(الصفحة 286)
هدياً، قال: يصوم ثلاثة أيام، قلت له: أفيها أيام التشريق؟ قال: لا، ولكن يقيم بمكة حتى يصومها وسبعة إذا رجع إلى أهله، فإن لم يقم عليه أصحابه ولم يستطع المقام بمكة، فليصم عشرة أيام إذا رجع إلى أهله. ثم ذكر حديث بديل بن ورقا(1).
هذا والظاهر عدم ظهور الروايتين في اعتبار وقوع صوم الثلاثة في مكة وإن كان ربما يؤيده بادي النظر، وذلك لأنه بعد ملاحظة ما تقدم من أن الوقت الأصلي له ما يكون متضمناً ومشتملا على يوم عرفة الذي لا يكون الحاج فيه في مكة بل في عرفات; والإتيان به بعد العود من منى إلى مكة ـ خصوصاً بعد عدم كون أيام التشريق منها ـ يكون في المرتبة الثانية التي عبّر عنها بالفوت في الرواية المتقدمة، وبعد ملاحظة أن الحاج بعد العود إلى مكة لا يكون له حاجة إلى غيرها، بل تكون الإقامة فيها مقدمة للرجوع إلى الأهل والوطن، لا يستفاد من ذكر عنوان «مكة» خصوصيته، وأنه يعتبر أن يقع صيام ثلاثة أيام في خصوص مكة، بحيث لم يجز وقوعها في غيرها ولو في حواليها.
ويؤيده عدم التعرض لهذه الجهة في كلمات الأصحاب في مقابل إطلاق الآية الشريفة، مع أنه لو كان لمكة خصوصية لكان اللازم التعرض له في الكلمات والفتاوى، فالإنصاف أن القول بالاعتبار لا يكون له مستند واضح.
ثم إنه يقع الكلام بعد هذه الجهة في جهة اُخرى قبل الورود في أصل المسألة. وهو إنه لو لم يتمكن من صيام الثلاثة في مكة، هل يكون مخيراً بين الإتيان به في الطريق وبين الإتيان به بعد الرجوع كصيام السبعة، أو يتعين الثاني؟
- (1) الوسائل: أبواب الذبح، الباب الواحد والخمسون، ح2.
(الصفحة 287)
نسب الأول إلى المشهور، ويدل عليه صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة آنفاً، لظهورها في التخيير بين الصيام في الطريق والصيام بعد الرجوع إلى الأهل; لكن في مقابلها روايتان صحيحتان:
إحديهما: صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: الصوم الثلاثة الأيام، إن صامها فأخّرها يوم عرفة، وإن لم يقدر على ذلك فليؤخّرها حتى يصومها في أهله ولا يصومها في السفر(1).
هذا ولكن مفادها مقطوع البطلان، لدلالة الروايات المتضافرة على جواز إيقاع صوم الثلاثة في السفر، سواء أتى به في الوقت الأول أو بعد الرجوع إلى مكة، ضرورة عدم اعتبار قصد إقامة العشرة في مكة، ولا مجال للنهي عن إيقاعه في السفر; ولو كان المراد من النهي هي الكراهة ـ كما لا يخفى ـ .
ثانيتهما: صحيحة ابن مسكان المتقدمة(2) الظاهرة في تعين إتيانه بعد الرجوع إلى الأهل إذا لم يستطع المقام بمكة. لكن مقتضى الجمع الدلالي بينها وبين صحيحة معاوية بن عمار هو رفع اليد عن ظهور رواية ابن مسكان في التعين، لصراحة رواية معاوية في عدمه; فالأمر في هذه الرواية محمول على الوجوب التخييري، فلا يبقى إشكال من هذه الجهة.
وأما من جهة السند، فقد نقلها في الوسائل عن الشيخ الطوسي (قدس سره) في بابين:
أحدهما: الباب الواحد والخمسون من أبواب الذبح، بهذه الكيفية: محمد بن
- (1) الوسائل: أبواب الذبح، الباب السادس والأربعون، ح10.
- (2) الوسائل: أبواب الذبح، الباب الواحد والخمسون، ح2.
(الصفحة 288)
الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن هشام بن سالم عن سليمان بن خالد وعلي بن النعمان عن ابن مسكان.
وثانيهما: في الباب السادس والأربعين من تلك الأبواب، بهذا النحو: محمد بن الحسن بإسناده عن سعد بن عبدالله عن الحسين عن النضر بن سويد عن هشام بن سالم عن سليمان بن خالد وعلي بن النعمان عن عبدالله بن مسكان عن سليمان بن خالد.
وعليه فتكون الرواية رواية سليمان بن خالد، كما أنه على الأول تكون رواية عبدالله بن مسكان وحكى صاحب الجواهر (قدس سره) عن كاشف اللثام أنه رواه عن ابن مسكان، ولكنه جعل نفسه مقتضى التدبر ان كون الخبر عن سليمان.
