(الصفحة 96)
إفطاري يوماً وقضائه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله.(1)
فمحلّ الكلام ما ذكرنا وحينئذ إن قلنا بأن الضابطة في المسألة الأصولية التي يبحث فيها عن إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الإضطراري وأنه يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الإختياري ـ كما هو الظاهر ـ أم لا بالاجزاء، فاللازم هو القول بالإجزاء في امقام لانّ التقية من موارد الإضطرار، وقد عبّر عنها به في بعض الروايات الصحيحة المعروفة بصحيحة الفضلاء، قالوا سمعنا أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن التقية في كل شيء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له.(2)
وإن لنا بعدم الإجزاء في المسألة الأصولية، فاللازم هو القول بالإجزاء في خصوص المقام لا لما ذكره صاحب الجواهر من انّه لا يبعد القول بالإجزاء هنا إلحاقاً له بالحكم للحرج، واحتمال مثله في القضاء. قال: وقد عثرت على الحكم بذلك منسوباً للعلامة الطباطبائي (قدس سره) ولكن مع ذلك فالإحتياط لا ينبغي تركه.
بل لأنّه قد مضى على الائمة (عليهم السلام) وشيعتهم ما يزيد عن مأتي سنة كان ثبوت الهلال مرتبطاً بحكم الحاكم وقاضيهم ولم يكن مورد واحد ولو إشارة وإشعاراً حكموا فيه ببطلان الحج، بلحاظ كون الوقوف مستنداً إلى حكم قاضي النّاس مع عدم ثبوته عند الشيعة. وكون مقتضى الإستصحاب العدم. ومن الواضح ثبوت الإختلاف كثيراً بهذه الكيفية الراجعة إلى الثبوت عندهم والشك عند الشيعة. ولا مجال لدعوى عدم وقوع الاختلاف أصلا في هذه المدة الكثيرة، خصوصاً مع ملاحظة مثل موثقة
- (1) وسائل: أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب السابع والخمسون، ح
- (2) وسائل: أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب السابع والخمسون، ح
(الصفحة 97)
أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) وكان بعض أصحابنا يضحي، فقال: الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس، والصوم يوم يصوم الناس.(1)
كما أن دعوى إن ذلك من جهة عدم تمكن الشيعة من الوقوف الثاني مدفوعة بمنع عدم التمكن دائماً، لا مكان الوقوف في برهة من الزمان، ولو مرّة واحدة في طول هذه المدّة، ولو بعنوان آخر بحسب الظاهر. فلا وجه لذلك غير الإجزاء وكفاية الوقوف الصّادر تقيةً.
مع أنه هنا شيء آخر ينبغي الإلتفات إليه وهو أنّ الأئمّة (عليهم السلام) وشيعة المدينة كانوا يحجون من المدينة وهم باعتبار قرب بلدهم إلى مكة لم يكن اللازم عليهم الخروج عنها قبل هلال ذي الحجة. فالقاعدة تقتضي الخروج بعده وإن كانت المراكب السابقة غير المراكب الفعلية، لكنه مع ذلك لم يكن الخروج قبله بلازم وحينئذ في مورد الشك وعدم الثبوت لو كان الحج كذلك غير صحيح. ولا محالة لا يكون مستحبّاً أيضاً. لأن العمل الباطل لا يتصف بشيء من الوجوب والإستحباب، لما كان وجه للخروج إلى الحجّ، خصوصاً بعد وضوح عدم اختلاف أفق مدينة ومكة، وكون حكم القاضي في الأولى نافذاً بالإضافة إلى الثانية أيضاً، مع أنه لم يعلم ولو مرة واحدة إمتناعهم عن الخروج لأجل ذلك. وتبيين هذه العلة ولو لخواصّ أصحابهم مع التعرض لمثله في موارد كثيرة، فلا مجال لاحتمال عدم الإجزاء مع التوجه إلى ما ذكرنا في صورة عدم العلم بالمخالفة.
وأمّا في صورة العلم بالمخالفة وعدم موافقة حكم القاضي للواقع قطعاً، فقد نفى
- (1) وسائل: أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب السابع والخمسون، ح7.
(الصفحة 98)
البعد في المتن عن الحكم بالصحة فيها، ولكنه ذكر بعض الأعلام (قدس سره) في مناسكه انه في هذه الصورة لا يجزي الوقوف معهم. فإن تمكن المكلف من العمل بالوظيفة ـ والحال هذه ولو بان ـ يأتي بالوقوف الإضطراري في المزدلفة دون أن يترتب عليه أيّ محذور ـ ولو كان المحذور مخالفته للتقية ـ عمل بوظيفته. وإلاَّ بدّل حجه بالعمرة المفردة ولا حج له. فإن كانت استطاعته من السنة الحاضرة ولم تبق بعدها سقط عنه الوجوب، إلاَّ إذا طرأت عليه الإستطاعة من جديد.
