(الصفحة 92)
وهنا نسأل: هل من الممكن أن نطرح التكليف بما لايطاق في هذا المجال كدليل عقلي؟
من هنا نرد على المحقّق النّراقي (قدس سره) ـ الذي قال في كتاب «العوائد» من أ نّ التكليف بمالا يطاق يدلّ على نحو الموجبة الجزئيّة على قاعدة نفي الحرج ـ بأ نّ التكليف بمالا يطاق لا علاقة له بنفي الحرج أبداً ، فالاستدلال بالدليل العقلي المذكور تمسّك بالدليل في غير مورده (1) .
ويمكن تصوير دليل العقل بصورة اُخرى ، وهي أن نقول: بأ نّ الدليل على قاعدة نفي الحرج هو أ نّنا لو لم نقل بهذه القاعدة ، يلزم عن ذلك اختلال النظام الموجود . ولا يمكننا أن نتصوّر بأ نّ الله سبحانه وتعالى يقرّر بما هو من شأنه الإخلال بالنظام . وهذه المسألة فيها لزوم عقلي متعيّن على الباري تبارك وتعالى .
وفي مقام الردّ على هذا الاستدلال نسأل: ماذا يراد باختلال النظام؟ هل عاشت الاُمم السابقة والتي لم توجد في زمانها قاعدة نفي الحرج ، نوعاً من الإختلال في النظام؟
وهل أ نّ الباري جلّ وعلا قد سبّب خللاً في النظام في الاُمم السابقة من خلال عدم طرحه لقاعدة نفي الحرج آنذاك؟
ماهو ذاك الإختلال في النظام الذي يحدث بسبب عدم القول بقاعدة نفي الحرج؟ مع أ نّ هذا الحرج ـ كما سيبحث فيما بعد إن شاء الله ـ حرج شخصي وليس حرجاً نوعيّاً . فمثلاً ، إذا سبّب الصوم . حتّى مع كونه واجباً متعيّناً على كافّة الناس . فالفرد إذا وقع في حرج بسبب الصوم . يسقط عنه الصوم .
فهل من المتصوّر أ نّ مثل هذا الحرج الشخصي سيسّبب اختلالاً للنظام مالم
(الصفحة 93)
توجد هناك قاعدة نفي الحرج هذه؟ وهل سيؤدّي ذلك إلى التعارض مع الحكم العقلي؟
ليست هنا ارتباط بين نفي الحرج وإختلال النظام ، حتّى يكون مستنداً للبعض من خلال ذلك أن يعطي للمسألة صبغة عقليّة أو يجعلها قاعدة عقليّة .
نعم ، يوجد هناك كلام للبعض في خصوص هذا النوع من موارد الحرج ، لا فيما يخصّ التكليف بمالا يطاق العقلي أو العرفي ، مفاده أ نّ أحد القواعد العقلية المسلّم بها ، هي قاعدة اللطف ، وخلاصة القول في هذه القاعدة هو أ نّ على الله تعالى أن يقرّب العبد من نفسه ، ويرشده ويهديه إليه ، كما أنّه يجب عليه سبحانه وتعالى أن يحذّر العبد من كلّ شيء يبعّده عن ساحته المقدسة .
من هنا نقول: إذا كان لدينا قاعدة اللطف ، فهل بإمكاننا أن نطبقها بخصوص قاعدة الحرج؟ بأن نقول: إنّ الله سبحانه وتعالى لو جعل تكاليفاً حرجيّة حينئذ سيتخلى الناس عن هذه التكاليف وسيحاولون التهرّب منها . لأ نّ الناس لايميلون إلى تأدية مثل هذه التكاليف ، وبالتالي فإن هذه التكاليف الشّاقة سوف تبعّد الناس عن الله تبارك وتعالى . وهذا يتنافى مع قاعدة اللطف . إذ ينبغي أن لايكون هناك ما من شأنه إبعاد الناس عن ساحة القدسي الإلهيّة .
