(الصفحة 249)
والتخاصم ينجرّ إلى اختلال النظام ، وهو مبغوض للشارع ، وغرضه رفعها بأيّ نحو كان ، فاعتبار شيء في ذلك الباب لا يلازم الاعتبار في غيره ، كما أنّ اليمين مع اعتبارها في فصل الخصومة لا تكون معتبرة في غيره(1) .
ومنها : الروايات التي يمكن استفادة اعتبار البيّنة منها (2)، وعمدتها رواية مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سمعته يقول : كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أ نّه حرام بعينه فتدعه من قِبَلِ نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حُرٌّ قد باع نفسه ، أو خُدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة(3) .
والكلام في هذه الرواية تارة: من حيث السند ، واُخرى : من جهة الدلالة :
أمّا من الجهة الاُولى : فقد عبّر عنها الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) (4) بالموثّقة ، ولعلّ هذا الاتّصاف مشهور بينهم ، مع أ نّه لم يوثّق مسعدة ـ راوي الحديث ـ في شيء من الكتب الرجاليّة القديمة التي هي الأساس لسائر الكتب ، بل المحكي عن العلاّمة والمجلسي وغيرهما تضعيفه (5)، وغاية ما ذكر في مدحه أنّ رواياته غير
- (1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 208 .
-
(2) مستمسك العروة الوثقى: 1/202 ـ 205، العناوين: 2/651 ـ 656 ، القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي: 3 / 11 ـ 19 .
-
(3) الكافي : 5 / 313 ح40 ، تهذيب الأحكام : 7 / 226 ح989 ، وعنهما وسائل الشيعة : 17 / 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب4 ح4 .
-
(4) فرائد الاُصول : 3 / 351 و 389 .
-
(5) خلاصة الأقوال : 410 رقم 1661 ، والحاكي هو السيّد الخوئي في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 209 .
(الصفحة 250)
مضطربة المتن ، وأنّ مضامينها موجودة في سائر الموثّقات .
هذا ، ولكن توثيق الشيخ(قدس سره) بضميمة وقوع الرجل في سند بعض الروايات الواقعة في كامل الزيارات(1) لابن قولويه مع تصريح مؤلّفه في ديباجته بأ نّه لم يروِ في ذلك الكتاب إلاّ الأخبار التي رواها الثقاة من الأصحاب ، ولا تكون متّصفة بالشذوذ(2) ، يكفي في جواز الاعتماد عليها وإن كان الرجل عامّيّاً .
وأمّا من الجهة الثانية : فتقريب دلالتها أ نّه(عليه السلام) بعد الحكم بثبوت الحلّية الظاهرية للأشياء التي شكّ في حلِّيتها وحرمتها ، وإيراد أمثلة لذلك حكم بأنّ الأشياء كلّها كذلك محكومة بالحلّية إلاّ مع استبانة الحرمة والعلم بها ، أو قيام البيّنة وشهادة العدلين عليها ، فيستفاد منها اعتبار البيّنة في موارد الشكّ في الحلِّية والحرمة ، وبضميمة أ نّه لا فرق بين الشبهات الموضوعيّة في باب الحلّية والحرمة ، وبينها في غير ذلك الباب ، كموارد الطهارة والنجاسة ـ ولم يقل أحد بالفصل ـ يتمّ المطلوب ; وهي حجّية البيّنة في جميع الموارد التي منها الاجتهاد والأعلميّة المبحوث عنهما في المقام ، فتدبّر .
وقد استشكل فيها بوجوه من الإشكال :
أحدها : وهو العمدة ـ أنّ الرواية ظاهرة بل صريحة في أنّ الحكم بالحلّية في الموارد المذكورة فيها مستند إلى أصالة الحلّية ، التي يدلّ عليها قوله(عليه السلام) في صدر الرواية : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أ نّه حرام بعينه فتدعه» وأنّ تلك الموارد من أمثلة القاعدة المذكورة وصغريات هذه الكبرى الكلّية ، مع أنّ الحلّية
- (1) كامل الزيارات : 306 ح 516 .
-
(2) كامل الزيارات: 37 ، مقدّمة المؤلّف(قدس سره) .
(الصفحة 251)
فيها لا تستند إلى قاعدة الحلّية بوجه .
ضرورة أنّ الحلّية في مثال الثوب مستندة إلى اليد التي هي أمارة على الملكيّة عند العقلاء وفي الشريعة ، وفي مثال العبد إلى الإقرار أو اليد أيضاً ، وفي مثال المرأة إلى استصحاب عدم تحقّق الرضاع ، وعدم اتّصافها بكونها رضيعة له ، وإلى استصحاب عدم الاُختيّة بناءً على جريانه ، وعلى فرض عدم الجريان ـ كما هو الحقّ ـ لا يكون هناك حلّية أصلا ، بل الثابت هي أصالة الفساد وعدم ترتّب الأثر على النكاح .
ومن الواضح استهجان إيراد قاعدة كلّية ، ثمّ ذكر أمثلة خارجة عن تلك القاعدة ، خصوصاً مع التصريح بالقاعدة ثانياً وتكرارها في الذيل كما في الرواية ، وخصوصاً مع كون الحكم في بعضها على خلاف القاعدة المذكورة (1).
