(الصفحة 34)
الى ماهو المحرم في حال الاحرام المعهود عند المسلمين لما عرفت من كون حرمة الطيب في الجملة في حال الاحرام من الامور المسلّمة بين الفريقين وحمله على الطيب الذي يكون آكد في الحرمة وأغلظ فيها أو الذي يكون موجباً للكفارة من بين الأنواع المشتركة في أصل الحرمة الاحرامية خلاف الظاهر جدّاً فانقدح انه لايرد اشكال على صاحب الجواهر (قدس سره) من هذه الجهة.
هذا، والذي يقتضيه التحقيق في مقام الجمع بين الطائفتين من الروايات الواردة في المقام هو حمل الطائفة الدالة على حرمة الطيب مطلقاً وبجميع أنواعه على الكراهة وتخصيص الحرمة بخصوص العناوين الخمسة الواردة في الطائفة الثانية وذلك لأنّ لسان هذه الطائفة امّا لسان الحصر وان كان المحصور فيه زائداً على الأربعة المذكورة لاقتضاء الجمع بين روايات نفس هذه الطائفة لذلك كما في صحيحة معاوية بن عمّار. وامّا لسان التفسير والحكومة ومرجعه الى بيان ان الطيب الذي تكون حرمته في حال الاحرام معهودة عبارة عن الأربعة المذكورة فيه وان كان مقتضى الجمع بين الدليلين الحاكمين هو وجود عنوان خامس إلاّ انّ زيادة عنوان آخر لايوجب التزلزل في أصل الحكومة ولا رفع اليد عن مفاد كلمة «انّما» الذي هو عدم عمومية الحرمة لجميع أنواع الطيب فمقتضى الجمع الدلالي الذي يوجب الخروج عن عنوان «المتعارضين» ولا تصل النوبة الى المرجحات حتى الشهرة الفتوائية هو الحكم باختصاص الحرمة بالأنواع الخمسة وحمل ما دلّ على النهي عن المطلق على الكراهة واللازم على هذا التقدير حمل مادلّ على ثبوت الكفارة في مطلق الطيب على كون المراد واحداً من تلك الأنواع الخمسة وكيف يجتمع لسان الحكومة الموجود في أكثر هذه الطائفة مع عموم النهي كما انه لايجتمع معه لسان الحصر الموجود في الصحيحة.
(الصفحة 35)
ويؤيد ما ذكرنا التدبّر في نفس صحيحة معاوية بن عمار المشتمل صدورها على النهي عن مسّ شيء من الطيب وكذا الدهن الذي يكون المراد به بقرينة الذيل هو الدهن الطيّب وذيلها على أمرين: أحدهما حصر المحرم من الطيب في الأربعة، وثانيهما كراهة الادهان الطيبة لغير المضطر. ومن الواضح انّ المراد من الكراهة في مقابل الحرمة هي الكراهة المصطلحة فهل الجمع بين المصدر المذكور في الرواية وبين الذيل الذي اُشير اليه، يستلزم التهافت والتنافي أو انّ مقتضاه كون الذيل قرينة على ان المراد بالصدر هي الكراهي كما انه قد صرّح بها بالنسبة الى الدهن وهل يمكن حمل الكراهة الواقعة في مقابل الحرمة على الحرمة فلا محيص عن حمل النهي في المصدر على الكراهة.
ويؤيده التعليل بانّه لاينبغي للمحرم ان يتلذذ بريح طيبة فانه لو لم تكن الرواية مشتملة على الذيل المذكور الموجب لحمل النهي في الصدر على الكراهة لما كان هذا التعبير منافياً للحرمة بوجه إلاّ ان الاشتمال على الذيل كما انّه أوجب حمل الصدر على الكراهة كذلك يوجب حمل التعليل على ما يناسب الكراهة.
كما انه يؤيد ما ذكرنا جعل الكفارة قبل بيان الأنواع المحرّمة هو التصدق بصدقة بقدر ما صنع مع ان كفارة الطيب المحرم كما دلّ عليه بعض الروايات المتقدمة، هو الدم وعليه الفتوى فاللازم ان يقال بان هذه الكفارة كفارة المكروه ولاتكون واجبة بل مستحبة. فالتدبّر في نفس هذه الصحيحة يرشدنا الى الجمع الذي ذكرنا وإلاّ يلزم التهافت أو الاضطراب في الرواية.
بقى الكلام في هذه الجهة في معنى الطيب ومفهومه سواء قلنا بتعلّق الحرمة بعنوانه بنحو الاطلاق أو قلنا بثبوت الكراهة في غير العناوين الخمسة المحرّمة فانّه على هذا
(الصفحة 36)
التقدير أيضاً لابد من معرفة معنى الطيب فنقول:
الظاهر انه من العناوين التي يرجع في تشخيص معناها وفهم المراد منها الى العرف واللغة، لعدم ثبوت معنى خاص له في الشريعة وتعرّض جملة من أعيان الفقهاء لتعريفه وتفسيره لا يرجع الى ثبوت معنى مخصوص له فيها بل بيان لما هو المتفاهم منه عند العرف ولا بأس بالاشارة الى نقل جملة منها فنقول:
قال العلاّمة (قدس سره) في محكى التذكرة: «انه ما تطيب رائحته ويتخذ للشمّ كالمسك والعنبر والكافور والزعفران وماء الورد والأدهان الطيّبة كدهن البنفسج والورس، والمعتبر ان يكون معظم الغرض منه التطيّب أو يظهر فيه هذا الغرض».
وقال الشهيد الأوّل: «يعني به كل جسم ذي ريح طيبة بالنسبة الى معظم الأمزجة أو الى مزاج المستعمل له غير الرياحين».
