(الصفحة 205)
منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام): قال: «وقت الفجر حين ينشقّ الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء . . .»(1) .
ومنها: رواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «لكلّ صلاة وقتان وأوّل الوقتين أفضلهما ووقت صلاة الفجر حين ينشقّ الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء...»(2).
والبحث هنا في انّ طلوع الفجر وانشقاقه أمر زائد على نفس الفجر أو لا وبعبارة أخرى هل هما قيدان توضيحيان أو احترازيان .
الظاهر إنّهما ليسا أمرين زائدين على نفس الفجر سيّما بعد ملاحظة اللغة وانّ الفجر لغوياً هو الانشقاق ويستعمل الفجر في الينابيع التي خرجت من الأرض والقرآن استعمل كلمة الفجر والتفجر وأمثالهما . والآية الشريفة «كلوا وأشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض» في انّ الفجر أوّل وقت صلاة الصبح وهو الخيط الأبيض فالطلوع والانشقاق قيدان توضيحيان . وهذا يتّضح أكثر إن لاحظنا سورة القدر وانّ إتمام ليلة القدر بطلوع الفجر «سلام هي حتّى مطلع الفجر» فهل هذا الظهور الموضوعي للطلوع موجود في الآية أيضاً أو لا ، بمعنى أنه هل إتمام ليلة القدر(3) منوط بالتبيّن الخارجي لنا وانّ التبيّن له موضوعية في إتمام ليلة القدر وطلوع الفجر أو لا .
هل يتصور ان يقال انّ ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ولها بركات وآثار لاتتمّ حتّى يتبيّن لنا طلوعه ، مع انّ التبيّن يمكن له موضوعية في التكاليف وامّا في مثل «سلام هي حتّى مطلع الفجر» الذي لا يرتبط بنا مستقيماً بل يبيّن آثار
- 1 . وسائل الشيعة ، ح 3 ، أبواب المواقيت ، باب 26 ، ح 1 .
- 2 . نفس المصدر ، ح 5 .
- 3 . ولايخفى انّ ليلة القدر بحسب الروايات في الليالي المقمرة .
(الصفحة 206)
وبركات ليلة القدر سواء استفدنا منها أم لا ، فلا يمكن تصوير الموضوعية للتبيّن ، فالآثار موجودة مالم يتحقق الفجر واقعاً وانّ تحقق تمّت تلك الآثار سواء ترى طلوع الفجر أم لا فأضافة الطلوع إلى الفجر لايزيد أكثر من نفس الفجر وهو الانشقاق الواقعي .
مضافاً إلى انّ هنا نقطة أهم مما ذكر وهي تزيل غبار الشبهة في الأدلّة اللفظيّة وهي انّ بعض الاُمور الكثير الإبتلاء صار مفعولاً عنه من بعض الجهات عند عامة الناس وحتّى عند من له مرتبة من العلم وفي هذه الموارد لابدّ ان ينبّه الإمام (عليه السلام)ويتعرض له .
وفيما نحن فيه نقول هذه المسألة أي مسألة الليالي المقمرة والمغيمة ليست من المسائل المستحدثة بل عند تشريع صلاة الفجر كان الناس مبتلى بها حيث انّ الليالي المقمرة في كل شهر تشغل حدود عشر ليال بل أكثر والغيم آنذاك كان أمراً متعارفاً في بعض الليالي ومع ذلك لم ينبّه الإمام (عليه السلام) في رواية بذلك ، نعم يوجد في سؤال السائل في صحيحة علي بن مهزيار ، السؤال عن الفجر مع نور القمر والغيم ولكن الإمام (قدس سره) لم يصرّح بالفرق بين الليالي المقمرة والمغيمة وبين غيرها أو بين الليالي المقمرة وبين المغيمة . ونحن استفدنا من هذه النقطة في بعض موارد الفقة مثل مسألة الطواف حيث التزم الفقهاء بتضيق محل الطواف خلف حجر إسماعيل بمقداره وقالوا بقي هناك ستة أذرع ونصف تقريباً فيجب انّ لا يتجاوز هذا الحدّ ولو تخلّف أعاد هذا الجزء في الحدّ .
