(الصفحة 373)
المسلمين أعم من الشيعة على الالتزام العملي به، والمعاملة معه معاملة الواجب. وفي الحقيقة رؤيتهم له رؤية الواجب، والالتزام العملي به. وهذه السيرة متصلة بزمان المعصوم (عليه السلام) وقد استدللنا على وجوب بعض أجزاء الحج بهذه السيرة; من دون أن يكون هناك دليل لفظي أصلا.
الثالثة: في أنه وإن كان واجباً، بل في تركه ثبوت الكفارة أيضاً ـ كما سيأتي بعض النصوص الدالة عليه ـ إلاّ أنه لا يكون جزءاً من أجزاء الحج، بحيث إذا تحقق الإخلال به عمداً، يوجب ذلك الخلل في الحج. بل حكمه من هذه الجهة حكم طواف النساء.
و الدليل عليه بعض ما ورد مما يدل على تمامية الحج أو مناسكه بطواف الزيارة والسعي. فالمبيت بمنى وإن كان واجباً وفي تركه بالإضافة إلى كل ليلة شاة، إلاّ أنه لا يكون من أجزاء الحج.
الرابعة: أنه قد وقع التسالم والاتفاق على عدم وجوب بيتوتة تمام الليل. وإن كان ظاهر اللفظ مقتضياً لذلك، لكنه قد وقع الاختلاف على أن الواجب هو البيتوتة من أول الليل إلى نصفه، وبعده يجوز له الخروج من منى; أو أن الواجب هو أحد النصفين، فهو مخير بين النصف الأول، وبين النصف الأخير.
فالمشهور على الأول. كما عن الرياض: إن ظاهر الأصحاب انحصار المبيت في النصف الأول. والحلبي على الثاني; وهو الأقوى.
لصحيحة بن عمار ـ التي هي عمدة ما ورد في هذا الباب، وقد رواها صاحب الوسائل في الباب الأول من أبواب العود إلى منى في موضعين ـ منه عن أبي
(الصفحة 374)
عبدالله (عليه السلام) قال: لا تبت ليالي (أيام خل، وهو خلاف الظاهر) التشريق إلاّ بمنى، فإن بتّ في غيرها، فعليك دم; فإن خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنت في منى، إلاّ أن يكون شغلك نسكك، أو قد خرجت من مكة، وإن خرجت بعد نصف الليل، فلا يضرك أن تصبح بغيرها(1).
فإن فرض القضيتين الشرطيتين، بالإضافة إلى خروج أول الليل والخروج بعد نصف الليل، ظاهر في جواز كلا الخروجين. وهو لا ينطبق إلاّ على التخيير بعد النهي عن البيتوتة ليالي التشريق في غير منى.
وهذه الرواية دليل لفظي على وجوب أصل المبيت. إلاّ أن يقال بعدم انطباقها على المدعى. لأن المدعى هو وجوب المبيت بمنى، والصحيحة دالة على النهي في غير منى والجواز فيها; فتدبر.
ومثلها: صحيحة جعفر بن ناجية عن أبي عبدالله (عليه السلام) إنه قال: إذا خرج الرجل من منى أول الليل، فلا ينتصف له الليل إلاّ وهو بمنى، وإن خرج بعد نصف الليل، فلا بأس أن يصبح بغيرها(2).
- (1) الوسائل: أبواب العود إلى منى، الباب الأول، ح8 .
- (2) الوسائل: أبواب العود إلى منى، الباب الأول، ح2 .
(الصفحة 375)في الطوائف الذين يجب عليهم المبيت ليلة الثالث عشر
مسألة 2 ـ يجب المبيت ليلة الثالثة عشرة إلى نصفها على طوائف:
منهم: من لم يتق الصيد في إحرامه للحج أو العمرة. والأحوط لمن أخذ الصيد ولم يقتله، المبيت. ولو لم يتق غيرهما من محرمات الصيد كأكل اللحم والإراءة والإشارة وغيرهما، لم يجب. [1]
[1]
يجب المبيت ليلة الثالث عشر بالنحو المذكور في الليلتين على طوائف:
أمّا الوجوب على الطائفة الاُولى ـ وهم من لم يتق الصيد ـ فللروايات الواردة في تفسير الآية المشتملة على قوله تعالى:
(... لِمَنِ اتَّقى...) (1) باتقاء الصيد. وهذه الروايات كثيرة، عمدتها:
صحيحة حماد عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا أصاب المحرم الصيد فليس له أن ينفر في النفر الأول، ومن نفر في النفر الأول، فليس له أن يصيب الصيد حتى ينفر الناس. وهو قول الله عزوجل:
(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقى) (2) فقال: اتقى الصيد(3).