أقول: لا محيص على هذا التقدير عن القول بوقوع الخطأ والإشتباه في السند الثاني، لوضوح عدم إمكان الجمع بين كون سليمان بن خالد راوياً عن ابن مسكان، ما رواه ابن مسكان عن سليمان بن خالد حتى يرجع إلى كونه راوياً عن نفسه مع الواسطة. فالأمر يدور بين كون الراوي عن الإمام (عليه السلام) هو سليمان وبين كونه هو ابن مسكان، ومقتضى التتبع في الأسانيد ان ابن مسكان يروي عن سليمان ولا عكس. فالحق حينئذ مع صاحب الجواهر (قدس سره) .
إذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم أن لأصل المسألة صورتين:
الصورة الاُولى: ما لو بقي شهر ذي الحجة; ولا إشكال فيها في لزوم الإتيان بالصيام فيه. لكن البحث في أنه هل يعتبر الفصل بين الثلاثة وبين السبعة أو لا يعتبر، بل يجوز الإتيان بالعشرة مع عدم الفصل؟
(الصفحة 289)
اختار صاحب الجواهر وتبعه المحقق النائيني (قدس سره) الثاني. نظراً إلى أن الفصل يجب على من يصوم العشرة بمكة، كما في صورة قصد الإقامة والمجاورة. وأما من يصوم الجميع في البلد والوطن الذي رجع إليه، فلا يجب عليه الفصل بوجه.
والعمدة في المقام معتبرة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيصومها متوالية أو يفرّق بينها؟ قال: يصوم الثلاثة «الأيام» لا يفرق بينها، والسبعة لا يفرق بينها ولا يجمع بين السبعة والثلاثة جميعاً(1). ومورد السؤال مطلق صوم الثلاثة والسبعة أعم مما إذا أتى بهما في مكة بعد قصد المجاورة، ومما إذا رجع إلى الأهل ولم يأت بالثلاثة بعد. ودعوى الاختصاص بالأول ـ كما في الجواهر ـ ممنوعة جداً، لو لم نقل باحتمال الاختصاص بالثاني. وعليه فالرواية دالة على اعتبار الفصل في المقام.
لكن ظاهر مثل رواية ابن مسكان المتقدمة آنفاً الدالة على أنه يصوم بعد الرجوع إلى الأهل عشرة أيام، عدم اعتبار الفصل. لكن رواية ابن جعفر صالحة للتقييد والحمل على الفصل من دون تكلف.
نعم هنا رواية واحدة لابد من علاجها، وهي رواية علي بن الفضل الواسطي، قال: سمعته يقول: إذا صام المتمتع يومين لا يتابع الصوم اليوم الثالث، فقد فاته صيام ثلاثة أيام في الحج فليصم بمكة ثلاثة أيام متتابعات; فإن لم يقدر ولم يقم عليه الجمال فليصمها في الطريق، أو إذا قدم على أهله صام عشرة أيام متتابعات(2).
- (1) الوسائل: أبواب الذبح، الباب الخامس والخمسون، ح2.
- (2) الوسائل: أبواب الذبح، الباب الثاني والخمسون، ح4.
(الصفحة 290)
والرواية مضافاً إلى الضعف والإضمار يكون معرضاً عنها لدى الجميع. إذ لم يقل أحد باعتبار التتابع بين الثلاثة والسبعة. لأن النزاع في اعتبار الفصل وعدمه دون التتابع وعدمه; فالرواية معرض عنها ولا مجال للحمل على الاستحباب أيضاً لعدم القائل به، وحملها على التتابع في خصوص الثلاثة في غاية البعد. فالعمدة رواية علي بن جعفر الدالة على اعتبار الفصل مطلقاً.
ومما ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده في الجواهر وفيما أفاده المتن من الحكم باعتبار عدم الفصل في المقام بنحو الفتوى وباعتباره في صورة الإقامة في مكة بنحو الاحتياط الوجوبي، لأنه لا مجال للتفكيك بوجه، فتدبر.
الصورة الثانية: ما لو مضى شهر ذي الحجة ولم يقع فيه صيام الثلاثة الذي يعتبر فيه الوقوع في ذي الحجة بمقتضى قوله تعالى:
(في الحج) المفسر بذي الحجة في جملة من الروايات وفي المتن يجب الهدي يذبحه في منى ـ ولو بالاستنابة ـ وقد نفى وجدان الخلاف فيه في الجواهر، قال: بل في ظاهر المدارك وصريح المحكي عن الخلاف، الإجماع عليه بل عن بعض أنه نقله عن جماعة.
لكن في محكي النهاية والمبسوط: ان من لم يصم الثلاثة بمكة ولا بالطريق ورجع إلى بلده وكان متمكناً من الهدي بعث به، فإنه أفضل من الصوم. ومقتضى إطلاق كلامه جواز الإتيان بالصوم بعد مضي ذي الحجة أيضاً. غاية الأمر ان الهدي أفضل منه، واحتمل السبزواري في الذخيرة اختصاص حكم السقوط بخصوص الناسي. ومقتضاه أنه في غير الناسي لا يسقط الصوم.
والعمدة ملاحظة الطوائف المختلفة من الروايات التي يمكن أن يستفاد منها حكم