(الصفحة 100)
قال المحدّث النوري في خاتمة المستدرك بعد نقل هذه العبارة : ولم يسبقه فيما بأيدينا من الكتب الرجالية والحديث أحد سوى الغضائري ، ولم يلحقه أيضاً أحد سوى المحقّق الداماد . ثمّ ذكر عين عبارته وأورد عليه ما أورده المحقّقون من الطعن ، ثمّ ذكر في ذيل كلامه أسامي جماعة من المعتمدين على هذا التفسير ، كالاُستاذ الأكبر في التعليقة ، والمجلسيّين والحرّ العاملي والمحدّث الجزائري وجمع آخر ، واختار هو أنّ التفسير داخل في جملة الكتب المعتمدة(1) .
أقول : محصّل الإشكال في هذا المجال تارة : من جهة ضعف محمّد بن القاسم الأسترابادي وجهالة الرجلين اللذين رواه عنهما ، وأُخرى : من جهة أ نّه حكي عن صاحب المناقب في معالم العلماء أنّ الحسن بن خالد البرقي أخا محمّد بن خالد من كتبه تفسير العسكري من إملاء الإمام(عليه السلام) مائة وعشرين مجلّداً(2) . مع أنّ التفسير الموجود بأيدينا مجلّد واحد مشتمل على تفسير سورة الفاتحة وبعض سورة البقرة .
ويمكن دفع الإشكال من الحيثيّة الأُولى بأنّ اعتماد الصدوق عليه وإكثار نقله عنه في كتبه المتعدّدة يكفي في توثيقه ، وتضعيف الخلاصة مستند إلى الغضائري الذي اشتهر ضعف تضعيفاته ، والرجلان اللذان روى عنهما قد حكي عن الطبرسي التصريح بأنّهما من الشيعة الإماميّة(3) .
ومن الحيثيّة الثانية بأنّ الظاهر كون التفسير الموجود جزءاً من ذلك التفسير الكبير لا مغائراً له ; فإنّ ابن شهرآشوب الذي هو الأصل في النسبة إلى البرقي ينقل
- (1) خاتمة مستدرك الوسائل: 5/186 ـ 200.
-
(2) معالم العلماء : 34 رقم 189 .
-
(3) الاحتجاج: 1/7 رقم2، والحاكي هو الشيخ النوري في خاتمة مستدرك الوسائل : 5/195.
(الصفحة 101)
في مناقبه عن التفسير الموجود الذي رواه الأسترابادي ، فيظهر من ذلك عدم انحصار السند بالأسترابادي ، ومع ذلك كلّه فلا يحصل للنفس اطمئنان بالكتاب المذكور ، خصوصاً مع ملاحظة اشتماله على ما لا يوجد في غيره من المعاجز الغريبة والقصص الطويلة .
وأمّا من جهة الدلالة : فربما يقال كما قيل بأنّ الرواية لا تدلّ على اعتبار أزيد من الوثاقة ; لأنّها وردت في مقام بيان ما هو الفارق بين عوامنا وعوام اليهود في تقليدهم علماءهم ، نظراً إلى أنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح ، وأكل الحرام والرشا ، وتغيير الأحكام ، والتفتوا إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله ، ومع هذا قلّدوهم، فلذلك ذمّهم الله ، ثمّ بيّن(عليه السلام) أنّ عوامنا أيضاً كذلك إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ، والعصبيّة الشديدة ، والتكالب على الدنيا وحرامها ، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود «فأمّا من كان من الفقهاء» الخ ، فحاصل كلامه(عليه السلام) : أ نّه إنّما يجوز ممّن هو مورد الوثوق ومأمون عن الخيانة والكذب ، ولا دلالة له على اعتبار أزيد من الوثاقة بوجه(1) .
ولكنّه يرد على هذا القول بأنّ صدر الرواية وإن كان في مقام مذمّة اليهود ومذمّة عوامنا إذا كانوا مثل عوامهم ، إلاّ أنّ ذيلها وهو قوله(عليه السلام) : «فأمّا من كان من الفقهاء» الخ ، في مقام إفادة ضابطة كلّية وقاعدة عامّة لمورد جواز التقليد ، ومن الواضح أنّ القيود المأخوذة في هذه الضابطة لا تكاد تنطبق على أقلّ من العدالة المصطلحة ، ومع ملاحظة هذا الذيل المشتمل على الضابطة لا محيص عن الالتزام
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 222 ـ 223.
(الصفحة 102)
باعتبار العدالة ; لعدم المنافاة بينه وبين صدره الوارد في مقام مذمّة اليهود ومذمّة عوامنا إذا كانوا مثلهم ، كما هو ظاهر .
ثمّ إنّه ربما يستدلّ على اعتبار العدالة ـ المستلزم لاعتبار العقل والإيمان بل البلوغ أيضاً ـ بأنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة الواصل ذلك إليهم يداً بيد عدم رضى الشارع بزعامة من لا عدالة له ، فضلا عمّن لا إيمان له أو لا عقل له ; فإنّ المرجعيّة في التقليد من أعظم المناصب الإلهيّة بعد الولاية ، وكيف يرضى الشارع الحكيم أن يتصدّى لمثلها من لا قيمة له لدى العقلاء والشيعة المراجعين إليه ، خصوصاً بعد ملاحظة عدم رضى الشارع بإمامة من هو كذلك في الجماعة ، حيث اشترط في إمام الجماعة العدالة ، فما ظنّك بالزعامة العظمى التي هي من أعظم المناصب بعد الولاية(1) .
