالقول «يتعصّب فيه الأمر» في رديف واحد .
إذن ، فما يفهم من اللغة أ نّ عنوان الحرج ، وعنوان الإصر ، وعنوان العسر كلّها بمعنىً واحد ، وهو الضيق ، والضيق هو الرتبة العليا من الصعوبة والشدّة وما شابه ذلك . وكما لاحظتم في ما سبق فإنّ هناك جملة من الروايات فسّرت الحرج في الآية الكريمة بالضيق .
لكن المحقّق النّراقي (قدس سره) في كتابه «العوائد» يرى أ نّ العسر في قوله تعالى:
{وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} هو أعمّ من الضيق ، والنسبة بين الضيق والعسر هي العموم
(الصفحة 103)
والخصوص المطلق ، وكلّ ضيق يمكن أن نقول عنه أنّه عسر ، ولكنّ كلّ عسر لاينطبق عليه أنه ضيق . وهناك مصاديق في العسر ، لاينطبق عليها الضيق ، ثمّ يوردّ عدّة أمثلة في هذا المجال(1) ، فيقول: لو أ نّ مولى من الموالي كان له عبد ، وأجبر هذا المولى عبده على تناول دواء كريه . ولنفرض أن هذا الدواء كريه بدرجة أنه لايوجد هناك انسان يرغب في تناوله . هنا يتحقّق عنوان العسر ، فيقال : إنّ المولى أجبر العبد على القيام بعمل شاقّ . ولكن في نفس الوقت ، لايعبرّ عنه بأنه ضيّق عليه ، فلا يقال: إنّ المولى ضيق عليه بسبب شرب هذا الدواء .
ومثال آخر: لو فرضنا أن هناك شخصاً يقوى على حمل مائة كيلو غرام من الثقل ، وليس بمقدوره أن يحمل أكثر من هذا الثقل ، فلو اُعطي لهذا الشخص حمولة بوزن تسعين كيلو على أن يحملها مسافة فرسخ واحد . هذا العمل على حدّ تعبير المرحوم النّراقي (قدس سره) هو عملٌ شاقّ . ولكن لو تكرّر هذا العمل منه ، بأن يقال له: عليك أن تحمل هذا القدر من الثقل إلى المكان الفلاني يوميّاً . هذا التكرار للعمل يبدّل حالة العسر الذي كان عليها إلى ضيق . هنا يقال عنه: إنّ الأمر قد ضيّق عليه .
من هنا يتضح لدينا أ نّ هناك فرق بين العسر والضيق . ماهو الملاك الذي استند عليه في هذا المثال؟ هل هو اللغة أم العرف؟ فإذا كان الملاك في الإختلاف المفروض هو اللغة ، فهذا ما أجبنا عنه في خلال نقلنا لآراء كبار اللغويين . حيث لاحظنا أ نّ الراغب في مفرداته يصرّح بأ نّ قوله : أعسر فلان ، نحو أضاق ، أي مثل أضاق فلان . وهنا لايقصد أ نّ هناك مماثلة أدبيّة ولغوية . إنّما هذه المماثلة هي مماثلة معنويّة . فقوله : أعسر فلان نحو أضاق ، أي مثل أضاق في المعنى ، يعني أ نّ معنى أعسر هو نفس معنى أضاق ، فلو كان الملاك هو اللغة ، فإنّ تتبّع أقوال
(الصفحة 104)
اللغويين والتدقيق في تعبيراتهم يؤكّد لنا أ نّه لايوجد هناك فرق بين العسر والضيق ، والعسر لايكون أعمّ من الضيق .
معنى العسر في العرف العامّ
إذا قلتم أ نّ الملاك في ذلك هو العرف العامّ ، ففي حال مخالفة العرف العامّ للّغة ، ينبغي أن نحمل ألفاظ الكتاب والسنّة على العرف العامّ ، بدليل أن النّاس هم المخاطبون ، وأن الحديث إنّما يدور مع الناس . بناءً على ذلك ، إذا حصل هناك أختلاف بين اللغة وبين العرف ، أي بين الفهم اللغوي والفهم العرفي ، فالملاك هو العرف . والعرف العامّ في خصوص هذا المورد يرى أن العسّر أعمّ من الضيق .
وفي معرض الرّد على هذا الإستدلال نشير إلى نقطتين هامتين:
النقطة الأوّلى إن التعبير باليسر والعسر في الآية الشّريفة جاء في سياق الحديث عن الصوم . حين ابتدأت الآية بالكلام عن الصوم وهو قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، وورد في تتمة الآية:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ} {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) وقلنا سابقاً في تفسير هذه الآية ، أ نّ قوله
{يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} إنّما هو لبيان الحكم الإثباتي ، أي الجانب الإثباتي في الآية ، وأمّا قوله
{وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فهو بيان لجانب النفي الذي يتضمّنه الحكم الشرعي .
