(الصفحة 123)
والأدلّة للأحكام بالعنوان الاوّلي ، وبعبارة اُخرى : ماهي النسبة بين قاعدة لا حرج ودليل وجوب الوضوء؟ وأيّ نسبة بينها وبين الدليل الموجب للغسل ، وماهي العلاقة بينها وبين الدليل الذي يقضي بوجوب الصيام عندما يكون الصيام مستدعياً للحرج؟ إذ أ نّ تحديد النسبة بين قاعدة لاحرج والأدلّة الأوليّة هو من البحوث المهمّة .
البحث الآخر في أنه هل يوجد هناك ثمّة موارد خاصّة خرجت عن هذه القاعدة ، أو لا؟ ولو سلّمنا بوجود موارد خرجت بالتخصيص ، فهل هذه المواد كثيرة بحيث تجعل من قاعدة لا حرج قاعدة موهونة ، أو أ نّها ليست من الكثرة بحيث توجب الوهن في القاعدة؟
ومن المباحث الاُخرى في هذا المجال هو لو أ نّ إنساناً لم يستفد من التسهيل والإمتنان الذي توفّره له القاعدة ، ولنفرض أ نّه صام مع كون الصوم بالنسبة إليه حرجيّاً ، فهل يصحّ صومه أم أ نّ صيامه باطل؟ وهناك عدّة مواضع اُخرى كلّ منها مفيدة بحدّ ذاتها . نعود إلى البحث الأوّل الذي أشرنا إليه في النسبة بين قاعدة لا حرج والأدلّة الأوليّة المثبتة للتكليف .
المرحوم صاحب الرياض(1) والمرحوم النّراقي (قدس سره) في كتاب «العوائد»(2) ذهبا إلى الرأي القائل بأ نّ قاعدة لا حرج تعارض الأدلّة الأوليّة ، والتقابل الموجود هو تقابل العموم والخصوص من وجه ، فأيّ دليل من الأدلّة إذا ما قيس بالقاعدة سوف يكون بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه ، فلو أخذنا قاعدة لا حرج مع دليل الوضوء على سبيل المثال نرى أ نّ دليل الوضوء ينصّ على أ نّ الوضوء واجب ، سواء إستدعى الحرج ، أو لم يستدعي ، فمفاد قاعدة لا حرج هو أ نّ الحكم
- 1 . لم نعثر عليه .
- 2 . العوائد ، ص64 .
(الصفحة 124)
الحرجي مرفوع ، سواء كان ضمن الوضوء ، أو غيره من الأعمال والأفعال التكليفية ، فهما يجتمعان في أمر واحد ، وهو الوضوء الحرجي ، ويفترقان بأمرين هما الوضوء غير الحرجي ، والآخر الحرج في غير الوضوء ، ففي الوضوء غير الحرجي ما به الافتراق هو دليل الوضوء ، وأمّا في باب الحرج الموجود في غير الوضوء ، فإنّ ما به الافتراق هو دليل نفي الحرج ، فيتعارض الدليلان ، أي دليل نفي الحرج مع دليل الوضوء ، إذن في حال تعارضهما ما هو الحلّ؟
حينئذ لابدّ من وجود حرج خارجي يمكن من خلاله حلّ المسألة على أساس قاعدة لا حرج ، وبدون حرج خارجي يبقى لدينا دليلان متعارضان ينفي أحدهما الآخر .