والجواب على ذلك يتخلص في النقاط التالية:
الأوّلى إنّ التكاليف الحرجية كانت موجودة في السابق ، ولو كانت هذه القاعدة عقليّة فلا يمكن تخصيصها ، إذن وجود التكاليف الحرجية في الاُمم السابقة دليل قاطع على عدم وجود قاعدة عقليّة في هذا المجال .
ثانياً ليست المسألة بالشكل الذي تمّ تصويرها من خلال السؤال ، فالأمم السابقة هل كانت مجمعةً على مخالفة التكاليف الحرجيّة؟ أو أ نّ حوزة التكاليف كانت كسائر التكاليف الاُخرى ، تارةً تطاع وتؤدّى ، وتارةً اُخرى تُخالف . فلو أ نّ
(الصفحة 94)
التكاليف الحرجيّة كانت تواجه من قبل كافّة النّاس بالمخالفة والعصيان لكان من الممكن أن نقبل الرأي الذي يقول بعقلانيّة قاعدة نفي الحرج .
ولكنّنا نشاهد أ نّ التكاليف الحرجيّة كسائر التكاليف الاُخرى ، البعض يعمل بها ، لأ نّه إنسان متعبّد ومقيّد ، والبعض الآخر يتركها ، لكونه إنسان غير ملتزم وغير متعبّد .
فالإنسان غير الملتزم نراه لايلتزم بأسهل التكاليف الإلهيّة الخالية من أيّة مشقّة . وفي المقابل فإنّ الإنسان الملتزم والمتعبّد نراه مستعدّاً لأن يصوم سبعة عشر ساعة في طقس حارّ قد تصل فيه الدرجة إلى خمسين درجة مئوية . إذن الأساس في العمل بالتكاليف وعدم العمل التقوى والإلتزام ، ليس إلاّ .
ومن هنا نصل إلى هذه النتيجة ، وهي أ نّه لايوجد هناك دليل عقلي يمكن التعويل عليه في هذه المسألة . وما يدّعى أن يكون دليلاً عقلياً إمّا أن يكون خارجاً عن قاعدة نفي الحرج ، وإمّا أن يكون داخلاً في حوزة قاعدة نفي الحرج ، إلاّ أ نّه ناقص وغير تامّ .
من هنا نخلص إلى هذه النتيجة ، وهي أ نّ الدليل على قاعدة نفي الحرج ينحصر في خصوص الآيات والروايات ، وأمّا الإجماع والعقل فلا يمكن أن نعتبرهما دليلان مستقلاّن .
العناوين المختلفة للحرج
العناوين التي ذكرت في مجموع الآيات والروايات هي أربعة عناوين ، الحرج ، العسر ، الإصر ، الضيق . وعنوان الضيق نصّت عليه الروايات خاصّة . والآن لنرى هل يوجد هناك اختلاف بين هذه العناوين ، أو أنّها متساوية في المفهوم والمعنى أو قل : متقاربة؟ وإذا كان هناك تباين بين هذه العناوين ، فما هي كيفيّة هذا
(الصفحة 95)
التباين؟ وعلى فرض التباين ، كيف يكون الحكم؟
في البداية يجب أن ندقّق في معاني هذه العناوين خصوصاً عنوان الحرج ، باعتبار أ نّ القاعدة عرّفت بهذا العنوان .
العنوان الأوّل هو عنوان الحرج . عرّف كبار أهل اللغة الحرج بما يلي:
يقول الجوهري في كتاب الصحاح : ـ مكانٌ حرج: أي ضيّق . فهنا أوّلاً جعل الحرج صفة للمكان ، ثمّ عرّفه بأن قال عنه: ضيّق . وفي الحقيقة فإنّ الحرج أساساً يعني الضيق كما أنّه فسّره بالإثم أيضاً . حيث يقول الجوهري في الصحاح قد يستعمل كلمة الحرج بمعنى الإثم .
