(الصفحة 94)
لا في زمن تحقّق الاستنباط ، فإذا تصدّى المجتهد للاستنباط قبل البلوغ فأراد المقلّد الرجوع إليه بعده فلا مانع منه أصلا ، بل هو خارج عن محلّ النزاع ، كما أنّه إذا رجع إليه المقلّد في حال بلوغه فمات المجتهد فله أن يبقى على تقليده ، وإن كان استنباطه قبل البلوغ ولم يعمل بفتاويه بعد البلوغ أصلا ; لما سيمرّ عليك من عدم مدخليّة العمل في جواز البقاء .
الثاني : العقل ، واعتباره في المرجع ظاهر عند العقلاء والمتشرّعة ، وقد ادّعي أ نّه ممّا أجمع عليه الخلف والسلف(1) ، وادّعى الاتّفاق شيخنا الأعظم الأنصاري(قدس سره) على ما حكي عن ظاهر عبارته(2) ، وأدلّة التقليد وحجّيّة فتوى المجتهد ظاهرة في اعتباره ; فإنّه وإن لم يقع التعرّض لاعتبار العقل فيها بوجه ، إلاّ أنّ نفس العناوين المأخوذة فيها لا ينطبق إلاّ على العاقل ; فإنّ المجنون لا ميزان لفهمه واستنباطه ، كما أ نّه لا ملاك لأعماله وأقواله ، وكذلك السيرة العقلائيّة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم ; فإنّه لا خفاء في اختصاصها بالعالم العاقل .
نعم ، المجنون الأدواري في حال الإفاقة لا مانع عند العقلاء من الرجوع إليه ، كما قد حكي القول به عن بعض متأخّري المتأخّرين ; كصاحبي المفاتيح(3)
- (1) قال في مستمسك العروة الوثقى: 1/42، فقد قيل: إنّه ممّا أجمع عليه الخلف والسلف، وفي الروضة البهية: 3/62، إجماعاً، وفي مسالك الأفهام: 13/326 ـ 327، عندنا موضع وفاق، وفي كشف اللثام: 1/17، اتّفاقاً، وفي مفاتيح الشرائع: 3/246، بلا خلاف في شيء من ذلك عندنا، وفي رياض المسائل: 9/236، بلاخلاف في شيء من ذلك أجده بيننا، بل عليه الإجماع في عبائر جماعة، كالمسالك وغيره.
-
(2) راجع رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري: 57، والحاكي هو صاحب التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 217.
-
(3) مفاتيح الاُصول: 611.
(الصفحة 95)
والاشارات(1) ، كما أ نّه لو فرض أنّ المجنون الدائمي كان جنونه في جهة خاصّة وأمر مخصوص، بحيث لا يتعدّى عن تلك الجهة بوجه ولا يكون له مظهر غيرها ، لا يبعد أن يقال بعدم خروجه عن السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إلى العالم ، فإنّه لو فرض أنّ الطبيب كان جنونه منحصراً في جهة غير مرتبطة بالطبابة أصلا ، وعلم بعدم تعدّي جنونه عن غير تلك الجهة ، فهل هو خارج عن جريان السيرة؟ الظاهر العدم ، اللّهمّ إلاّ أن يكون الإجماع منعقداً على عدم حجيّة فتواه في المقام .
ثمّ إ نّه يدلّ على اعتبار العقل ـ مضافاً إلى ما ذكر ـ الدليل على اعتبار العدالة على ما سيجيء ، فإنّ اعتبار العدالة لا ينفكّ عن اعتبار العقل ، كما هو غير خفّي .
الثالث : الإيمان ، والمراد من اعتبار الإيمان ـ الذي مرجعه إلى كونه شيعيّاً إماميّاً ـ أ نّه هل يجوز الرجوع إلى غير الإمامي إذا كانت فتاواه وآراؤه مأخوذة عن المدارك المعتبرة عند الإمامي ، وكان استنباطه منحصراً في خصوص الأدلّة التي يرجع إليها المجتهد الإمامي ، وإلاّ فعدم جواز الرجوع إلى غير الإمامي في فتاويه المأخوذة عن المدارك المعتبرة عند نفسه ممّا لا ينبغي النزاع فيه ، وهو خارج عن محلّ الكلام كما هو ظاهر .
وقد استدلّ على اعتبار الإيمان في المجتهد الذي يرجع إليه للتقليد بوجوه :
منها : دعوى الإجماع من السلف والخلف على شرطيّة الإيمان في المجتهد الذي يرجع إليه(2) .
واُورد على هذه الدعوى بأنّ الإجماع المدّعى ليس من الإجماعات التعبّدية
- (1) لم نعثر على كتاب اشارات الأصول ج2 . نعم ، حكى عنه السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: 1/42.
-
(2) مستمسك العروة الوثقى: 1 / 42.
(الصفحة 96)
حتى يستكشف به قول المعصوم(عليه السلام) ; لاحتمال أن يكون مستنداً إلى بعض الوجوه التي استدلّ بها على اعتبار الإيمان ، ومعه لا مجال للاعتماد عليه(1) .
