(الصفحة 93)
توجد هناك قاعدة نفي الحرج هذه؟ وهل سيؤدّي ذلك إلى التعارض مع الحكم العقلي؟
ليست هنا ارتباط بين نفي الحرج وإختلال النظام ، حتّى يكون مستنداً للبعض من خلال ذلك أن يعطي للمسألة صبغة عقليّة أو يجعلها قاعدة عقليّة .
نعم ، يوجد هناك كلام للبعض في خصوص هذا النوع من موارد الحرج ، لا فيما يخصّ التكليف بمالا يطاق العقلي أو العرفي ، مفاده أ نّ أحد القواعد العقلية المسلّم بها ، هي قاعدة اللطف ، وخلاصة القول في هذه القاعدة هو أ نّ على الله تعالى أن يقرّب العبد من نفسه ، ويرشده ويهديه إليه ، كما أنّه يجب عليه سبحانه وتعالى أن يحذّر العبد من كلّ شيء يبعّده عن ساحته المقدسة .
من هنا نقول: إذا كان لدينا قاعدة اللطف ، فهل بإمكاننا أن نطبقها بخصوص قاعدة الحرج؟ بأن نقول: إنّ الله سبحانه وتعالى لو جعل تكاليفاً حرجيّة حينئذ سيتخلى الناس عن هذه التكاليف وسيحاولون التهرّب منها . لأ نّ الناس لايميلون إلى تأدية مثل هذه التكاليف ، وبالتالي فإن هذه التكاليف الشّاقة سوف تبعّد الناس عن الله تبارك وتعالى . وهذا يتنافى مع قاعدة اللطف . إذ ينبغي أن لايكون هناك ما من شأنه إبعاد الناس عن ساحة القدسي الإلهيّة .
والجواب على ذلك يتخلص في النقاط التالية:
الأوّلى إنّ التكاليف الحرجية كانت موجودة في السابق ، ولو كانت هذه القاعدة عقليّة فلا يمكن تخصيصها ، إذن وجود التكاليف الحرجية في الاُمم السابقة دليل قاطع على عدم وجود قاعدة عقليّة في هذا المجال .
ثانياً ليست المسألة بالشكل الذي تمّ تصويرها من خلال السؤال ، فالأمم السابقة هل كانت مجمعةً على مخالفة التكاليف الحرجيّة؟ أو أ نّ حوزة التكاليف كانت كسائر التكاليف الاُخرى ، تارةً تطاع وتؤدّى ، وتارةً اُخرى تُخالف . فلو أ نّ
(الصفحة 94)
التكاليف الحرجيّة كانت تواجه من قبل كافّة النّاس بالمخالفة والعصيان لكان من الممكن أن نقبل الرأي الذي يقول بعقلانيّة قاعدة نفي الحرج .
ولكنّنا نشاهد أ نّ التكاليف الحرجيّة كسائر التكاليف الاُخرى ، البعض يعمل بها ، لأ نّه إنسان متعبّد ومقيّد ، والبعض الآخر يتركها ، لكونه إنسان غير ملتزم وغير متعبّد .
فالإنسان غير الملتزم نراه لايلتزم بأسهل التكاليف الإلهيّة الخالية من أيّة مشقّة . وفي المقابل فإنّ الإنسان الملتزم والمتعبّد نراه مستعدّاً لأن يصوم سبعة عشر ساعة في طقس حارّ قد تصل فيه الدرجة إلى خمسين درجة مئوية . إذن الأساس في العمل بالتكاليف وعدم العمل التقوى والإلتزام ، ليس إلاّ .
ومن هنا نصل إلى هذه النتيجة ، وهي أ نّه لايوجد هناك دليل عقلي يمكن التعويل عليه في هذه المسألة . وما يدّعى أن يكون دليلاً عقلياً إمّا أن يكون خارجاً عن قاعدة نفي الحرج ، وإمّا أن يكون داخلاً في حوزة قاعدة نفي الحرج ، إلاّ أ نّه ناقص وغير تامّ .