والجواب : أنّ هذا الإشكال وإن كان ممّا لا سبيل إلى حلِّه ، إلاّ أ نّه لا يضرّ بالاستدلال بالرواية على ما هو المقصود في المقام من حجّية البيّنة ; فإنّ عدم انطباق القاعدة على الموارد المذكورة والأمثلة لا يستلزم خروج ذيل الرواية ـ الدالّ على اعتبار البيّنة ، وأنّ قيامها يوجب سقوط أصالة الحلّية ـ عن الاعتبار والحجّية ، فتأمّل .
ثانيها : أنّ كلمة «البيّنة» لم تثبت لها حقيقة شرعيّة ولا متشرعيّة ، وإنّما استعملت في الكتاب(2) والأخبار بمعناها اللغوي ; وهو ما به البيان والظهور . وبعبارة اُخرى : هي بمعنى الحجّة ، فلا مجال للاستدلال بالرواية على حجّية البيّنة
- (1) فرائد الاُصول : 2 / 120 و ج 3 / 351 ـ 353 .
-
(2) سورة الأنعام 6 : 57 و 157، سورة الأعراف : 7 / 73 ، 85 ، 105 ، سورة هود : 11 / 53 ، سورة العنكبوت 29 : 35، سورة البيّنة : 98 / 1 ، 4 ، وغيرها .
(الصفحة 252)
بالمعنى الاصطلاحي الذي هو محلّ البحث والكلام (1).
والجواب : أنّ ظهور «البيّنة» مع الإطلاق ، وعدم وجود قرينة على الخلاف في هذا المعنى الاصطلاحي ممّا لا ينبغي إنكاره ، ويدلّ عليه استعمالها فيه من الصدر الأوّل في مثل قوله (صلى الله عليه وآله) : «البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر»(2) ، وقوله(صلى الله عليه وآله) : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان(3) ، وغيرهما من الموارد الكثيرة ،
ولم يعلم استعمالها في الكتاب وغيره في غير هذا المعنى الاصطلاحي من دون قرينة ، كما في التعبير المعروف : «دعوى فلان خالية عن البرهان والبيّنة» .
ويدلّ على كون المراد بالبيّنة في الموثّقة خصوص المعنى الاصطلاحي ; أ نّه
لو كان المراد بها هو المعنى اللغويّ يلزم أن تكون الاستبانة أيضاً من مصاديق البيّنة ، فيكون العطف من قبيل عطف العامّ على الخاصّ ; وهو خلاف ما هو المتفاهم عرفاً منها ، كما لا يخفى .
ثالثها : أ نّه على تقدير تماميّة دلالة الموثّقة على اعتبار البيّنة بمعناها المصطلح ، لادلالة لها على اعتبارها في المقام ; وهو الاجتهاد والأعلميّة ; لأنّهما ليسا من الأُمور الحسّية ، بل يُستكشفان بالحدس والاختبار ، والبيّنة إنّما تكون معتبرة في خصوص المحسوسات (4).
والجواب : أنّ هذين الأمرين ، وكذا مثلهما كالعدالة من الأُمور الحدسيّة القريبة
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد: 210 .
-
(2) وسائل الشيعة : 27 / 293 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم ب25 ح3 ، السنن الكبرى للبيهقي : 15 / 393 ح21805 .
-
(3) الكافي : 7 / 414 ح1 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 232 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 .
-
(4) راجع مستمسك العروة الوثقى: 1 / 38 و 205 والتنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 212 .
(الصفحة 253)
إلى الحسّ ، وقد قام الدليل في باب العدالة ، وهو كذلك عند العقلاء أيضاً ; لأ نّه يعامل معها عندهم معاملة الأُمور المحسوسة ، كما يظهر بمراجعتهم .
وتؤيّد الموثقّة في الدلالة على اعتبار البيّنة رواية عبدالله بن سليمان ، عن
أبي عبدالله(عليه السلام) في الجبن قال : كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة(1) .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أ نّه لا مجال للإشكال في اعتبار البيّنة وحجّيتها في الموضوعات الخارجيّة ، التي يترتّب عليها حكم شرعيّ ، ومنها الاجتهاد والأعلميّة .
ثمّ إنّه ربما يقال : بأنّ الاجتهاد والأعلميّة كما أنّهما يثبتان بقيام البيّنة وشهادة العدلين ، كذلك يثبتان بخبر الواحد العادل ، بل لا حاجة إلى عدالة المخبر ، بل تكفي الوثاقة في ذلك ، كالخبر الواحد القائم على حكم من الأحكام الشرعيّة .
وما قيل في وجه الاعتبار أمران :
الأوّل : استمرار السيرة العقلائيّة وجريانها على الاعتماد عليه في الموضوعات الخارجيّة ، ولم يتحقّق عنها ردع في الشريعة ، فلا محيص عن الالتزام بالحجّية كما في الأحكام العمليّة الفرعيّة . أمّا جريان السيرة على ذلك فممّا لاريب فيه . وأمّا عدم الردع ، فلأنّ ما يتخيّل أن يكون رادعاً هو موثّقة مسعدة بن صدقة المتقدّمة ، نظراً إلى أنّ ذيلها وهو قوله(عليه السلام) : «والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة» يدلّ على حصر المثبت بالاستبانة وقيام البيّنة ، فلو كان
- (1) الكافي : 6 / 339 ح2 ، وعنه وسائل الشيعة : 25 / 118 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المباحة ب61 ح2 .