(الصفحة 112)
ويرد عليه أوّلا:
ان قوله «يشرق لك بثير» الذي معناه الحقيقي هو إشراق بثير الذي هو جبل بمكة. والظاهر ان خصوصيته إنما هي بلحاظ كونه أوّل جبل يطلع الشمس عليه من ناحية المشرق له معنى كنائي وهو طلوع الشمس. ومن الواضح إن الإستعمالات الكنائية يكون المقصود الأصلي ماهو الملزوم، لا المعنى الحقيقي الذي هو لازم لذلك المعنى. والملاك في الصدق والكذب فيها هي مطابقة المقصود الأصلى للواقع وعدم مطابقته لا مطابقة المدلول المطابقي ومخالفته. فقوله: زيد كثير الرماد يكون الملاك في صدقه وكذبه هو كونه ذا جود وسخاء وعدم كونه كذلك، لا كونه كثير الرّماد واقعاً وعدمه.
والدليل على كون المعنى الكنائي في المقام هو طلوع الشمس، مضافاً إلى دلالة اللغة عليه تفسيره بذلك في بعض الروايات المعتبرة. ففي رواية معاوية بن عمار ـ التي يحتمل قويّاً أن تكون هي الرواية المتقدمة، غاية الأمر إشتمالها على اضافة في الذيل ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) ـ قال «ثم أفض حيث يشرق لك بثير وترى الإبل مواضع اخفافها» قال ابو عبدالله (عليه السلام) كان أهل الجاهلية يقولون أشرق بثير يعنون الشمس كما يغير (نغير) وإنّما أفاض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلاف أهل الجاهلية كانوا يفيضون بإيجاف الحيل وإيضاح الإبل، فأفاض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلاف ذلك بالسكينة والوقار والدعة، فأفض بذكر الله والإستغفار وحرّك به لسانك.(1)
والعجب انّ صاحب الوسائل نقل قوله: حيث يشرق أيضاً بالفاء مكان القاف، ولم ينقل قوله: يعنون الشمس مع وجوده في المصدر الذي هو التهذيب على ما
- (1) وسائل: ابواب الوقوف بالمشعر، الباب الخامس عشر ح5.
(الصفحة 113)
راجعت. وعليه فالرواية دالة على التفسير بطلوع الشمس. وأمّا قوله: «كيما نغير» ففي محكي النهاية: «أشرق بثير كيما نغير» أي نذهب سريعاً. يقال: أغار إذا أسرع في العدو. وقيل: أراد نغير على لحوم الأضاحي من الإغارة والنهب. وفي القاموس: غار أسرع ومنه أشرق بثير كيما نغير، أي: نسرع إلى النحر. وأمّا قوله: إيضاع الإبل ففي الصحاح: وضع البعير أو غيره. أي: أسرع في سيره. وعليه فلا يبقى مجال لتفسيره بالأسفار ـ كما في الجواهر ـ.
ومنها: صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا تجاوز وادي محسّر حتى تطلع الشمس.(1) بناء على كون المراد من التجاوز المنهي عنه هو العبور والمجاوزة المتحققة بالعبور عن جميع أجزاء الوادي. ومن الواضح ان وادي محسّر من حدود المشع الخارجة عنه، وهو الواقع بين المشعر ومنى. ولا يكون جزء من شيء منهما. فتدل الرواية على جواز الخروج من المشعر قبل طلوع الشمس بشرط عدم التجاوز عن الوادي المذكور.
هذا ولكن الظّاهر أن المراد من التجاوز المنهي عنه هو الدخول. ومعناه النهي عن الدخول في الوادي الملازم للخروج عن المشعر قبل الطلوع، كما أن المراد من التجاوز المنهي عنه في ليلة المزدلفة بالإضافة إلى الحياض الذي أو أيضاً من حدود المشعر، قد عرفت انّه الدخول فيه، لا العبور عنها. ويؤيده بل يدل عليه إنه لو كان المراد منه ذلك لكان المناسب التعبير بالدخول في منى، لأن التجاوز عن وادي محسّر يلازم الدخول والورود فيها. فالتعبير بالتجاوز دونه قرينة على كون المراد منه هو
- (1) وسائل: أبواب الوقوف بالمشعر، الباب الخامس عشر، ح2.
(الصفحة 114)
الدخول. والعجب من صاحب الجواهر (قدس سره) حيث جعل الصحيحة دالة على مرامه، وان جعل التجاوز المنهي عنه بمعنى الدخول، نظراً إلى أنه أعم من لاأسفار المتحقق قبل طلوع الشمس مع أنه على هذا التقدير لا يبقى للأسفار موقع أصلا.
ومنها: مرسلة ابن مهزيار عمّن حدثه عن حماد بن عثمان عن جميل بن دراج عن ابي عبدالله (عليه السلام) قال: ينبغي للإمام أن يقف بجمع حتى تطلع الشمس، وسائر النّاس إن شاؤوا عجّلوا، وإن شاؤوا أخّروا.(1) والمراد بالإمام هو أمير الحاج. والرواية ظاهرة في جواز تعجيل سائر الناس عنه، ولازمه الخروج عن الموقف قبل طلوع الشمس.