من هنا نخلص إلى هذه النتيجة ، وهي أ نّ الدليل على قاعدة نفي الحرج ينحصر في خصوص الآيات والروايات ، وأمّا الإجماع والعقل فلا يمكن أن نعتبرهما دليلان مستقلاّن .
العناوين المختلفة للحرج
العناوين التي ذكرت في مجموع الآيات والروايات هي أربعة عناوين ، الحرج ، العسر ، الإصر ، الضيق . وعنوان الضيق نصّت عليه الروايات خاصّة . والآن لنرى هل يوجد هناك اختلاف بين هذه العناوين ، أو أنّها متساوية في المفهوم والمعنى أو قل : متقاربة؟ وإذا كان هناك تباين بين هذه العناوين ، فما هي كيفيّة هذا
(الصفحة 95)
التباين؟ وعلى فرض التباين ، كيف يكون الحكم؟
في البداية يجب أن ندقّق في معاني هذه العناوين خصوصاً عنوان الحرج ، باعتبار أ نّ القاعدة عرّفت بهذا العنوان .
العنوان الأوّل هو عنوان الحرج . عرّف كبار أهل اللغة الحرج بما يلي:
يقول الجوهري في كتاب الصحاح : ـ مكانٌ حرج: أي ضيّق . فهنا أوّلاً جعل الحرج صفة للمكان ، ثمّ عرّفه بأن قال عنه: ضيّق . وفي الحقيقة فإنّ الحرج أساساً يعني الضيق كما أنّه فسّره بالإثم أيضاً . حيث يقول الجوهري في الصحاح قد يستعمل كلمة الحرج بمعنى الإثم .
وجاء في القاموس ، الحرج: «المكان الضيق الكثير الشجر» ومن هنا يمكن أن نستفيد من القاموس فائدة جديدة لم يشر إليها في الصحاح ، وهي أ نّ المعنى الأوّل للحرج أخذ فيه المكان . لأ نّ عبارة الصحاح هي الحرج ، أي الضيّق ، وأمّا القاموس فقد عرّف فيها الحرج قائلاً: المكان الضيّق ، الكثير الشجر . وفي الحقيقة فإنّ هذا المعنى راجع إلى المعنى الأوّل . لأ نّ المكان الذي يكثر فيه الشجر ، يكون ضيقاً . لأنّ كثرة الشجر تعني المسافة بين الأشجار متقاربة جدّاً ، وبالتالي فهذا يتضمّن حالةً من الضيق .
المعنى الثالث للحرج ـ الذي ينصّ عليه القاموس ـ هو الإثم . وهذا المعنى بنفسه قد اشير إليه في الصحاح ، ويضيف ابن الأثير في كتاب النهاية إضافة جديدة على المعنيين المتقدّمين فيقول: إنّ الحرج في الأصل الضيق ، ويقع على الإثم والحرج . إلاّ أ نّ المعنى الأصلي للكلمة هو الضيق ، وأمّا معنى الإثم والحرام فهو ليس أصلاً ، ثمّ يقول: وقيل: الحرج ، أضيق الضيق . أي لا مطلق الضيق ، بل الضيق الشديد .
ومحصّله أ نّ للضيق عدّة مراتب ، أعلى هذه المراتب هي الحرج .
(الصفحة 96)
وورد في مجمع البحرين: أ نّ
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} أي ما ضيّق . وهذا يعني أنه فسّر الحرج بالضيق . ولكن أرى أ نّ تفسيره بـ«ما ضيّق» يستقيم معه معنى الجملة . فيكون معنى الآية «ما ضيّق بأن يكلّفكم مالا طاقة لكم به وما تعجزون عليه» وسبق وأن قلنا : إنّ العجز وعدم الطاقة ليس بمعنى الحرج . لكن نعود فنقول: إنّ الأساس هو أ نّه فسّر الحرج بالضيق والتضيّق .
بعد ذلك يورد صاحب مجمع البحرين قولاً يؤيّد فيه ما جاء في كتاب النهاية . يقول صاحب مجمع البحرين: وفي كلام الشيخ علي بن إبراهيم ـ وهو من الأدباء واللغويين ـ الحرج الذي لا مدخل له ، والضيقة ماله مدخل . إذن الضيق فيه مندوحة ومهرب ، وأمّا الحرج فلا مفرّ منه ولا مهرب .