هذا تمام الكلام الذي أفاده هذان العلمان من علمائنا الكبار ، ولكن يبدو أنه في زمن هذين العلمين لم يكن عنوان حكومة الأدلّة مبيّناً ولم يكن في زمانهما وضوح في خصوص هذه المسألة . ومن هنا نجد أنه لمّا وصل الدور إلى المرحوم الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه الشّريف صرّح بهذا المعنى ، وهو أ نّ قاعدة لا حرج كقاعدة لا ضرر في دلالتها ، وهي حاكمة على الأدلّة الأوّليّة ، وهذا يعني أنه لايمكن لنا أن نقدّر النسبة بين الدليل الحاكم والمحكوم ، ولايمكن أن نقول: إنّ هناك إشتراك من جهة ، وإفتراق من جهتين ، كما أ نّه لا نلحظ منهما ـ أي في الدليل الحاكم والمحكوم ـ أيّهما ظاهر وأيّهما أظهر من حيث لسان الدليل ، حيث تنتفي هنا مسألة الظاهر والأظهر بين الدليل الحاكم والمحكوم ، بل إنّ الدليل الحاكم وإن كان ضعيفاً من حيث الدلالة فهو مقدّم على الدليل المحكوم ، لأ نّ الدليل الحاكم بمثابة الشارح والمفسّر للدليل المحكوم ، وظيفته الإشراف على الدليل المحكوم ، ولكن توجد في الدليل المحكوم جوانب عديدة غير ملحوظة ، سواء فيما يختصّ بموضوع الدليل المحكوم ، أو بما يرتبط بالمقدّمات أو بالنتائج .
(الصفحة 125)
إذن ما يقول المرحوم الشّيخ الأنصاري (قدس سره) هو أ نّ الآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} تعتبر دليلاً حاكماً ، ولذا لا داعي لأ نّ نلحظ النسبة ، كما أ نّه لايلزم أن يكون هناك حرج خارجيّ ، لأ نّ العبارة حاكمة وجاءت في مقام الإخبار ، وهي ناظرة إلى المجعولات ، أي الاُمور التي هي ترتبط بالباري جلّ وعلا ، خصوصاً وأ نّ الآية ورد فيها «في الدين» يعني مجموعة التكاليف ، سواء اشتملت كلمة الدين على العقائد ، أو لم تشتمل ، فهذا ما لسنا بصدده وخارج عن موضوع بحثنا . ما يهمّنا من كلمة «في الدين» هو الجانب الفقهي ، ففي الدين يعني في المقرّرات الإسلامية ، وفي الأحكام الإلهيّة ، في الوجوبات والتحريمات وأمثال ذلك .
فلو كانت العبارة هي كالتالي «ما جعل عليكم في التكاليف من حرج» إذن تكون واضحة في دلالتها على الوضوء والغسل والصوم وغير ذلك من التكاليف التي تشكّل بمجموعها مفهوم الدين ، فحتّى لو لم تكن هناك عبارة «في الدين» فإنّ معنى حاكميّة هذه القاعدة ظاهرة من خلال العبارة ، ولكن عبارة «في الدين» توضح المسألة بشكل أكبر . وتوحي أ نّ مجموعة الأحكام ما جعل فيها الباري تبارك وتعالى من حكم حرجي ، وإذا كان الإطلاق الموجود في بعض الأدلّة يقيّد تعيّن الوجوب في الوضوء حتّى في حال الحرج ، فإنّ حقيقة الأمر ليس كذلك ، ووجوب الوضوء ليس مجعولاً .
إذن عبارة «في الدين» لها دخل في قاعدة نفي الحرج . فإنها تخرج المسألة عن باب التعارض فلا يبقى أي مجال للقول بأ نّ قاعدة نفي الحرج تقع في موازاة دليل وجوب الوضوء ، وبعبارة اُخرى: إنّها بقوّة الأدلّة التي تدلّ على الإيجاب وتشرع الأحكام .
أضف إلى ذلك أ نّ رواية عبد الأعلى التي بحثناها سابقاً تحكي عن الإمام
(الصفحة 126)
قوله: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله» أي من الآية الكريمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} إذن ، الآية تحلّ لنا الإشكال ، ولكن لو كان هناك تعارض بين الآية ، والدليل على الوضوء ، فكيف تحلّ المسألة؟ يرى المحقق النراقي (قدس سره) صاحب كتاب العوائد أ نّه في حال حصول التعارض بين الآية وبين دليل الوضوء فنحتاج إلى مرجع خارجي ، وعندما ترجعون إلى آية «ما جعل» فإنكم في الواقع قد رجعتم إلى دليل معارض ، أمّا الرّواية فمفادها أ نّ المسألة ليس بهذا الشكل ، فمتى دقّقتم في الآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} فسوف تتوصّلون إلى هذه النقطة ، وهي أ نّ المسح على البشرة غير واجب ، والسؤال هو: متى يصحّ هذا الكلام؟
والجواب: أ نّه غير صحيح مالم يكن مبتنياً على أساس الحكومة ، أي على أساس أ نّ هناك دليلاً حاكماً على دليل آخر .
