(الصفحة 214)
استصحابها ; لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً(1) .
وهذا الإيراد يمكن وروده على استصحاب الحكم الواقعي أيضاً ; فإنّ العرف يرى الحكم الواقعي منجّزاً ما دام الرأي باقياً ، فإذا زال بالموت ، أو بالتبدّل ،
أو بغيرهما لا يكون منجّزاً عندهم بوجه .
ومنها : إطلاق الأدلّة اللفظيّة الدالّة على التقليد من الآيات والروايات الواردة فيه عموماً أو خصوصاً(2) ; فإنّ مقتضى إطلاقها أ نّه لا فرق في حجّية الإنذار ووجوب الحذر عقيبه ، واعتبار قول أهل الذكر ، وجواز تقليد من كان واجداً للأوصاف المتعدّدة ، وترتيب الأثر على قول مثل زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وزكريّا ابن آدم ، ويونس بن عبدالرحمن(3) ، بين البقاء على الحياة بعد تحقّق الرجوع والتقليد والأخذ والتعلّم ، وبين عدم البقاء عليها . غاية الأمر اعتبار الحياة في الحدوث ; لظهور العناوين في الفعليّة كما عرفت(4) . وأمّا بحسب البقاء فلا دلالة فيها على الاعتبار ، بل مقتضى إطلاقها العدم ، كما هو ظاهر (5).
ومنها : ـ وهو العمدة في المقام ـ السيرة العقلائيّة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم في كلّ فنّ وصنعة ، من دون فرق بين أن يكون العالم ـ الذي رجع إليه ـ باقياً على حياته عند العمل بقوله ، أم لم يكن كذلك ، ومن الواضح عدم تحقّق الردع عن هذه السيرة العمليّة العقلائيّة ، والإجماع الرادع عن السيرة في التقليد الابتدائي غير
- (1) كفاية الاُصول : 547 .
-
(2) سبق ذكرها في ص71 ـ 88 .
-
(3) وسائل الشيعة 27 : 138 ـ 148 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح4 ، 8 ، 9 ، 14 ـ 23 ، 25 ، 30 ، 33 ـ 35 .
-
(4) في ص197 ـ 202 .
-
(5) الفصول الغرويّة: 423، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 109 ـ 110 .
(الصفحة 215)
متحقّق هنا . نعم ، حكي عن شيخنا الأعظم الأنصاري(قدس سره) (1) دعوى الإجماع ، واستظهاره من إطلاق كلمات المجمعين ، ولكنّها ممنوعة جدّاً ; لذهاب جمع كثير وجمّ غفير إلى جواز البقاء على تقليد الميّت ، فلا مجال معه لدعوى الإجماع(2) .
هذا ، ويمكن دعوى السيرة العمليّة من المتشرّعة في الصدر الأوّل ، حيث إنّهم بعد الرجوع إلى أحد من أصحاب الأئمة(عليهم السلام) ، وأخذ المعالم منه، لم يكن واحد منهم متوقّفاً عن العمل حتى يثبت له بقاء حياة من رجع إليه ، أو يرجع إلى الغير بعد ثبوت الممات ، خصوصاً مع بعد الشقّة، كما ورد في بعض الروايات المتقدّمة(3) .
فالإنصاف أنّ هذا الدليل كاف في جواز الاعتماد عليه ، والحكم بجواز البقاء على تقليد الميّت وعدم وجوب الرجوع عنه إلى الحيّ .
نعم ، هنا أمران ربما توهّم اعتبارهما في جواز البقاء :
الأوّل : العمل بفتوى المجتهد الميّت على تقدير كون التقليد عبارة عن الاستناد إلى قول الغير في العمل ; فإنّه على هذا التقدير لو لم يتحقّق من المقلّد عمل على طبق فتوى المجتهد الميّت يكون العمل به بعد الموت تقليداً ابتدائيّاً لا محالة ، وقد مرّ أ نّه غير جائز(4) . وهذا بخلاف ما لو كان التقليد بمعنى الالتزام أو غيره من الأُمور التي لا يكون للعمل فيها دخل أصلا ; فإنّه لا يكون جواز البقاء على تقليد الميّت مشروطاً بسبق العمل ، بل يكفي مجرّد الالتزام ونحوه في جواز البقاء .
ولكن لا يخفى أنّ مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت لا تكون بهذا العنوان
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 62 .
-
(2) مستمسك العروة الوثقى: 1 / 15 و 19 ، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 110 ـ 111 .
-
(3) في ص86 .
-
(4) في ص 193 ـ 211 .
(الصفحة 216)
وهذه العبارة واردة في دليل من آية أو رواية ، ليكون الحكم بالجواز دائراً مدار عنوان البقاء على التقليد ; كي يلزم ملاحظة معنى التقليد أوّلا ، وعنوان البقاء ثانياً ، بل هذه العبارة واقعة في كلمات الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . واللازم ملاحظة الأدلّة الدالّة على الجواز ليظهر أنّها هل تدلّ على اشتراط الجواز بالعمل في حال الحياة أم لا؟
فنقول : أ مّا استصحاب الحجّية ، فمقتضاه بقاء فتوى الميّت على وصف الحجّية الراجعة إلى التنجيز والتعذير بعد موته ، فالموضوع هو رأي المجتهد وفتواه ، ولا نظر له إلى حال المكلّف الذي قلّده من جهة العمل على طبق فتواه وعدمه ، كما هو واضح .
وأمّا الإطلاقات ، فهي أيضاً كذلك ; لأنّ الملاك في وجوب الحذر هو إنذار المنذر الحيّ ، وفي وجوب ترتيب الأثر هو كون المسؤول أهل الذكر من دون مدخليّة لعمل المكلّف في ذلك أصلا .
