(الصفحة 118)
التفصيلي من حيث منجزيّته . فكما أ نّ العلم التفصيلي منجزّ ، العلم الإجمالي هو أيضاً منجّز ، فلو تحقّق العلم الإجمالي بالحرمة ، فإنّ العقل يحكم بلزوم الإجتناب إذا كانت أطراف العلم الإجمالي محصورة ، ويحكم بلزوم الإحتياط إذا كانت أطراف العلم الإجمالي غير محصورة ، إلاّ أ نّ المرحوم المحقق الخراساني (قدس سره) يقول بأ نّه من الممكن أن نرفع اليد عن لزوم الاحتياط بقاعدة نفي العسر والحرج .
ومن هنا وجد التباين بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة . لأ نّ لزوم الاحتياط في الشبهات المحصورة لايستلزم العسر والحرج . أمّا في الشبهات غير المحصورة فإنّ لزوم الاحتياط يسلتزم العسر والحرج . ولذلك نرفع اليد عن هذا اللزوم . ونقول: لايلزم عليك أن تحتاط . وأمّا القدر الذي يمكن أن يرتفع ، فهذا خارج عن دائرة البحث ، بل إنّ المرحوم الخراساني (قدس سره)يذهب إلى أكثر من ذلك ، وهو أ نّنا لانرفع اليد عن لزوم الاحتياط إستناداً إلى قاعدة نفي الحرج فحسب ، بل نجعل هذا المعنى هو الملاك في الشبهة غير المحصورة .
إذن ، المرحوم المحقق الخراساني (قدس سره) يرفع لزوم الاحتياط في الشبهة غير المحصورة بقاعدة العسر والحرج .
وهنا يُطرح هذا السؤال على المرحوم الخراساني (قدس سره): ما هو التعريف الذي عرفت به قاعدة نفي العسر والحرج والذي يمكن من خلاله رفع اليد عن لزوم الاحتياط العقلي مع كونه حكماً عقلياً بالتمسّك بقاعدة نفي الحرج؟
من وجهة نظرنا فإنّ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} غير خارجة عن دائرة الأحكام الشرعيّة . فالفعل «جعل» فاعله هو «الله» أي: ما جعل الله عليكم في الدين من حرج ، وقاعدة لا حرج تقول: إنّ الحكم الشرعي إذا استلزم الحرج فإنّ هذا الحكم حينئذ غير مجعول من قبل الباري عزّوجلّ .
ومن هنا في الشبهات غير المحصورة نسأل الآخوند (قدس سره) عن رأيه في قاعدة لا
(الصفحة 119)
حرج ، وكيف يفهمهما؟ لأ نّ الموجود في الكفاية هو تفسيره لقاعدة لا ضرر ، وأمّا قاعدة لا حرج فلا ندري ماهي وجهة نظره فيها .
فإذا كان يرى أن قاعدة لا حرج تساوق قاعدة لا ضرر من حيث المعنى ، فهذا يعني أ نّه لايمكن الجمع بين فتواه في خصوص الشبهة غير المحصورة ، وبين المعنى الذي يأخذ به في خصوص القاعدة . لأ نّه استناداً على مبناه ، فإنّ ما يمكن أن نستفيده من الآية في المثال أ نّ هناك علماً إجمالياً بالنجاسة في الأطراف غير المحصورة ، إذاً ، لا نجاسة ، وكأنه لا توجد هناك أيّة نجاسة ، حيث تنفي حقيقة وجود النجاسة . لتحقّق الحرج . فالآخوند (قدس سره) ينفي النجاسة المتردّدة بين الأطراف غير المحصورة ، أي ينفي موضوع النجاسة لما يلزم منها الحرج . ولكن النجاسة بنفسها لا يلزم منها الحرج ، وإنّما لزوم الاحتياط في النجاسة هو يلزم الحرج . فلو لم يلزم عن العلم الإجمالي الاحتياط العقلي ، لما وقعنا في الضيق والحرج ، حتّى مع بقاء العلم الإجمالي بالنجاسة على قوّته . وفي الردّ على ذلك نقول:
أوّلاً إنّ قاعدة الحرج لا تستلزم حكماً عقلياً .