أقول: الظاهر هو الحكم بالصحة في هذه الصورة أيضاً، لأن تحققها في ذلك الزمان الطويل الذي أشرنا إلى أنه يزيد عن مأتي سنة، وإن كان قليلا بالإضافة إلى صورة الشك وعدم العلم بالمخالفة، إلاَّ أنه لا مجال لإنكاره. وقد مرّ في مرسلة رفاعة، أن الإمام (عليه السلام) حلف بأن اليوم الذي أفطر فيه تقية كان من شهر رمضان، وإنه كان عالماً بذلك حين الإفطار، ومع ذلك أفطر كذلك. فيدل ذلك على وقوع هذه الصورة أحياناً. ومع ذلك لم نر ولم نعهد منهم (عليهم السلام) الإشارة إلى عدم الإجزاء ولزوم التطرق إلى طريق صحيح، ومع عدم إمكانه لزوم تبديل الحج بالعمرة المفردة، ولو في مورد واحد مع كون فريضة الحج من الفرائض المهمة الإلهية.
ودعوى كون السيرة العملية من الأدلة اللبية التي لابد فيها من الإقتصار على القدر المتيقن ـ وهي صورة الشك وعدم العلم بالمخالفة ـ مدفوعة بأنه مع ملاحظة ما ذكرنا لا يكون شمولها لصورة العلم مشكوكاً حتى لا يجوز الإستدلال له بها. بل الظاهر إنه لا شك في الشمول نعم ربما يستدل على عدم الإجزاء ـ كما في تقريرات بعض الأعلام (قدس سره) في شرح المناسك ـ بأنه بعد عدم ثبوت السيرة في هذه الصورة
(الصفحة 99)
وعدم نص خاص على الإجزاء ليس في البين إلاَّ أدلة التقية، وهي مع أنها لا تدل على الإجزاء تكون دلالتها عليها على تقديرها في خصوص صورة الشك لا في مورد القطع بالخلاف أيضاً. فإن العامّة لا يرون نفوذ حكم حاكمهم حتى عند القطع بالخلاف، فالعمل الصادر منه لا يكون مصداقاً للتقية.
أقول: الظاهر ان عدم نفوذ حكم حاكمهم في صورة القطع بالخلاف إنّما هو بالإضافة إلى متابعيهم من الناس، وأمّا بالإضافة إلينا فحيث إنه لا دليل على كون المخالفة مستندة إلى القطع بالخلاف تجري التقية ويكون العمل الصادر مصداقاً لها. ولولا ذلك ينسد باب التقية في مثل الوقوف وأعمال منى وعيد الفطر إذ كان للشيعة الإعتذار عن المخالفة بالعلم بالخلاف وعدم نفوذ حكم الحاكم في هذه الصورة. مع أنك عرفت تحقق الإفطار منه (عليه السلام) مع العلم بالخلاف. فلم لم يعتذر عن عدمه بالعلم بكون الواقع مخالفاً بحكم القاضي؟ وبالجملة لازم هذا القول إنسداد باب التقية في الوقوف مطلقاً، ولا اقلّ في خصوص صورة العلم بالمخالفة واقعاً. وهذا ما لا يقول به المستدل، فالجمع بين جريان التقية الخوفية في صورة العلم بالمخالفة، كما لا محيص عن الالتزام به، ولذا حكم بإتمام حجه عمرة مفردة في هذه السنة في كلامه المتقدم وبين عدم الإجزاء وبين عدم نفوذ حكم حاكمهم في هذه الصورة لا يكاد يمكن، فلابد إمّا أن يقال بأنه لا تقية في هذه الصورة أصلا، وإمّا أن يقال بالإجزاء، كما في صورة الشك وحيث إنه لا سبيل إلى الأوّل فيتعين الثاني.
بقى الكلام في المسألة في حكم مخالفة التقيّة وإن العمل العبادي المخالف للتقية هل يتصف بالصحة والإجزاء أم لا؟ وفيه إحتمالات، بل أقوال:
(الصفحة 100)
أحدها: القول بالبطلان مطلقاً. وهو المحكي عن شارحي الشرايع صاحبي الجواهر والمصباح (قدس سرهما) .
ثانيها: القول بالصحة كذلك. وهو المحكي عن جماعة. وذهب إليه الامام الخميني (قدس سره) وإن إستشكل فيها هنا.
ثالثها: التفصيل بين الأجزاء والشرائط التي تكون متحدة مع العبادة، وبين الأجزاء والشرائط التي تكون خارجة عنها. ففي الأوّل ترك التقية موجب للبطلان ـ كالسجدة على التربة ـ إذا كانت التقية مقتضية لتركها وفي الثاني لا يوجب البطلان ـ كترك التكتف في الصّلاة كذلك ـ وهو المحكي عن الشيخ الأعظم الأنصارى وتبعه المحقق النائيني وبعض آخر.
والعمدة ملاحظة مايمكن أن يكون وجهاً للبطلان، وهو أحد أمرين:
الأمر الأوّل: كون العمل المخالف للتقية منهيّاً عنه. والنهي المتعلق بالعبادة يوجب فسادها.
ولكنه يرد عليه إن تعلق النهي بالعمل المذكور إن كان من جهة أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد، فقد حقق في المباحث الاصولية إنه لا يقتضي النهي عن الضد، إلاّ يلزم اجتماع حكمين في موارد ثبوت الوجوب.
وإن كان من جهة استفادة الحرمة من بعض التعبيرات الواردة في التقية، مثل ماورد من أن تركها موجب لوهن المذهب، أو أن تركها ذنب لا يغفر. فمن الواضح إنه لا وجه للإستفادة المزبورة أصلا ـ كما هو غير خفي ـ.
الأمر الثاني: إن العمل المخالف للتقية وإن لم يكن منهيّاً عنه ومتعلقاً للحرمة