وجاء في القاموس ، الحرج: «المكان الضيق الكثير الشجر» ومن هنا يمكن أن نستفيد من القاموس فائدة جديدة لم يشر إليها في الصحاح ، وهي أ نّ المعنى الأوّل للحرج أخذ فيه المكان . لأ نّ عبارة الصحاح هي الحرج ، أي الضيّق ، وأمّا القاموس فقد عرّف فيها الحرج قائلاً: المكان الضيّق ، الكثير الشجر . وفي الحقيقة فإنّ هذا المعنى راجع إلى المعنى الأوّل . لأ نّ المكان الذي يكثر فيه الشجر ، يكون ضيقاً . لأنّ كثرة الشجر تعني المسافة بين الأشجار متقاربة جدّاً ، وبالتالي فهذا يتضمّن حالةً من الضيق .
المعنى الثالث للحرج ـ الذي ينصّ عليه القاموس ـ هو الإثم . وهذا المعنى بنفسه قد اشير إليه في الصحاح ، ويضيف ابن الأثير في كتاب النهاية إضافة جديدة على المعنيين المتقدّمين فيقول: إنّ الحرج في الأصل الضيق ، ويقع على الإثم والحرج . إلاّ أ نّ المعنى الأصلي للكلمة هو الضيق ، وأمّا معنى الإثم والحرام فهو ليس أصلاً ، ثمّ يقول: وقيل: الحرج ، أضيق الضيق . أي لا مطلق الضيق ، بل الضيق الشديد .
ومحصّله أ نّ للضيق عدّة مراتب ، أعلى هذه المراتب هي الحرج .
(الصفحة 96)
وورد في مجمع البحرين: أ نّ {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} أي ما ضيّق . وهذا يعني أنه فسّر الحرج بالضيق . ولكن أرى أ نّ تفسيره بـ«ما ضيّق» يستقيم معه معنى الجملة . فيكون معنى الآية «ما ضيّق بأن يكلّفكم مالا طاقة لكم به وما تعجزون عليه» وسبق وأن قلنا : إنّ العجز وعدم الطاقة ليس بمعنى الحرج . لكن نعود فنقول: إنّ الأساس هو أ نّه فسّر الحرج بالضيق والتضيّق .
بعد ذلك يورد صاحب مجمع البحرين قولاً يؤيّد فيه ما جاء في كتاب النهاية . يقول صاحب مجمع البحرين: وفي كلام الشيخ علي بن إبراهيم ـ وهو من الأدباء واللغويين ـ الحرج الذي لا مدخل له ، والضيقة ماله مدخل . إذن الضيق فيه مندوحة ومهرب ، وأمّا الحرج فلا مفرّ منه ولا مهرب .
وظاهر هذا الكلام ، أ نّه مرادف لما جاء في النهاية من أ نّ الحرج هو أضيق الضيق .
وأدقّ ماورد في تفسير هذا الكلمة ، هو ما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته ، ـ وهو من الكتب النفيسة جدّاً ـ من أ نّ أصل الحرج والحراج ، هو مجتمع الشيء وتصوّر منه ضيق بينها ، فقيل للضيق حرج ، وللإثم حرج . إذن من هنا نفهم أ نّ الحرج ليس بمعني الضيق ، ولا بمعنى الإثم ، بخلاف ما أورده صاحب النهاية إذ يقول: الحرج في الأصل الضيق ، بل هو اجتماع أجزاء شيء واحد وحدوث تداخل وترابط فيما بينهم . هذا الاجتماع هو ما يسمّى بالحرج . ويلزم عن حالة الاجتماع هذه الضيق . لأ نّ الشيء إذا كانت أجزاؤه متفرّقة فلا ضيق ، وأمّا إذا تجمّعت في مكان واحد ، خاصّة إذا كان الشيء من قبيل السوائل التي لها تركيب خاص ، حينئذ فإنّ الإجتماع يستلزم الضيق . أي أ نّ الأشياء تداخلت فيما بينها وترابطت ، ومن هنا عبرّ عن المعنى الحقيقي للحرج بأن قال: هو مجتمع الشّيء ـ على حدّ تعبيره ـ وقوله تصوّر منه ، يعني استلزم من حالة الاجتماع ضيق فيما بين الأجزاء .