والجواب عن هذا الإيراد ـ مضافاً إلى أ نّه لا يجتمع الإيراد بذلك مع ما صرّح به المورد في أدلّة اشتراط العدالة ; من أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة الواصل ذلك إليهم يداً بيد عدم رضى الشارع بزعامة من لا عدالة له فضلا عن العقل والإيمان (2) ; فإنّ ثبوت هذا الارتكاز ينافي دعوى عدم استكشاف قول المعصوم(عليه السلام) ، وعدم العلم برأيه ونظره ـ : أنّ مجرّد احتمال الاستناد إلى بعض الوجوه الضعيفة غير الصالحة للاستدلال لا يقدح في أصالة الإجماع واستكشاف رأي الإمام(عليه السلام) ، كما هو ظاهر .
ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة وحسنة أبي خديجة . ففي الأُولى: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا»(3) وفي الثانية: «ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا خ ل) »(4) ; فإنّ قوله(عليه السلام) : «منكم» في الروايتين ظاهر في اعتبار المماثلة في الإيمان والاعتقاد بإمامتهم .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما سيجيء إن شاء الله تعالى من أنّ مورد الروايتين باب القضاء وفصل الخصومة ، ولا ملازمة بين اعتبار شيء في القاضي واعتباره في المفتي ـ : أنّ تخصيص الحكم بخصوص الواجد لوصف الإيمان على ما هو المتفاهم عرفاً من الروايتين إنّما هو لأجل كون غيرالواجد لا تكون فتاواه مأخوذة عن
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 218.
-
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 223 .
-
(3) تاتي في ص 110 ـ 111 .
-
(4) تأتي بتمامها في ص 111 ـ 112 .
(الصفحة 97)
المدارك المعتبرة عند الإمامي غالباً، فلادلالة لهماعلى عدم اعتبار نظره إذا حكم بحكمهم(عليهم السلام)، وأفتى على طبق رواياتهم والأُصول المعتمدة في الفتوى عند المجتهد الإمامي .
ومنها : رواية عليّ بن سويد المتقدّمة قال : كتب إليَّ أبو الحسن(عليه السلام) وهو في السجن : وأمّا ماذكرت يا علي ممّن تأخذ معالم دينك ، لا تأخذنّ معالم دينك عن غير شيعتنا ; فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ، إنّهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه ، الحديث(1) .
ويرد على الاستدلال بها أنّ الظاهر منها كون المانع هي الخيانة الموجبة لعدم الإئتمان والوثوق والاطمئنان لا مجرّد اعتقاد الخلاف ، وإن علم باستناد فتواه إلى المدارك المعتبرة عند الإماميّة ، ويؤيّده أنّ الرواية شاملة للرجوع إلى راوي الحديث وأخذ الرواية منه ، مع أ نّه لا يعتبر فيه الإيمان بل يكفي الوثوق والاطمئنان . هذا ، مضافاً إلى ضعف سند الرواية .
ومنها : رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه المتقدّمة أيضاً في أدلّة حجّيّة الفتوى قال : كتبت إليه ـ يعني أبا الحسن الثالث(عليه السلام)ـ أسأله عمّن آخد معالم ديني؟
وكتب أخوه أيضاً بذلك ، فكتب إليهما : فهمت ما ذكرتما ، فاصمدا في دينكما
على كلّ مسنّ في حبّنا ، وكلّ كثير القدم في أمرنا ; فإنّهما كافوكما إن شاء الله
تعالى(2) .
ويرد على الاستدلال بها ـ مضافاً إلى ضعف السند أيضاً ـ : أنّ الأمر بالاعتماد على المسنّ في حبّهم وكثير القدم في أمرهم إنّما هو لِما ذكرنا من عدم الإئتمان بغير
(الصفحة 98)
الإمامي ، مع أنّ اعتبار هذين الوصفين مخالف للاجماع القطعي ; لأنّ غاية ما هناك اعتبار الإيمان بل العدالة كما سيجيء . وأمّا كونه مسنّاً في الحبّ وله قدم كثير في أمرهم فلا يكون بمعتبر قطعاً ، مع أنّ صدر الرواية يدلّ على اعتبار الوصفين وذيلها على كفاية وصف واحد ، فلا تخلو عن شبه مناقضة ، فتأمّل .
فانقدح أنّ الدليل على اعتبار الإيمان هو الإجماع الكاشف بضميمة ما يدلّ على اعتبار العدالة ، فإنّ اعتبارها لا ينفكّ عن اعتبار الإيمان كما هو ظاهر .
الرابع : العدالة ، واعتبارها في المفتي الذي يرجع إليه للتقليد لا يكاد يستفاد من شيء من الأدلّة الواردة في باب التقليد وحجّيّة فتوى المجتهد ; لعدم دلالة الأدلّة اللفظية على اعتبارها وعدم التعرّض لها ، والسيرة العقلائيّة التي هي العمدة في الباب غايتها إفادة اشتراط الوثاقة ; فإنّه وإن كان ملاكها رجوع الجاهل إلى العالم ، إلاّ أ نّه حيث يكون الغرض من الرجوع رفع الجهل والوصول إلى الواقع ، وهذا لا يتحقّق مع عدم الوثاقة والاعتماد ، فلا محالة تكون الوثاقة معتبرة ، وأمّا الزائد عليها فلا .
وقد استدلّ على اعتبار العدالة ـ مضافاً إلى الإجماع بالنحو الذي عرفت في اعتبار الإيمان(1) ـ برواية الاحتجاج ـ الطويلة المتقدّمة(2) في أدلّة حجّية فتوى المجتهد ـ عن أبي محمّد العسكري(عليه السلام) ، المشتملة على قوله(عليه السلام) في الذيل : «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم ، الحديث .
- (1) في ص95 ـ 96.
-
(2) في ص82 ـ 83.