وقال في المسالك: «هو الجسم ذو الريح الطيبة المتخذة للشمّ غالباً غير الرياحين كالمسك والعنبر والزعفران وماء الورد والكافور».
والعمدة ما عرفت من ان المعيار هو المعنى العرفي واللغوي والتعاريف المزبورة ناظرة اليه وسيأتي الكلام في بعض المصاديق انشاء الله تعالى. هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.
الجهة الثانية: في تنقيح متعلق الحرمة من الأفعال المتعلقة بالعناوين الخاصة أو بالطيب بنحو الاطلاق ولنقدم في هذه الجهة أمراً وهو انه ربما يُقال كما في تقريرات بعض الأعاظم (قدس سرهم) بكون أدلّة المقام ظاهرة في تعلق الحكم ابتداء بنفس الاعيان فتصير نظير قوله تعالى: حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير... غاية الأمر لابد من الالتزام بعدم كون المراد ذلك لعدم امكان تعلق الحكم بنفس الاعيان.
(الصفحة 37)
ويرد عليه بطلان ما أفاده لعدم كون أدلّة المقام نظيراً للآية المزبورة، وذلك لأن صحيحة معاوية بن عمّار المشتملة على الحصر ناظرة الى نفي ثبوت الحرمة فيما عدا الأربعة المذكورة فيها، وامّا تعلّق الحرمة بنفس العناوين المتعددة التي وقعت مورداً لتعرضها، فلا دلالة لها عليه أصلاً. وبعبارة اُخرى مفادها تضييق دائرة متعلق الحكم التحريمي وتخصيصها بالأربعة.
وامّا كون الأربعة بذواتها متعلقة للحرمة فلا يستفاد منها بوجه. وأوضح منها الروايات الدالة على تفسير الطيب التي قد عرفت ان لسانها لسان الحكومة، والتوضيح فان مفادها انّ الطيب الذي يكون محرّماً في حال الاحرام وتكون حرمته معهودة عبارة عن الأربعة المذكورة فيها وامّا كون المتعلّق نفس العناوين فلا دلالة لها عليه أصلاً فالمقام لايكون نظيراً للآية المذكورة حتى يجري فيه احتمال كون حذف المتعلق مفيداً للعموم.
نعم على القول بحرمة الطيب باطلاقه يكون بعض الروايات المتقدمة الدالة على هذا الحكم مشعرة بتعلق الحكم بعنوانه وان كان أكثرها دالة على التعلّق بالفعل المتعلق به مثل المسّ المذكور في كثير منها.
وكيف كان فالتحقيق في أصل هذه الجهة ان يقال انه لا شبهة في خروج بعض الأفعال المتعلّقة بالطيب المحرّم عن دائرة الحرمة كالنظر اليه وبيعه وشرائه ومثل ذلك من الأفعال التي لايفهم العرف كونها ايضاً محرّمة ولم يقع الفتوى بها من أحد. كما ان الظاهر انه لاينبغي الارتياب في كون الاستشمام وتعلق الشم بالطيب المحرّم محرّماً لأنه القدر المتيقن الذي يدلّ عليه مفهوم الطيب ومعناه كما مرّ في التعاريف المتقدمة فان كونه عبارة عمّا يتخذ للشمّ غالباً أو انه ذو الريح الطيبة يرشد الى ان تعلق الحرمة به
(الصفحة 38)
يرتبط بهذه الجهة قطعاً فحرمة الشم هو القدر المتيقن، كما ان القدر المتيقن من تعلّق الحرمة بالميتة في الآية الشريفة هو حرمة أكل لحمها والاستفادة منها من هذه الجهة بل ما نحن فيه أولى من الآية، لأن الأكل لم يؤخذ في مفهوم الميتة ومعناها، لا في معناها العرفي ولا في معناها الشرعي بناء على ثبوت معنى شرعي لها وامّا الطيب فقد عرفت انه قد اُخذ في مفهومه الاتخاذ للشمّ وعليه فلا شبهة في ان هذا العنوان محرم ولا يبقى مجال للبحث فيه والترديد في انه هل يصدق على الشمّ عنوان «الاستعمال» أو لايصدق كما في بعض الكلمات، فانه لافرق فيما ذكرنا بين الصدق وعدمه خصوصاً مع عدم دلالة شيء من الروايات على تعلّق الحرمة بعنوان الاستعمال كما هو الظاهر.
هذا ومقتضى رواية زرارة المتقدمة الدالة على ثبوت الكفارة على من أكل طعاماً فيه طيب هو كون الأكل أيضاً مما تعلق به التحريم في باب الطيب من دون فرق بين القول بحرمة مطلق الطيب كما عليه المشهور أو بحرمة بعض أنواعه كما رجّحناه واحتمال كون الأكل في الرواية لا مدخلية له بل ذكره انّما هو لأجل استلزامه للشمّ مدفوع مضافاً الى منع الاستلزام لإمكان كونه فاقداً لحاسة الشمّ أو ممسكاً لأنفه في حال الأكل بانّ ظاهر الرواية كون الأكل له الموضوعية والمدخلية ولا وجه للحمل على خلاف الظاهر وعليه فتتسع دائرة متعلق الحرمة، ويجب الحكم بكون الأكل أيضاً محرّماً كالشمّ على ما عرفت.
انّما الاشكال والبحث في مسّ الطيب وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سرهم) على ما في تقريراته انه لاينبغي الاشكال في حرمته من جهة الاخبار الناهية عن مسّ مطلق الطيب كقوله (عليه السلام) في صحيح معاوية بن عمّار المتقدم: لا تمسّ شيئاً من الطيب وانت محرم ولا من الدهن... وفي صحيح حريز: لايمسّ المحرم شيئاً من الطيب ولا الريحان
|