وبناءً على ذلك نصل إلى ما أفاده الشيخ الأنصاري (قدس سره) من أ نّ قاعدة لا حرج لا يبحث فيها مسألة معارضتها للأدلّة الأوليّة ، بل أ نّ البحث فيها هو من جهة الحاكميّة والمحكوميّة ، والدليل الحاكم لايبحث فيه سوى جهة حاكميته ، ولا يلحظ فيه لا النسبة ولا قوّة الدلالة ، فإذا ثبت الدليل الحاكم ، فلا داعي لبحث الأظهريّة والظاهريّة ، لأ نّ الظاهريّة والأظهريّة بحث آخر ، ولا يرتبط بمسألة الحاكميّة والمحكوميّة والتي تشكل باباً مستقلاًّ بنفسها .
ردّ كلام صاحب الرياض والنراقي (قدس سره)
أمّا ما أفاده المرحوم النراقي والمرحوم صاحب الرياض (قدّس سرّهما) من أ نّه: لابدّ من مرجّح خارجي . ففي مقام الردّ عليهما فنقول: نحن لانسلّم بأ نّ هناك تعارضاً ، هذا أوّلاً .
(الصفحة 127)
وعلى فرض تسليمنا فالإشكال الثّاني هو أ نّه لقائل أن يقول: إنّ قاعدة لا حرج لابدّ وأن تكون متقدّمة على غيرها ، ولا تحتاج بالأساس إلى مرجّح خارجي ، والسبب في تقدّم قاعدة لا حرج مع افتراض التعارض هو أ نّ قاعدة لا حرج إنّما جاءت في مقام الإمتنان ، وهذا دليل على تقدّمها على الأدلّة الأوليّة ، وإلاّ لو كانت محكومة من قبل الأدلّة الواقعيّة . أي أن تكون الأدلّة الأوليّة متقدّمة عليها لما بقي هناك ما يمُنَّ به الله على هذه الاُمّة ، إذن أين هذا الامتنان؟ وقد منّ الله على هذه الاُمّة بما لم يمنّ به على غيرها من الاُمم فأقتضى ذلك أن تكون القاعدة راجحة على دليل الوضوء دائماً ، ولا حاجة إلى مرجع آخر ، بل أ نّ القاعدة بنفسها متقدّمة ، لكونها جاءت في مقام الإمتنان ، والإمتنان هو المرجع الذي يقتضي أن تكون قاعدة لا حرج متقدّمة على الأدلّة الأوليّة .
ولو فرضنا أ نّ هناك نوعاً من التعارض ، مع ذلك لا حاجة للتعويل على المرجع الخارجي ، بل إنّ قاعدة الإمتنان تثبت أرجحيّة قاعدة نفي الحرج حتّى مع فرض التعارض ، والصواب هو فيما عرضه الشيخ الأنصاري (قدس سره) من أ نّ دليل نفي الحرج حاكم على الأدلّة الأوّليّة .
قاعدة لا حرج والتخصيص
هل تقبل قاعدة لا حرج التخصيص ، أو لا؟ وبعبارة اُخرى: هل يمكن تخصيصها ، أو لا يمكن تخصيصها؟ ولو فرضنا أ نّ تخصيصها أمراً ممكناً ، فهل جرى عليها التخصيص أم لا؟
ولو فرضنا وقوع التخصيص ، فهل أ نّ موارد التخصيص كثيرة ، أم لا؟ وهذا البحث من المباحث المهمّة في قاعدة لا حرج .
أمّا إمكان التخصيص وعدمه ، فقد قلنا فيما سبق : من أ نّ البعض اعتبر قاعدة