ولكنّا قلنا بأنّ مقدار المطاف يلاحظ من الحجر ولا يضيق لانّه لو كان ضيّقاً في هذه الناحية لكانت كثرة الإبتلاء موجبة للتنبّه عليه ولو في رواية واحدة كما انّ الأئمة (عليهم السلام) تعرضوا لخصوصيات كثيرة في الحجّ ومع ذلك لم ترد رواية في
(الصفحة 207)
هذا المورد(1) .
فعلى هذا فيما نحن فيه أولاً لم يصرّح الإمام بالفرق بين الليالي المقمرة وبين المغيمة في صحيحة علي بن مهزيار مع انّ الناس كانوا يبتلون بالليالي المقمرة في كل شهر وبالليالي المغيمة في بعض الأحيان .
وثانياً: لو صرّح في هذه الرواية لما تكفي الذهاب المشهور على عدم الفرق بين المقمرة والمغيمة وغيرهما . ولايخفى انّ عدم الفرق لايحتاج إلى التذكار والتنبيه بخلاف وجود الفرق فإنّه يحتاج إلى التبيين والعجب انّ المشهور لم يتعرضوا هذه المسألة وأوّل من ذكرها صاحب الجواهر ومضى في البحث باحتياط التأخّير وأوّل من أفتى بلزوم التأخير المحقّق الهمداني وقال هذا ظاهر فتاوى الأصحاب مع أنّ مقصوده إن كان تصريح الأصحاب فهو ممنوع لعدم تعرضهم بهذه المسألة أصلاً وإن كان مراده انّ ظاهر كلماتهم اعتبار اعتراض الفجر وتبيّنه في الاُفق بالفعل فهو صحيح ولكن لابدّ أن يعتبر مع القمر والغيم ولكنّهم لم يعتبروا في مورد الغيم والمحصّل انّ الكلام الأخير ـ وهو لزوم التنبيه على أمر مغفول عنه مع كثرة الإبتلاء
- 1 . قال دام عزّه الوارف في «تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة»: «مستند الضيق بالمقدار المذكور هو الجمع بين الرواية المتقدّمة الدالّة على انّ حدّ الطواف بين البيت والمقام وبين ما تقدّم ممّا دلّ على انّ الحجر لايكون جزءً من البيت بل يكون بجميع أجزائه خارجاً عنه وعليه فاللازم ملاحظة الحدّ في جانبه من نفس البيت واستثناء مقدار الحجر الذي هو قريب من عشرين ذراعاً فلا يبقى إلاّ ستة أذرع ونصف تقريباً ويتحقق الضيق جداً .
- هذا والظاهر عندي عدم تحقق الضيق من ناحية الحجر بوجه وانّ مقدار المطاف يلاحظ من الحجر وان كان خارجاً عن البيت بجميع أجزائه وذلك لانّه لو كان محلّ الطواف ضيقاً في هذه الناحية لكانت كثرة الإبتلاء مقتضية بل موجبة للتعرض له صريحاً والتنبيه عليه ولو في رواية واحدة مع انّه لايوجد ذلك في شيء من الروايات ولم يتحقّق التنبيه على ذلك ولو في مورد فيكشف ذلك عن عدم تحقق الضيق أصلاً وانّ المقدار المذكور يلاحظ في ناحية الحجر من الحجر وانّ كان خارجاً عن البيت فتدبّر . (تفصيل الشريعة ، كتاب الحج ، ج 4 ، ص 376) .
(الصفحة 208)
به ـ مع الغمض عن الآية والروايات ، يوجب الإطمئنان بعدم لزوم تأخير الصلاة والإمساك ولا فرق بين الليالي ، مغيمة كانت أو مقمرة أو غيرهما ولو ثبت الفرق واقعاً لزم التنبيه عليه لا مرة واحدة بل مرات عديدة .
