(الصفحة 296)
منى. وينبغي التعرض لبعض الروايات الدالة على الوجوب والجزئية للحج، مثل:
صحيحة سعيد الأعرج، قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) جعلت فداك، معنا نساء فأفيض بهن بليل، فقال: نعم تريد أن تصنع كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قلت: نعم، قال: أفض بهنّ بليل ولا تفض بهن حتى تقف بهنّ بجمع، ثم أفض بهن حتى تأتي الجمرة العظمى فترمين الجمرة، فإن لم يكن عليهن ذبح فليأخذن من شعورهن ويقصرن من أظفارهن ويمضين إلى مكة في وجوههن ويطفن بالبيت ويسعين بين الصفا والمروة، ثم يرجعن إلى البيت ويطفن أسبوعاً، ثم يرجعن إلى منى وقد فرغن من حجهن. وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرسل معهن اُسامة(1).
وقيام الدليل على عدم الجزئية في طواف النساء ـ كما يأتي إن شاء الله تعالى ـ لا يلازم عدم الجزئية، بالإضافة إلى المقام ـ كما هو واضح ـ .
إذا عرفت ذلك، فالكلام يقع في الطوائف المذكورة، فنقول:
أما الطائفة الاُولى: وهي النساء. فالظاهر تعين التقصير عليهن لا للإجماع المدعى ـ كما ادعاه العلامة ـ ولا لعدم وجدان الخلاف الذي ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) بل لأن العبادات المركبة لابد في بيان أجزائها من مراجعة الدليل، خصوصاً في باب الحج الذي لا تناسب بين أجزائه عندنا. فأيّة مناسبة بين الطواف الذي يقع حول البيت وبين الوقوف بعرفة مثلا؟
فاللازم الرجوع إلى الدليل وفي موارد قيامه فإما أن نرى إلغاء الخصوصية كخصوصية الرجولية من قوله (عليه السلام) : رجل شك بين الثلاث والأربع مثلا، وإما أن
- (1) الوسائل: أبواب الوقوف بالمشعر، الباب السابع عشر، ح2.
(الصفحة 297)
لانرى إلغاء الخصوصية. وفي المقام لم ينهض الدليل في النساء إلاّ بالاضافة إلى التقصير. ولا مجال لإلغاء الخصوصية بعد كون شعر الرأس في النساء بمنزلة اللحية في الرجال.
وكيف كان ففي مرسلة عامية مذكورة في كتاب كنز العمال، إنه نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن أن تحلّق المرأة رأسها، ولم يقع فيها التقييد بالحج ولا بالمصيبة الموجبة له، بل ظاهرها الإطلاق، وهو غير مفتى به.
وفي رواية علي بن أبي حمزة عن أحدهما (عليهما السلام) في حديث، قال: وتقصر المرأة ويحلّق الرجل وإن شاء قصّر إن كان قد حج قبل ذلك(1).
والحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ليس على النساء حلق ويجزيهن التقصير(2).
ورواية حماد ومحمد عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) قال: ياعلي ليس على النساء جمعة ـ إلى أن قال: ـ ولا إستلام الحجر ولا حلق(3). وغير ذلك من الروايات الدالة على ذلك.
وأما الطائفة الثانية: وهي الصرورة، وقد احتاط فيها في المتن وجوباً بالحلق.
ولابد من الكلام فيها في مقامين:
المقام الأول: في موضوعها. ويظهر من المتن تبعاً للنصوص والفتاوى أنه هو الذي أول حجه ولم يحج بعد،من دون فرق بين أن كان الحج الذي أتى به وتحقق منه هي حجة الإسلام، أم كان غيرها من الحج الإستيجاري وغيره.
- (1) الوسائل: أبواب الحلق والتقصير، الباب الثامن، ح2.
- (2) الوسائل: أبواب الحلق والتقصير، الباب الثامن، ح3.
- (3) الوسائل: أبواب الحلق والتقصير، الباب الثامن، ح4.
(الصفحة 298)
نعم يظهر من بعض الروايات أنه هو الذي لم يأت بحجة الإسلام بعد. مثل رواية أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: على الصرورة أن يحلّق رأسه ولا يقصّر، إنما التقصير لمن قد حج حجة الإسلام(1). لكنها ضعيفة على كلا الطريقين المنقولين. فالظاهر حينئذ أن الصرورة مطلق من لم يحج، كما سيأتي التعبير عنه بذلك في الروايات.
المقام الثاني: في حكمها. فالمشهور التخيير. ولكن المحكي عن الشيخ في المبسوط وابن حمزة في الوسيلة تعين الحلق عليها. قال المحقق في الشرايع بعد الحكم باستحباب الحلق على الجميع، بتأكد الاستحباب في حق الصرورة. ولابد من ملاحظة الأدلة.