ثانياً إنّ الأثر المترتّب على النجاسة أثر شرعي ، ولزوم الاحتياط العقلي يستلزم الحرج ، وبناءً على ذلك إذا أراد المرحوم الآخوند (قدس سره) أن يطبق مفاد قاعدة لا ضرر في خصوص قاعدة لا حرج ، أي يرفع لزوم مراعاة الاحتياط بقاعدة لا حرج ، لزم من ذلك التناقض مع ما قلناه من أ نّ قاعدة لا حرج لا تستلزم حكماً عقلياً . وأمّا على ما نقول به نحن ، فيمكن أن نوفّق بينهما . لانّنا نناقش الموضوع على الأساس الحكم الشرعي ، فمثلاً ، إذا اختلطت فضلة الفأرة بالطحين في أحد أفراد الخبز ، واستلزم الحكم بنجاسة فضلة الفأرة لزوم الاحتياط ، حينئذ يمكننا القول أ نّ الحكم بالنجاسة يلزم عنه الحرج ، وهنا يتدّخل الشارع إنطلاقاً من قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ويرفع الحكم بالنجاسة .
(الصفحة 120)آية الحرج ومفهوم الوصف
والآن نبحث هذه القاعدة من زاوية اُخرى ، فنقول هل الحرج الموجود في الآية ينطبق عليه عنوان الوصف؟ وإذا كان كذلك فما هو الموصوف؟
الموصوف هو الحكم ، فقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} يعني ما جعل عليكم في الدين من حكم حرجي ، فهل الحرج هنا صفة ونعت للحكم ، أو أ نّ الحرج صفة لفعل المكلّف ، أي ما جعل عليكم في الدين من فعل حرجي وعمل حرجي؟ فإذا جعلنا الحرج صفة للفعل ، حينئذ يكون «وما جعل» بمثابة ، ما أوجب ، يعني: ما أوجب الله عليكم في الدين فعلاً حرجيّاً ، ولقائل أن يقول: ما الداعي لإثارة مثل هذا الاستفهام والخوض فيه؟
والذي يدعونا لإثارة هذه النقطة ، هو أ نّنا عادة ما نواجه حرجاً في موارد متعدّدة ، وعليه لابدّ أن نشخّص ما هي الاُمور التي تستدعي الحرج ، هل التوضؤ أو الإغتسال في جوّ شديد البرودة هو من الحرج؟ فإذا قلنا بذلك فمؤدّى ذلك أ نّ الأمر الحرجيّ هو ما كان يحسب حرجيّاً في الخارج ، أي أ نّ عمل المكلّف قد يسبّب حرجاً ، وهذا يستدعي أن نعتبر الحرج في الآية الكريمة صفة للفعل ، وإذا جعلنا الحرج صفة للفعل فيكون معنى الآية: ما أوجب الله عليكم فعلاً حرجيّاً ، وما أوجب الله عليكم وضوءً حرجيّاً .
ولكن هذا الفهم للآية غير موافق لظاهرها ، لأ نّ عبارة «من حرج» في الحقيقة حلّت محلّ مفعول مطلق نوعي ، فلو أردنا أن نمعن النظر في الآية من الناحية الأدبيّة يبدو أ نّ الحرج يتعلّق بالفعل . أي أ نّ الحرج صفة للفعل . فهو مفهوم نوعي مطلق ، هنا لابدّ من الإجابة على هذا السؤال ، وهو: هل المجعول الذي دلّ عليه فعل «جعل» هو نفس فعل المكلّف ، أو أ نّ المجعول هو عبارة عن الحكم الشرعي؟ أي أ نّ ما جعله الله تبارك وتعالى هو جعل الإيجاب كوجوب الوضوء ،
(الصفحة 121)
أو الوضوء بذاته غير مجعول من قبل الله ، وبغضّ النظر عن أ نّ الوضوء يتضمّن حقيقة شرعيّة ، فإنّ مواضع أفعال المكلّف ليست من المجعولات الشرعيّة . فليس بمقدورنا أن نقول بأ نّ الله تبارك وتعالى جعل الوضوء ، ثمّ نفسّر جعل الوضوء بمعنى أ نّه أوجب الوضوء . والصحيح أن الله جعل وجوب الوضوء ، ولذلك نرى أنهم يعبرّون عن الأحكام التكليفيّة بالمجعولات الشرعيّة . ففي شرب الخمر هل من الصحيح أن نقول: جعل شرب الخمر؟
قد يقال: إنّ الجعل في الواجبات التي ليس لها أيّة حقيقة شرعية يستعمل كذلك ، فهل من الصحيح أن نقول: إنّ الشارع جعل ردّ السّلام ، أو أ نّ الصّحيح هو أ نّ الشّارع جعل وجوب ردّ السلام ، فمجعول الشارع هو وجوب ردّ السلام لا ردّ السلام بذاته ، ردّ السلام فعل للمكلّف ، وهو أمر تكليفي وحقيقة خارجية . أ مّا ما يتعلّق بالشارع بما أ نّه جاعل فهو الحكم المتعلّق بردّ السلام ، أي وجوب ردّ السلام .