بعبارة أوضح: إنّه إشارة إلى المريض والمسافر ، وأ نّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يعلّل عدم إيجابه للصوم في شهر رمضان على المريض والمسافر بأن قال:
{وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ، وأمّا قوله:
{يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} فهل المقصود منه أن
(الصفحة 105)
يكون علّة لتعيّن وجوب الصوم في شهر رمضان على غير المريض والمسافر . أو أنّه علّة في وجوب الصوم في عدّة أيّام اُخر على المريض والمسافر ، أو أنّه يمكن أن يكون تعليلاً للموردين معاً ، أو أ نّ الصحيح هو أن نقول بأ نّ هذا القسم من الآية: {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} لا علاقة له بأصل الصوم ، وإنّما سيقت العبارة للتأكيد على {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ} .
ونلاحظ أ نّ الآية بعد أن صرّحت بأ نّ المريض والمسافر عليهما أن يصوما في وقت آخر ، قالت: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} . فالآية الكريمة ربطت بين اليسر وبين وجوب الصوم في الأ يّام الاُخر .
وسواء قلنا بأ نّ قوله تعالى: {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ناظرة إلى وجوب الصوم مطلقاً في رمضان لغير المريض والمسافر ، وفي غير رمضان للمريض والمسافر ، أو أ نّ العبارة جاءت في خصوص وجوب الصوم على المريض والمسافر في عدّة من أ يّام اُخر ، فإنّ هذا القسم في الآية: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} إنما جيء به للتعبير عن وجوب الصوم في شهر ما ، فهذا يسر في قبال العسر . فالعسر هنا هل يمكن أن يكون بمعنى غير معنى الضيق؟ وإذا قلنا ، ا نّ أقلّ صعوبة وشدّة تسمّى عسر ، فأين يتحقّق اليسر الذي تشير إليه الآية؟
بناءً على ذلك ، إذا أردنا أن نطرح مسألة العرف ونقول بأ نّ الآية ناظرة إلى العرف ، فلابدّ أن ندقّق لنرى في أيّ مورد صرف الله سبحانه وتعالى كلمة اليسر ، وجعل العسر في قبال اليسر؟ نقول:
أوّلاً إنّ نفس الآية تشير إلى ذلك المعنى ، حتّى لو لم يكن للّغة في هذا المجال أيّ رأي ، ولم تتعرّض إلى هذا المعنى ، بل إنّ نفس قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} كفيل بحلّ المسألة . فقد عبرّ عن وجوب الصوم في شهر رمضان باليسر، مع أ نّه أشكل وأعسر من حمل تسعين كيلو مع القدرة على حمل مائة كيلو.
(الصفحة 106)
ثانياً عرفنا في خلال الروايات واللغة أ نّ الحرج بمعنى الضيق ، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ، إنّما هو بصدد بيان مسألة الضيق . وبناءً على ما قيل من أ نّ العُسر أعمّ من الضيّق ، ، فإنّ الآية الكريمة {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ناظرة إلى معنىً أوسع وأعمّ ، فيشمل الضيق ، كما أنه يشمل غيره من الموارد من مصاديق العسر . أي أ نّ عنوان نفي العسر ـ إن صحّ التعبير ـ أعمّ من عنوان نفي الحرج . وبناءً على ذلك قد يرى البعض وجاهة الرأي الذي أشار إليه المرحوم الميرزا الأشتياني (قدس سره) من أ نّ الآيتين لاتنافي بينهما . فكلا الآيتين جاءتا بصيغة النفي من دون أن تكن هناك منافاة بين الآيتين ، وكأ نّ الآيتين قد جاءتا بصيغة الإثبات .
كما أنّه لايمكن حمل أحدهما على الاُخرى ، لأنّه لاتوجّه هناك آية مقيّدة واُخرى مطلقة .
ولمّا لم يكن هناك تناف بين الآيتين ، أمكن أن نقول : إن آية: {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} أعمّ من الآية الاُخرى . وبعبارة اُخرى : إنّ قاعدة نفي العسر أعمّ من قاعدة نفي الحرج .
ولنا أن نقول: إنّه ليس ممكناً أن نتوصّل إلى هذه النتيجة . لأ نّ في بحث المطلق والمقيد ، عندما يكون هناك توافق من حيث الإثبات والنفي ، قال الأصحاب إنّه حتّى لو استفدنا وحدة الحكم من طريق وحدة السبب فهذا من قبيل حمل المطلق على المقيد . فمثلاً إذا كان هناك دليل مفاده: إن ظاهرت فأعتق رقبة ، ووجد دليل آخر فحواه: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة . فهنا وحدة السبب ـ وهو الظهار ـ تكشف عن أنّ الحكم هنا واحد لا أكثر ، والحكم الواحد لايكون مقيّداً ومطلقاً في آن واحد .
إذن لابدّ لنا أن نحمل المطلق على المقيّد . وحتّى لو استفدنا وحدة الحكم من