وهكذا السيرة العقلائيّة التي هي العمدة في أصل مسألة التقليد ; فإنّ عدم مدخليّة العمل عند العقلاء في ترتيب الأثر على قول العالم بعد الرجوع إليه واضح لا ريب فيه .
فانقدح أنّ العمل لا دخل له في جواز البقاء . نعم ، بناءً على كون التقليد عبارة عن العمل لابدّ من تحقّق العمل في الجملة ولو ببعض المسائل ، فيجوز له حينئذ البقاء بالإضافة إلى جميع المسائل ولو فيما لم يعمل بها ; وذلك لئلاّ يلزم التقليد الابتدائي الذي قام الدليل على عدم جوازه ، فالفرق حينئذ بين مدخليّة العمل في معنى التقليد وعدمها يظهر في جواز البقاء على الثاني مطلقاً ـ ولو لم يعمل على طبق فتوى الميّت أصلا ، فلا يجب عليه العدول إلى المجتهد الحيّ ـ وعدم جواز البقاء إلاّ
(الصفحة 217)
على تقدير العمل ببعض المسائل ، فيجوز له البقاء ولو بالنسبة إلى ما لم يعمل بها ، وفي غير هذا التقدير يجب عليه العدول إلى الحيّ ; لأ نّه مع البقاء لا يتحقّق إلاّ التقليد الابتدائي الذي لا يكون جائزاً ، ولذا ذكر في المتن أ نّ جواز البقاء إنّما هو بعد تحقّق التقليد بالعمل ببعض المسائل ، فتأمّل جيّداً .
الثاني : أن يكون المقلّد ذاكراً لفتوى الميّت بعد موته ، بحيث لو نسيها بعد ما أخذها وتعلّمها لم يجز له البقاء ، وقد اختار مدخليّة هذا الأمر في جواز البقاء بعض الأعلام في شرح العروة على ما في تقريراته ، وأفاد في وجهه : أنّه بالنسيان ينعدم أخذه السابق ورجوعه إلى الميّت قبل موته ; لأنّ المقلّد حينئذ إنّما يعلم أنّ الميّت أفتى في مسألة العصير مثلا إمّا بنجاسته ـ على تقدير غليانه ـ أو بطهارته ، وهو كالعلم الإجمالي بأنّ الحكم الواقعي إمّا الحرمة أو الإباحة ليس بمورد للأثر ، بل يحتاج إلى رجوع جديد ، وجواز الرجوع إلى الميّت حينئذ يحتاج إلى دليل ; لأ نّه تقليد ابتدائيّ للميّت ، وقد تحقّق عدم جوازه(1) .
ويرد عليه : أ نّه إن كان المراد بهذا الشرط هو الذُكر في مقابل النسيان ، بحيث كان المقلّد بنفسه ذاكراً ، ومع عدمه لم يجز له البقاء ـ وإن كان الاطّلاع على فتواه ممكناً بالرجوع إلى رسالته العمليّة ، أو سائر مقلّديه الذاكرين لفتواه ـ فلا دليل على اعتباره في جواز البقاء ، وكون النسيان موجباً لأن يصير رجوعه من التقليد الابتدائي ممنوع جدّاً ; فإنّ الذُكر لا دخالة له في عنوان البقاء بوجه ; فإنّ المقلِّد لو نسي فتوى المجتهد في حال حياته ، ثمّ اطّلع عليه وتعلّمه ثانياً ، هل يصير ذلك موجباً لتقليد جديد في تلك الحال ، أم لا يكون هناك إلاّ البقاء على التقليد الأوّلي؟
- (1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 112 .
(الصفحة 218)
فإذا عمل في الحجّ على طبق آرائه ومناسكه ، ثمّ نسيها فأراد الحجّ ثانياً ، فهل يعدّ هذا تقليداً ابتدائيّاً ، أم لا يكون إلاّ بقاءً على التقليد الأوّل ؟
مضافاً إلى ما عرفت ; من أنّ البقاء بعنوانه لا دليل على جوازه ، بل مقتضى الأدلّة بقاء حجّية فتوى الميّت بعد موته ، وجواز الأخذ به لمن كان مقلّداً له في حال الحياة، ولا دلالة لها على اعتبار الذُكر وعدم النسيان بوجه ، وإلى أ نّه لو كان مثل هذا يعدّ تقليداً ابتدائيّاً لم يقم دليل على عدم جواز هذا النحو من التقليد الابتدائي ، فتأمّل .
وإن أريد بالذُكر هو الذُكر في مقابل النسيان ، بحيث لا يكون الاطّلاع على فتواه ممكناً ; لعدم وجود رسالة عمليّة له ، وعدم من كان مطّلعاً على نظره ، فاعتبار هذا المعنى وإن كان مسلّماً إلاّ أ نّه دخيل في إمكان البقاء ، لا في جوازه ; ضرورة أ نّه مع عدمه لا يعقل أن يبقى على تقليد الميّت ، فلا مجال للحكم بأ نّه تقليد ابتدائيّ للميّت ، كما هو واضح .
وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا علمت المخالفة بين المجتهد الميّت والحيّ في الفتوى والنظر ، فتارة : تكون أعلميّة أحدهما بالإضافة إلى الآخر معلومة ، واُخرى: غير معلومة .
ففي الفرض الأوّل: يجب الرجوع إلى الأعلم الحيّ أو البقاء على تقليد الميّت الأعلم ; لِما عرفت من تعيّن الأعلم للتقليد(1) .
وفي الفرض الثاني : قد يقال : بأ نّه لا يكاد يشكّ في أنّ الفتويين ساقطتان حينئذ عن الاعتبار ; لأنّ الإطلاقات لا تشمل المتعارضين ، فلا حجّية لفتوى