(الصفحة 313)
والاشتمال على كلمة «لا ينبغي» لا دلالة له على أن المراد به نفي الاستحباب. لأنه مضافاً إلى أن هذه الكلمة في الروايات وكلمات الأئمة (عليهم السلام) تغاير ما هو المصطلح في كلمات الفقهاء من أن المراد به هو الاستحباب نفياً وإثباتاً. أن في الرواية قرينة بل قرائن على الخلاف، كالتفصيل بين صورتي النسيان وغيره وكالرجوع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) والاستفتاء منه، وقوله (صلى الله عليه وآله) «لا حرج» وغير ذلك من القرائن الدالة على ذلك. فالرواية تدل على أصل اعتبار الترتيب في الجملة.
ومنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن موسى بن القاسم عن علي، قال: لا يحلق رأسه ولا يزور حتى يضحي فليحلق رأسه ويزور متى شاء(1).
وأورد على سندها بأن موسى بن القاسم لا يمكن له ولا يروي عن المعصوم (عليه السلام) بلا واسطة، فلا يمكن تعقيب علي بقوله (عليه السلام) كما في محكي استبصار الشيخ.
وإن كان المراد من علي غير المعصوم، بل علي بن جعفر أو غيره ممن يسمّى بعلي ـ كما في الوسائل والتهذيب وغيرهما ـ فالرواية تكون مقطوعة حينئذ.
وبالجملة فالأدلة على الترتيب كثيرة. وإن كان تجري المناقشة في بعض رواياته سنداً أو دلالة، فتدبر.
وفي قبال هذه الأدلة بعض الروايات التي ربما يستفاد من ظاهرها العدم، مثل ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن وهب بن حفص عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا اشتريت اُضحيتك وقمطتها في
- (1) الوسائل: أبواب الذبح، الباب التاسع والثلاثون، ح9.
(الصفحة 314)
جانب رحلك فقد بلغ الهدي محلّه، فإن أحببت أن تحلق فاحلق(1).
قال في الوسائل بعد نقل الرواية: ورواه الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إذا اشتريت اُضحيتك ووزنت ثمنها وصارت في رحلك. وذكر مثله.
ورواه الصدوق بإسناده عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال إذا اشترى الرجل هديه وقمطّه في بيته فقد بلغ محله، فإن شاء فليحلق. وقد عمل بعض الأصحاب كالشيخ بظاهره ومال إليه في الحدائق، فلم يعتبروا في جواز الحلق الذبح.
أقول: أما ما ورد في سنده علي بن أبي حمزة فهو غير واجد للحجية والاعتبار، لضعف علي بن أبي حمزة البطائني المعروف. وأما ما لم يرد فيه هذا الشخص، بل ورد وهب بن حفص أو وهيب بن حفص فهو واجد لها لوثاقة وهيب، كما في نقل التهذيب بالوثاقة الخاصة، لتوثيق النجاشي إياه. ولوثاقة وهب، كما في الوسائل وغيره بالوثاقة العامة، لوقوعه في إسناد كتاب كامل الزيارات مع عدم قدح خاص بالإضافة له. فالرواية بهذه الكيفية معتبرة.
ولكن فيها إشعار بالآية الشريفة لاقتباسها منها، وهي قوله تعالى:
(وَلاتَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيَ مَحِلَّهُ...) (2) والظاهر أن هذا التعبير كناية عن تحقق الذبح. لأن المفروض فيها صورة الإحصار، ولا يكفي فيها مجرد وصول الهدي إلى منى الذي هو محله. وفي التعابير الكنائية لا يلحظ المعنى الحقيقي. بل الملاك في الصدق
- (1) الوسائل: أبواب الذبح، الباب التاسع والثلاثون، ح7.
- (2) سورة البقرة (2): 196 .
(الصفحة 315)
والكذب فيها هو المعنى المراد والمقصود. فإذا قيل: زيد مهزول الفصيل، لا يلزم أن يكون له فصيل أم يكون فصيله مهزولا. بل الملاك هو الجود وعدمه.
والظاهر أن المراد في الآية هو تحقق الذبح، بل لابد بلحاظ الفتاوى والحكم الوارد في المحصر ذلك.
وعليه فالرواية تدل على أن جواز الحلق إنما هو بعد الذبح، وإن كان السياق ربما ينافي ذلك. وعليه فلا دلالة لها على عدم اعتبار الترتيب ـ كما لا يخفى ـ .
المقام الثاني: في حكم مخالفة الترتيب. فاعلم أنها قد تكون عن سهو ونسيان، وقد تكون عن جهل بالحكم، وقد تكون مع العلم والعمد.
أمّا الساهي: فالحكم فيه الصحة. ويدل عليها قوله (عليه السلام) في صحيحة جميل بن دراج: إلاّ أن يكون ناسياً. حيث قال:
سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يزور البيت قبل أن يحلق، قال: لا ينبغي إلاّ أن يكون ناسياً، ثم قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتاه اُناس من يوم النحر، فقال بعضهم: يارسول الله إني حلقت قبل أن أذبح، وقال بعضهم: حلقت قبل أن أرمي، فلم يتركوا شيئاً كان ينبغي أن يؤخروه إلاّ قدموه، فقال: لا حرج(1).
وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجل نسي أن يذبح بمنى حتى زار البيت، فاشترى بمكة ثم ذبح، قال: لا بأس قد أجزأ عنه(2).
وغير ذلك من الروايات الدالة على الصحة، في صورة مخالفة الترتيب سهواً.
- (1) الوسائل: أبواب الذبح، الباب التاسع والثلاثون، ح4.
- (2) الوسائل: أبواب الذبح، الباب التاسع والثلاثون، ح5.
(الصفحة 316)
وأمّا الجاهل: فالحكم فيه أيضاً الصحة. ويدل عليه صحيحة جميل بن دراج المتقدمة، فإنها وإن وردت في مورد النسيان والتعبير فيها يدل على الحصر، إلاّ أن الظاهر ان المراد بالنسيان فيها ليس خصوص النسيان المقابل للجاهل وغيره، بل الأعم منه ومن الجاهل. والسر فيه اشتراكهما في عدم العلم في حال العمل، مع أن الأناس الذين أتوا النبي (صلى الله عليه وآله) للسؤال عن خلافهم، من البعيد أن يكون كلهم ناسين بالمعنى الاصطلاحي، بل الظاهر أن جلّهم بل كلهم كانوا جاهلين. والسر فيه مضافاً إلى أنه كان في حجة الوداع التي هي أول حج المسلمين مع نبيهم وآخره، وإلى أن الحج لا يتحقق إلاّ في الموسم وفي كل عام مرة، أن ابتلاء الاناس بالنسيان مع أنه قلما يتحقق ويتفق في الخارج ولا يعرض إلاّ لبعض الناس في بعض المواقع.
ولأجل ما ذكرنا لم يتحقق الاستفصال منه (صلى الله عليه وآله) أولا واستشهد الإمام (عليه السلام) بما وقع في عصره (صلى الله عليه وآله) ثانياً، مع أن السؤال منه (عليه السلام) كان عن صورة النسيان. فالصحيحة تدل على حكم الجاهل أيضاً. وإن لم يقع التعرض لحكمه بالخصوص في شيء من الروايات ـ فلا يبعد إلحاقه بالناسي ـ كما في المتن ـ .
وامّا العالم العامد: فالمعروف بينهم أيضاً هو الإجزاء والصحة، بل ربما ادعي الإجماع عليه نظراً إلى أن وجوب الترتيب تكليفي محض، ولا يترتب على مخالفته سوى المعصية وأحكامها، نظير ما ذكره بعض أساتيدنا في صلاة الجماعة، من أنّ وجوب متابعة المأموم للإمام لا يترتب على مخالفته بطلان الصلاة بل ولا بطلان الجماعة. لكن المحكي عن صاحب المدارك الخلاف. وأن الوجوب في الترتيب كوجوب سائر الاُمور المعتبرة في المركبات العبادية شرطي أو جزئي. وقد تبعه في
(الصفحة 317)
ذلك صاحب الحدائق وبعض آخر.
وقد استدل للمشهور بروايات، لابد من النظر والدقة فيها.
منها: رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام) : جعلت فداك، ان رجلا من أصحابنا رمى الجمرة يوم النحر، وحلق قبل أن يذبح، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما كان يوم النحر أتاه طوائف من المسلمين، فقالوا: يارسول الله (صلى الله عليه وآله) ذبحنا من قبل أن نرمي وحلقنا من قبل أن نذبح فلم يبق شيء مما ينبغي أن يقدموه إلاّ أخروه، ولا شيء مما ينبغي أن يؤخروه إلاّ قدموه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا حرج ولا حرج(1). نظراً إلى عدم التعرض فيها لصورة النسيان ـ كما في صحيحة جميل ـ .
ويرد عليها مضافاً إلى أن الراوي عن ابن أبي نصر هو سهل بن زياد، وفيه كلام واختلاف، انّ هذه لم تكن قصة اُخرى قد وقع السؤال فيها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل هي بعينها نفس القصة المحكية في صحيحة جميل. وقد ظهر أن التعبير فيها إنما هو بأداة الحصر، وأنه لا ينبغي إلاّ أن يكون ناسياً، فلا وجه للاستدلال بها على مطلق المخالفة، وإن كانت عن علم وعمد ـ كما لا يخفى ـ .
ومنها: صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل حلق رأسه قبل أن يضحي، قال: لا بأس وليس عليه شيء ولا يعودن(2). نظراً إلى ترك الاستفصال وإطلاق الجواب.
ويرد على الاستدلال بها أن الحكم بأنه «ليس عليه شيء» لا ينطبق ولا يشمل
- (1) الوسائل: أبواب الذبح، الباب التاسع والثلاثون، ح6.
- (2) الوسائل: أبواب الذبح، الباب التاسع والثلاثون، ح10.