إذن ، لا معنى لأن نعلّق الجعل على الوضوء فنقول: جعل الوضوء ، ومن ثمّ نقول: جعل الوضوء يعني وجوب الوضوء . فالأحكام التكليفيّة هي المجعولة شرعاً ، وأمّا متعلّقاتها فليست مجعولة .
والسبب في إثارتنا لهذه النقطة التي هي خارجة عن دائرة بحثنا هو أ نّهم قالوا: لابدّ من تشخيص موارد الحرج في الخارج ، فالوضوء بالماء البارد في فصل الشتاء ممّا يستدعي الحرج ، وبناءً على ذلك فسّروا قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} بمعنى ما أوجب الله من فعل حرجي .
وفي مقام الردّ على هذا المعنى نقول: ليكن الوضوء بالماء البارد أمراً حرجيّاً ، فما علاقة ذلك بي كمكلّف إذا لم يكن الوضوء واجباً ، وكلمة «عليكم» التي وردت في الآية الكريمة توحي أ نّ الأمر مرتبط بالمكلّف ، وأمّا الوضوء فما لم يكن حكماً
(الصفحة 122)
تكليفيّاً لا يدخل ضمن اهتمامات المكلّف ، ولا ربط له به حتّى لو كان الفعل ممّا لا يطاق ، فما يتعلّق بالمكلّف هو التكليف ، وهناك أشياء كثيرة في العالم تستدعي الحرج ، فهل تريد الآية أن تربط هذه الأشياء بالمكلّف؟ إنّ الحرج المقصود إنّما هو بالتكليف ، فلو قالوا: يجب عليك أن تتوضّأ بالماء البارد في فصل الشتاء فقد ضيّقوا عليك ، وأمّا إذا لم يوجبوا الوضوء حينئذ لا يهمّك ما إذا كان الوضوء بالماء البارد فيه حرج أو ضيق .
إذن لابدّ أن نلتفت إلى هذه النقطة ، وهي أ نّ الوضوء بالماء البارد لا علاقة له بالمكلّف ، لا من قريب ، ولا من بعيد ، إلاّ بعد أن يكون تكليفاً ، فمعنى الآية واضح وصريح ، وهو: ما جعل عليكم في الدين من جعل حرجي ، ولا معنى لأن نقول: الوضوء هو المجعول ، والفعل هو المجعول إلاّ على سبيل المجاز والمسامحة .
والشيخ الأنصاري (قدس سره) في بيانه لقاعدة لا ضرر اختار هذا المعنى أيضاً ، حيث إعتبر كلمة «ضرر» صفة للحكم وقال: إنّ «لا ضرر» يعني ما جعل في الإسلام حكم ضرري ، ويتّضح هذا المعنى بشكل أكبر في الآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ومن الناحية الأدبيّة أيضاً يفترض أن تكون العبارة «من حرج» مكان المفعول المطلق والذي يفيد النوع ، أي ما جعل عليكم في الدين جعلاً حرجياً .
محصّل القول: إنّ قاعدة لا حرج واضحة وصريحة في معناها ، وهو أ نّ الله تبارك وتعالى إمتناناً على الاُمّة الإسلامية وعلى الأمّة المرحومة لم يجعل لها حكماً حرجيّاً ، والأحكام التي جعلت للاُمّة هي أحكام غير حرجيّة .
قاعدة لا حرج والأدلّة المثبتة للأحكام
ثمّ ندخل في مباحث اُخرى ، في تحديد النسبة القائمة بين قاعدة لا حرج
|