الأصل العملي في المسألة
ولو فرضنا الإجمال في الأدلّة اللفظية ولم تدلّ على قول أحد طرفي النزاع أي قول المشهور ومقابلهم فهل يجري الاستصحاب أو لا؟
الشبهة الموضوعية
ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ويجوز للمكلّف إذا شكّ في الليالي المغيمة «هل طلع الفجر أو هل تبيّن الفجر على القولين المتقدمين» أن يُجري استصحاب عدم الطلوع أو عدم التبيّن حتّى يستيقن أو تقوم به البينّة .
الشبهة الحكمية
وامّا الشبهة الحكمية بمعنى إنا لا نعلم هل جعل الشارع ملاك أوّل وقت صلاة الصبح واقع الخيط الأبيض أو تبيّنه فهنا استصحابان استصحاب في الموضوع واستصحاب في الحكم .
امّا الاستصحاب الموضوعي في الشبهة الحكمية فلا يجري للعلم الإجمالي بأنّ عدم جواز الأكل امّا مغيّى بالطلوع أو بالتبيّن والأصل النافي في أطراف العلم الإجمالي إمّا لايجري رأساً أو يجري ولكن يسقط بالتعارض .
لا يقال أنا بعد طلوع الفجر وقبل تبينّه ، تُجرى الاستصحاب في الليل لأنّا نشكّ في معنى الليل والأصل بقاء الليل .
(الصفحة 209)
لأنّا نقول: أولاً جريان استصحاب الليل بنحو الشبهة الموضوعية فلا إشكال في جريانه بمعنى انّا نستصحب الليل عند الشكّ في طلوع الفجر ولكنّ جريانه بنحو الشبهة الحكمية فلا لأنّ الشبهة حينئذ مفهومية ولا شكّ في الخارج حيث إنّ طلوع الفجر قد حصل وتبينّه لم يحصل بعدُ .
وأدلّة الاستصحاب ناظرة إلى الخارج لا إلى المفهوم ولا يقين من بدو الأمر بأنّ الليل إلى طلوع الفجر أو إلى تبين الفجر ، بل نعلم انّ الليل إن كان إلى طلوع الفجر فقد حصل وإن كان إلى تبيّن الفجر فلم يحصل بعدُ ، فلا شك في متيقن سابق(1) .
وثانياً: إنّ الحكم في الآية لم يترتّب على عنوان الليل أو عدمه بل ترتّب جواز الأكل والشرب مغيّى بطلوع الفجر أو تبيّنه بمعنى انّ غاية الأكل والشرب امّا طلوع الفجر أو تبيّنه .
وثالثاً: انّ استصحاب الليل انّ كان لإثبات الليل فلا يكون هو موضوع الدليل وإن كان لإثبات انّ الغاية نفس التبيّن لا طلوع الفجر فهو أصل مثبت .
وامّا الاستصحاب الحكمي في الشبهة الحكمية فلا إشكال في جريانه بمعنى إنا
- 1 . فليس لنا يقين وشكّ تعلّقا بشيء واحد حتّى نُجرى الاستصحاب فيه بل لنا يقينان: يقين بطلوع الفجر ويقين بعدم تبيّنه ، فأيّ موضوع يشكّ في بقائه بعد العلم بحدوثه حتّى يكون مجرى للاستصحاب فإذا لا شكّ لنا إلاّ في مفهوم اللفظ ومن الظاهر انّه لا معنى لجريان الاستصحاب فيه .
- قال صاحب مصباح الاُصول تقريراً لبحث آية الله العظمى الخوئي: «ونظير المقام ما إذا شككنا في معنى العدالة وأنها عبارة عن ترك الكبائر فقط أو هو مع ترك الصغائر ، فإذا كان زيد عادلاً يقيناً فأرتكب صغيرة نشك في بقاء عدالته للشبهة المفهوميّة ، فلا معنى لجريان الاستصحاب الموضوعي لعدم الشكّ في شيء من الموضوع حتّى ليجرى فيه الاستصحاب ، فإنّ ارتكابه الصغيرة معلوم وارتكابه الكبيرة معلوم الانتفاء فليس هنا شيء يشكّ في بقائه لجيري فيه الاستصحاب وقد صرّح الشيخ (رحمه الله) في بعض تحقيقاته بعدم جريان الاستصحاب الموضوعي في موارد الشبهة المفهومية» (مصباح الاُصول، ج3، ص132).