ومرجع هذا الوجه إلى الأولويّة القطعيّة بالإضافة إلى اعتبار العدالة في الزعامة والمرجعيّة ، التي هي الفضيلة المتوسّطة بين منصب الولاية ، الذي يعتبر فيه العصمة ، وبين منصب الإمامة للجماعة الذي لا يكفي فيه أقلّ من العدالة المصطلحة ، فإذا كانت العدالة معتبرة فيه قطعاً ، فاعتبارها في المنصب الذي هو فوق هذا المنصب بدليل اعتبار الاجتهاد وملكة الاستنباط بطريق أولى .
لا يقال : الأولويّة ممنوعة ، والسند عدم اعتبار العدالة في الراوي الذي هو مستند المجتهد باعتبار روايته في الوصول إلى الحكم واستنباطه ، فإذا كان مجرّد الوثاقة كافياً في الراوي كما هو الحقّ ففي المجتهد أيضاً كذلك ، ويؤيّده عدم اعتبار أزيد من الوثاقة في السيرة العقلائيّة التي هي الأساس في باب التقليد ورجوع
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 223
(الصفحة 103)
الجاهل إلى العالم ، كما مرّ مراراً(1) .
فإنّه يقال : قياس المرجعيّة بباب الراوي والرواية مع الفارق; فإنّه لا يعتبر في الراوي بما هو راو أزيد ممّا يعتبر في سائر الإخبارات والحكايات ; فإنّ الرواية مصداق من مصاديق الخبر والحكاية ، ولا يعتبر فيه عند العقلاء والشارع أزيد من الوثاقة الموجبة للاعتماد بصدق الراوي ، وعدم تعمّده للكذب و بيان خلاف الواقع . وأمّا المرجعيّة في الفتوى فهي من المناصب الإلهية ، ولها خصوصيّات وشرائط زائدة على الخصوصيّات المعتبرة عند العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم ، فإذا كانت العدالة معتبرة في منصب الإمامة للجماعة مع أ نّه منصب جزئيّ لا يبلغ من الأهميّة منصب المرجعيّة بوجه ، فاعتبارها في المرجع بطريق أولى .
فالإنصاف تماميّة هذا الوجه وعدم جواز المناقشة في اعتبار العدالة في المجتهد الذي يرجع إليه للتقليد وأخذ الفتوى .
الخامس : الرجوليّة ، غير خفيّ أنّ السيرة العقلائيّة التي هي الأساس في باب التقليد والعمدة في جوازه ، لا فرق فيها بين أن يكون العالم الذي يرجع إليه الجاهل رجلا أو امرأة ، فلابدّ في إثبات الاختصاص بالرجل في الشرع من إقامة دليل رادع عن هذه الطريقة وإعمالها في الشريعة ، وما يمكن أن يكون رادعاً أُمور :
أحدها : مشهورة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال : قال أبو عبدالله جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا خ ل)(2) .
- (1) في ص68 ـ 71 ، 92 ، 98 .
-
(2) ستأتي بكاملها في ص111 ـ 112.
(الصفحة 104)
وقد أُورد على الاستدلال بها لاعتبار الرجولية تارة بأنّ ذكر «الرجل» لا دلالة فيه على دخالته واعتباره ; لأنّ ذكره إمّا يكون لأجل كونه أحد المصاديق ، كما في قوله: «رجل شك بين الثلاث والأربع» وأشباهه ، وإمّا لأجل أنّ الغالب المتعارف في القضاء هو الرجوليّة ، بل لم تستعهد قضاوة النساء ولو في مورد واحد ، فأخذ عنوان الرجوليّة من باب الغلبة لا من جهة التعبّد وإفادة الحصر ، وأُخرى بأنّ الرواية واردة في باب القضاء ، ولم يقم دليل على ثبوت الملازمة بينه ، وبين باب الإفتاء فضلا عن الأولويّة ، كما لا يخفى(1) .
ويمكن الجواب عن الإيراد الأوّل بأنّ ذكر «الرجل» في مقام إلقاء الضابطة الكليّة وإفادة القاعدة العامّة ظاهر في الاختصاص والدخالة ، واحتمال كونه أحد المصاديق ، أو كون ذكره من باب الغلبة لا مجال له مع ظهور القيد في الاحتراز ، كما هو الأصل في باب القيود المأخوذة في الموضوعات .
وبالجملة مع احتمال مدخليّة القيد لا وجه لرفع اليد عن الظهور إلاّ أن يقوم دليل على العدم ، كما في المثال المذكور .
وأمّا الإيراد الثاني: فالظّاهر وروده ; فإنّ اعتبار الرجوليّة في القاضي الذي يرجع إليه المترافعان ـ ولازمه تحقّق التشافه ـ لا دلالة فيه على اعتبارها في المرجع الذي لا يكون المهم إلاّ آراؤه ونظراته ، وربما تكون مجموعة في رسالة منتشرة لايحتاج المقلِّد إلى الرجوع إلى شخصه طيلة حياته ، مع أنّ القاضي لابدّ وأن يكون رجلا حتى يمكن له حفظ التعادل ، ولا يقع متأثّراً عن دعوى المدّعي أو إنكار
- (1) المورد هو المحقّق الإصفهاني في بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 68، والسيّد الخوئي في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 225.