والراوي عن حماد وإن كان هو محمد بن يحيى، وهو مردد في نفسه بين محمد بن يحيى الخزاز الثقة، وبين محمد بن يحيى الخثعمي الذي هو ثقة أيضاً، وبين محمد بن يحيى الصيرفي الذي لم يوثق; إلاّ أن إطلاقه ينصرف إلى الأول الذي هو أشهرهم.
- (1)
سورة البقرة (2): 203 .
- (2)
نفس المصدر.
- (3) الوسائل: أبواب العود إلى منى، الباب الحادي عشر، ح3 .
(الصفحة 376)
ومنهم: من لم يتق النساء في إحرامه للحج أو العمرة وطأً، دبراً أو قبلا، أهلا له أو أجنبية، ولا يجب في غير الوطي ـ كالتقبيل واللمس وغيرهما ـ .
ومنهم: من لم يفض من منى يوم الثاني عشر وأدرك غروب الثالث عشر . [1]
فالرواية صحيحة من حيث السند لاخدشة فيها.
وأمّا من حيث الدلالة، فاشتمالها على تذييل الجملة الاُولى بقوله:
(... لِمَنِ اتَّقى...) (1) مع أن الآية تشتمل على تذييل الجملة الثانية به، لا يقدح بعد احتمال الاشتباه في النقل أو في الكتابة أو كون مقصود الإمام (عليه السلام) النقل بالمعنى.
وكيف كان فالصحيحة تدل على أن المراد في قوله تعالى من الإتقاء، هو إتقاء الصيد، فمن لم يتق الصيد لا يكون مخيّراً بين التعجيل والتأخير; بل يجب عليه التأخير معيناً. والقدر المتيقن من عدم إتقاء الصيد هو من أصابه. وأمّا من أخذه ولم يقتله فقد احتاط الإمام في المتن وجوباً بالمبيت ليلة الثالث عشر. ولكن شمول العنوان له محل ترديد. وأمّا أكل اللحم ـ أي: لحم الصيد ـ أو مجرد إراءته والإشارة إليه فلا ينافي الإتقاء بوجه. فالأمر يدور مدار هذا العنوان.
[1]
وأمّا الطائفة الثانية: فقد استشكل في وجوب المبيت الليلة المذكورة، نظراً إلى أن الإجماع لم يعلم تماميته، والدليل اللفظي عليه ضعيف.
وهي رواية محمد بن المستنير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من أتى النساء في إحرامه
- (1)
سورة البقرة (2): 203 .
(الصفحة 377)
لم يكن له أن ينفر في النفر الأول.(1)
ومحمد بن المستنير لا يوجد في الرواة، ولا يكون له رواية أصلا،ولا يكون مذكوراً في الكتب الرجالية، حتى مثل رجال الشيخ (قدس سره) المشتمل على عدّ الرواة وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) .
أقول: الرواية وإن كانت ضعيفة، لكن لا شبهة في موافقة فتوى المشهور لها واستنادهم إليها. وهو جابر لضعف سند الرواية، وإن كانت نفس الشهرة غير حجة.
وأمّا الطائفة الثالثة: فيدل على حكمهم النصوص:
منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من تعجل في يومين، فلا ينفر حتى تزول الشمس. فإن أدركه المساء بات ولم ينفر.(2) أي: في النفر الأول، لا مطلقاً.
ومنها: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا نفرت في النفر الأول، فإن شئت أن تقيم بمكة وتبيت بها فلا بأس بذلك. قال: وقال: إذا جاء الليل بعد النفر الأول فبت بمنى، فليس لك أن تخرج منها حتى تصبح(3).
ثم إن ظاهر المتن عدم وجوب المبيت ليلة الثالث عشر على غير هذه الطوائف، لكنه حكي عن بعض العلماء وجوبه على الضرورة أيضاً. كمن لم يتق الصيد في إحرامه. لكنه لا يعرف له شاهد ولا رواية ضعيفة. وحكى بعض الأعلام (قدس سره) عن شيخه المحقق النائيني أن الأحوط الأولى المبيت الليلة المذكورة أيضاً لكل من اقترف كبيرة من الكبائر. وإن لم تكن من محرمات الإحرام. وقد اعترف بأنه أيضاً
- (1) الوسائل: أبواب العود إلى منى، الباب الحادي عشر، ح1.
- (2) الوسائل: أبواب العود إلى منى، الباب العاشر ح1.
- (3) الوسائل: أبواب العود إلى منى، الباب العاشر، ح2.