وظاهر هذا الكلام ، أ نّه مرادف لما جاء في النهاية من أ نّ الحرج هو أضيق الضيق .
وأدقّ ماورد في تفسير هذا الكلمة ، هو ما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته ، ـ وهو من الكتب النفيسة جدّاً ـ من أ نّ أصل الحرج والحراج ، هو مجتمع الشيء وتصوّر منه ضيق بينها ، فقيل للضيق حرج ، وللإثم حرج . إذن من هنا نفهم أ نّ الحرج ليس بمعني الضيق ، ولا بمعنى الإثم ، بخلاف ما أورده صاحب النهاية إذ يقول: الحرج في الأصل الضيق ، بل هو اجتماع أجزاء شيء واحد وحدوث تداخل وترابط فيما بينهم . هذا الاجتماع هو ما يسمّى بالحرج . ويلزم عن حالة الاجتماع هذه الضيق . لأ نّ الشيء إذا كانت أجزاؤه متفرّقة فلا ضيق ، وأمّا إذا تجمّعت في مكان واحد ، خاصّة إذا كان الشيء من قبيل السوائل التي لها تركيب خاص ، حينئذ فإنّ الإجتماع يستلزم الضيق . أي أ نّ الأشياء تداخلت فيما بينها وترابطت ، ومن هنا عبرّ عن المعنى الحقيقي للحرج بأن قال: هو مجتمع الشّيء ـ على حدّ تعبيره ـ وقوله تصوّر منه ، يعني استلزم من حالة الاجتماع ضيق فيما بين الأجزاء .
(الصفحة 97)
وبذلك فهو يعطي لكلمة الحرج معنى لانجده من أيّ من الكتب التي أشرنا إليها آنفاً . ثمّ يقول: فقيل للضيق حرج ـ أي أ نّ استعمال كلمة الحرج في معنى الضيق جاء في رتبة متأخّرة ـ وللإثم حرج .
أمّا استعمال كلمة الحرج في معنى الإثم فقد ورد في التفاسير . والإثم أحد مصاديق الضيق . لأ نّ الإثم يعني أ نّ هناك تقصير من قبل العبد تجاه المولى ، وبعبارة اُخرى ، هناك مؤاخذة على العبد في مقابل الباري تعالى ، وهذه المؤاخذة تعدّ ضيقاً على العبد وضيقاً على العاصي . وحتّى مع عصيان العبد وتمّرده فإنّ الضيق متحقّق . إذن الإثم أيضاً هو من مصاديق الضيق بالشكل الذي أشرنا إليه .
ومن جهة اُخرى هناك بعض الآيات الكريمة التي يستفاد منها بأ نّ الحرج بمعنى الضيق كما اُستفيد هذا المعنى من مفردات الراغب هذا . فالآية الكريمة تنصّ على ذلك حيث قال تعالى:
{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}(1) هنا كلمة «حرجاً» يقصد بها نفس الضيق ، ولا يراد بها معنىً آخر . بل يمكن أعتباره نوعاً من الفنّ في التعبير ، حيث ذكر كلمة «ضيّقاً» ابتداءً ثمّ قال «حرجاً» فالجمع بينهما في هذه الآية يمكن أن نسوقه كدليل على أ نّ الحرج هو نفس الضيق ، وإلاّ لايمكن أن نتصوّر أ نّ الآية تريد أن تخطر في الذهن معنيين مختلفين .
وقد اختلف في تفسير الآية ، وخاصّة في كيفية:
{يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}؟ ويمكن تصوّر هذا المعنى بأن نقول: إنّ كلّ من كان على صراط غير مستقيم ، وعلى غير الإسلام ، فإنّه يفتقد الإطمئنان والسكينة ، وهذا ما يظهر من قوله تعالى:
{أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(2) والقلب الذي يفتقد الطمأنينة والسكينة هو قلب
- 1 . الأنعام : 125 .
- 2 . الرعد: 28 .