ولكن الرواية مضافاً إلى كونها غير معتبرة بسبب الإرسال، فلا ينبغي الإتكال عيها تجري المناشقة في دلالتها أيضاً، نظراً إلى أن المناسبة تقتضى أن يكون المراد بوقوف الإمام بالمشعر هو الوقوف في خصوص الموضع الذي اختاره للوقوف من المشعر وكان الناس يرجعون إليه في مقاصدهم ومشاكلهم، لا الوقوف الشامل للخروج عن ذلك الموضع والحركة عنه بطرف منى، وإن كان محل سيره وحركته هو المشعر بعد. وعليه فالمراد من تعجيل الناس هو تعجيلهم في الحركة عن الموضع الذي قد اختاروه للوقوف بجمع أثاثهم ولوازمهم. ومن الواضح ان الحركة عنه لا تستلزم الورود في وادي محسّر، بل يحتاج إلى زمان معتد به وحركة معتد بها. فلا دلالة للرواية على مرام صاحب الجواهر (قدس سره) .
ومنها: موثقة إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) أيّ ساعة أحبّ إليك
- (1) وسائل: أبواب الوقوف بالمشعر، الباب الخامس عشر، ح4.
(الصفحة 115)
أن أفيض من جمع؟ قال: قبل أن تطلع الشمس بقليل، فهو أحبّ السّاعات إليّ، قلت: فإن مكثنا حتى تطلع الشمس؟ قال: لا بأس.(1)
والجواب عن الاستدلال بها هو الجواب عن الرواية السابقة، بالإضافة إلى الدلالة ويزيده وضوحاً في هذه الرواية السؤال الثاني الظاهر في وجود الشبهة للسائل من جهة أصل الجواز، فسئل عن جواز المكث حتى طلوع الشمس، مع انه لو كان امراد منها ما أفاده صاحب الجواهر ولازمه أن يكون المراد هو المكث في المشعر حتى طلوع الشمس لم يكن في البين مايوجب الشبهة والإرتياب. فإن جوازه يكون أمراً مسلّماً لا شبهة فيه. وقد احتاط رعايته صاحب الجواهر، فاللازم أن يقال بأن المراد به هو المكث في خصوص الموضع الذي اختار الوقوف فيه من المشعر. وحيث إنه (عليه السلام) حكم بأن الساعة التي يجب الإفاضة فيها من المشعر، هو قبل طلوع الشمس بقليل توهم السائل ان التأخير عنها حتى تطلع، هل يكون جائزاً أم لا ؟ فأجاب (عليه السلام) بنفي البأس. فالموثقة ظاهرة في خلاف ما عليه الجواهر، فتدبر.
الجهة الثالثة: فيما هو الركن من الوقوف بالمشعر. ففي المتن أن الرّكن هو المسمّى من الوقوف بين الطلوعين. وعليه فالإخلال به عمداً يوجب بطلان الحج، كما صرّح به ابن إدريس وقال العلامة في المختلف، ان قول الشيخ في الخلاف يوهم ذلك. فإنه قال: فإن دفع قبل طلوع الفجر مع الإختيار لم يجزئه. وفي الجواهر: انه ربما كان هذا ظاهر عبارة الدروس بناء على إرادة عدم الدخول في وادي محسّر، من قوله فيها:
- (1) وسائل: أبواب الوقوف بالمشعر، الباب الخامس عشر، ح1.
(الصفحة 116)
ولما يتجاوز، وتبعه الكركي وثاني الشهيدين.
أقول: لابد في هذه الجهة من ملاحظة أمرين:
الأوّل: عدم سعة دائرة الركن بالإضافة إلى الوقوف قبل طلوع الفجر. وحيث إن المختار عندنا عدم وجوب الوقوف قبله. فيظهر عدم سعة دائرته بالنسبة إليه، لأنّه بعد عدم اتصافه بالوجوب لا مجال للإتصاف بالركنيّة أصلا، لأن الركنيّة إنّما هي في المرتبة المتأخرة عن الوجوب، لأنه لا يجتمع الإستحباب مع الركنيّة بوجه.
الثاني: إن الركن الذي تكون دائرته محدودة بما بين الطلوعين يكون مجرد المسمّى لا المجموع. ويدل عليه مضافاً إلى اتفاق الأصحاب على أن الركن هو المسمى ـ سواء قيل بسعة دائرته بالإضافة إلى قبل طلوع الفجر، أم لم يقل بذلك ـ الرّوايات الكثيرة التي يستفاد منها ذلك، مثل:
صحيحة محمد بن فضيل، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عند الحدّ الذي إذا أدركه الرجل أدرك الحج، فقال: إذا أتى جميعاً والناس في المشعر قبل طلوع الشمس، فقد أدرك الحج ولا عمرة له; وإن لم يأت جمعاً حتى تطلع الشمس، فهي عمرة مفردة ولا حجّ له، فان شاء اقام بمكّة وان شاء رجع، وعليه الحج من قابل.(1)
وصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من أدرك المشعر الحرام وعليه خمسة من الناس فقد أدرك الحج.(2)
ورواية إسحق بن عبدالله، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل دخل مكّة مفرداً
- (1) وسائل: أبواب الوقوف بالمشعر، الباب الثالث والعشرون، ح3.
- (2) وسائل: أبواب الوقوف بالمشعر، الباب الثالث والعشرون، ح10.