فنقول: قال الله تعالى في الكتاب العزيز:
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلَنَّ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إنْ شاءَاللهُ آمِنيِنَ مُحَلِّقيِنَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ...) (2) قال بعض الأعلام في مفاد الآية تبعاً للأردبيلي (قدس سره) في آيات أحكامه: إن الله تعالى وعد المسلمين بأنهم يدخلون المسجد الحرام في حال كونهم بين محلق ومقصر. وهذا لا ينطبق إلاّ على دخولهم المسجد الحرام بعد الفراغ عن مناسك منى في الحج، وحج المسلمين الذين حجوا مع النبي في تلك السنة كان حج صرورة إذ لم يحجوا قبل ذلك ومع ذلك. خيرهم الله بين الحلق والتقصير.
ومن الواضح أن الحج مع النبي لم يكن إلاّ في حجة الوداع لأن الله تعالى لما أرى
- (1) الوسائل: أبواب الحلق والتقصير، الباب التاسع، ح5.
- (2)
سورة الفتح، (48): 27 .
(الصفحة 299)
نبيه في المدينة بالمنام أن المسلمين دخلوا المسجد الحرام، فأخبر بذلك أصحابه فانصرفوا إلى مكة لأداء العمرة المفردة في السنة السادسة من الهجرة، فلما وصل هو وأصحابه إلى الحديبية، منعهم المشركون من دخول مكة، ووقع بينهما الصلح ـ المعروف بصلح الحديبية ـ المتضمن لعدم دخول المسلمين في السنة المذكورة إلى مكة وجواز أن يدخلوها في السنة القادمة، فلما كان ذو القعدة من السنة السابعة للهجرة، اعتمروا ودخلوا المسجد الحرام ـ كما هو مقتضى الصلح ـ ومن الواضح أن العمرة سواء كانت عمرة التمتع أو عمرة مفردة ليس فيها الحلق. فلابد من حمل الآية على الحج، وهي تدل على التخيير بين الحلق والتقصير. لأن المسلمين كلهم كانوا في ذلك الحج صرورة غير جائين بالحج.
ويرد عليه أن الآية وإن كانت تدل على مشروعية الحلق والتقصير، وأن لا تكون بصدد بيان الحكم في نفسه، إلاّ أن دلالتها على أصل المشروعية ظاهرة لا ريب فيها، وظاهرها وإن كان هو الجمع بين الأمرين مع أن من المقطوع فتوى عدمه.
فتحمل الآية على التبعيض ومشروعيته، إلاّ أنه لم يقم دليل على أن المسلمين كانوا بأجمعهم في ذلك الحج صرورة، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه غير صرورة قطعاً، ودخوله في الآية وفي مسجد الحرام مسلّم كتسلّم دخوله (صلى الله عليه وآله) في عنوان أهل البيت في آية التطهير. مع أن الالتزام بعدم إتيان المسلمين (أي: مسلمي المدينة) الحج رأساً مشكل، لعدم إمكان الالتزام بعدم إتيانهم الحج ولو قبل الإسلام. وليس الصرورة إلاّ من كان أول حجه.
(الصفحة 300)
خصوصاً مع ملاحظة الرواية الصحيحة التي أوردها صاحب الجواهر في آخر بحث الحج، وتدل على أن هذا البيت يحج قبل آدم (عليه السلام) بألفي عام. مع أن الالتزام بكون شأن نزول الآية هي حجة الوداع أيضاً مشكل. خصوصاً مع احتمال تحقق رؤية النبي الرؤيا بعد الإحرام الذي شروعه في المدينة من مسجد الشجرة. فإن ظاهرها حينئذ الدخول في نفس الإحرام الذي أحرموا به لا في حجة الوداع التي يمكن أن يقال بعدم دلالة الآية على كون دخول مسجد الحرام في عامها، لعدم ذكر العام وما يشابهه أصلا.
وكيف كان فالآية تدل على المشروعية. ولا مجال للالتزام بالجمع، فالتبعيض هنا متحقق. ولا يكون بلحاظ الرجال والنساء بعد عدم الإتيان بضمير النساء في مقصرين، فتأمل، كما عرفت أنه لا يكون بلحاظ الصرورة وغيرها.
فالإنصاف أن الاستفادة من الآية في مسألتنا هذه مشكل جداً. فلابد من ملاحظة الروايات الواردة. فنقول: إن ما استدل به على تعين الحلق على الصرورة كثيرة:
منها: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ينبغي للصرورة أن يحلّق وإن كان قد حج. فإن شاء قصّر وإن شاء حلّق، فإذا لبّد شعره أو عقصه فإن عليه الحلق وليس له التقصير.(1) والرواية وإن كانت خالية عن الإشكال من جهة السند، إلاّ أن ذيلها الوارد في من لبد شعره أو عقصه الدال على تعين الحلق عليه، قرينة على عدم كون المراد به ينبغي في الصدر هو التعين، وإن كان في نفسه محتملا لذلك،
- (1) الوسائل: أبواب الحلق والتقصير، الباب السابع، ح1.