(الصفحة 143)
الأساس في باب التقليد ورجوع العامي إلى المجتهد ـ على تعيّن الرجوع إلى الأعلم مع حفظ الخصوصيّات المذكورة المفروضة في محلّ الكلام ومورد النقض والإبرام ، فإذا لم يثبت ردع الشارع عن هذه الطريقة في محيط الشريعة ، فلابدّ من الالتزام بها وإعمالها فيها .
فالإنصاف أنّ هذا الوجه خال عن الإشكال لو لم يتمّ ما استدلّ به على عدم تعيّن تقليد الأعلم من الوجوه التي سيأتي التعرّض لها إن شاء الله تعالى(1) ; ضرورة أ نّه مع تماميّة واحد منها يتحقّق الردع وعدم الإمضاء ، كما لا يخفى .
الرابع : أنّ فتوى المجتهد إنّما اعتبرت من باب الطريقيّة إلى الأحكام الواقعيّة ، ومن المعلوم أنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره ; لسعة اطّلاعه وكثرة إحاطته بما لا يطّلع عليه غيره ; من النكات والدقائق والمزايا والخصوصيّات ، فلا محيص عن الأخذ به والرجوع إليه دون غيره (2) ، فهذا الوجه مركّب من صغرى وكبرى .
وقد أُجيب عنه بمنع الصغرى والكبرى :
أمّا الصغرى : فلأنّ فتوى غير الأعلم ربما تكون أقرب ; لموافقتها لفتوى من هو أعلم منه من الأموات ، أو من الأحياء غير الواجدين لشرائط جواز الرجوع إليهم من العقل والعدالة وشبههما ، بل ربما تكون موافقة لفتاوي جملة من الأحياء الواجدين لها ، فيكون الظنّ بها أقوى من الظنّ الحاصل من فتوى الأفضل (3) .
ولكنّه دفع هذا الجواب المحقّق الإصفهاني(قدس سره) في رسالته بما حاصله : أنّ الفتوى
- (1) في ص 154 ـ 166 .
-
(2) الذريعة إلى اُصول الشريعة: 2 / 325، معالم الدين: 246 .
-
(3) كفاية الاُصول: 544، نهاية الأفكار: 4، القسم الثاني: 251 .
(الصفحة 144)
إذا كانت حجّة شرعاً أو عقلا لأجل إفادة الظنّ ، وأنّها أقرب إلى الواقع من غيرها فلا محالة ليس لأجل مطلق الظنّ بحكم الله تعالى ، ولذا لا يجوز للعامي العمل بظنّه ، بل لأجل أ نّه خصوص ظنّ حاصل من فتوى من يستند إلى الحجّة القاطعة للعذر ، فالحجّة شرعاً أو عقلا هو الظنّ الحاصل من الفتوى ، لا الظنّ بما أفتى به المجتهد وإن لم يحصل من فتوى المجتهد .
وعليه : فالفرق بين الأقربيّة الداخليّة والخارجيّة في كمال المتانة ، مضافاً إلى أنّ مطابقة فتوى المفضول لفتوى الأفضل من الأموات وإن كانت تفيد ظنّاً أقوى من الحاصل من فتوى الأفضل ، إلاّ أ نّه لا حجّيّة لفتوى الميّت حتى يكون الظنّ الحاصل من مطابقة المفضول له حجّة أقوى ، فمطابقته له كمطابقته لسائر الأمارات غير المعتبرة ، كما أنّ مطابقة فتوى المفضول لفتاوي جملة من الأحياء لا تفيد ظنّاً أقوى ; إذ المطابقة لتوافق مداركهم وتقارب أفهامهم وأنظارهم ، فالمدرك واحد والأنظار المتعدّدة في قوّة نظر واحد ، ولا يكشف التوافق عن أقوائيّة مدركهم ، وإلاّ لزم الخلف ; لفرض أقوائيّة نظر الأفضل من غيره .
ومنه يظهر بطلان قياس المقام بالخبرين المتعارضين ، حيث إنّ تعدّد الحكاية في واحد منهما يوجب ترجيحه ; لعدم كونها بمنزلة حكاية واحدة(1) .
ويمكن الإيراد عليه بأنّ غرض المجيب مجرّد إنكار الأقربيّة مطلقاً ، بمعنى أنّ فتوى الأعلم لا تكون أقرب في جميع الموارد ، وليس الغرض إثبات أقربيّة غير الأعلم في بعض الموارد بنحو يعتمد عليه ويحتجّ به ، فإثبات عدم حجّية الأقربية الحاصلة ـ بالإضافة إلى فتوى المفضول ـ لا مدخل له فيما هو المهمّ .
- (1) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 53 ـ 54 .
(الصفحة 145)
وبالجملة : الغرض في هذا المقام مجرّد تحقّق الصغرى وعدمه ; ضرورة أنّ الأقربيّة الحاصلة لفتوى الأعلم تكون حجّيتها أوّل الكلام ، فالبحث ليس في مقام الاحتجاج ، بل في أصل وجود الأقربيّة وعدمها ، فالفرق بين الأقربيّة الداخليّة والخارجيّة خارج عمّا هو المهمّ في البحث عن الصغرى ، كما لا يخفى .
وأمّا الكبرى : فقد أجاب عنها المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية ; بأنّ ملاك
حجّية قول الغير تعبّداً ولو على نحو الطريقيّة لم يعلم أ نّه القرب من الواقع ،
فلعلّه يكون ما هو في الأفضل وغيره سيّان ، ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما
دخل أصلا . نعم ، لو كان تمام الملاك هو القرب ، كما إذا كان حجّة بنظر العقل لتعيّن الأقرب قطعاً(1) .
وقد اعترض على هذا الجواب المحقّق الاصفهاني(قدس سره) بما حاصله : أ نّه إن أُريد أنّ القرب إلى الواقع لا دخل له أصلا ، فهو خلاف الطريقيّة ، وإن أُريد أ نّه ليس بتمام الملاك فغير ضائر بالمقصود ; لأنّ فتوى الأفضل وإن ساوت فتوى غيره في بعض الملاك ; لكنّها تترجّح عليها في بعضه الآخر وهو الأقرب إلى الواقع ; لأ نّه ليس المراد بالأعلم من هو أقوى معرفة ، بحيث لا تزول بتشكيك المشكّك ، بل المراد به من كان أقوى نظراً في تحصيل الحكم من مداركه الشرعيّة والعقليّة من حيث مبادئ تحصيله وكيفيّة تطبيقه على مصاديقه ، فهو أكثر إحاطة بالجهات الموجبة لاستنباط الحكم من غيره ، فالتسوية بينه وبين غيره ترجع إلى التسوية بين العالم والجاهل(2) .
- (1) كفاية الاُصول : 544 .
-
(2) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 54 ـ 55 .
(الصفحة 146)
ويرد عليه : أنّ الأعلميّة ـ بالمعنى الذي أفاده ـ إن كانت مؤثّرة في أصل الاستنباط وتحقّق الاجتهاد ، كما ربما يؤيّده تعبيره عن غيره بالجاهل الغافل عن الجهات الموجبة لاستنباط الحكم ، فاللازم حينئذ عدم جواز تقليد غيره مطلقاً ، ولو مع فقده ووجوب رجوعه إليه أيضاً ، كسائر العوام ، وإن لم تكن مؤثّرة في أصله ، بل في حسن الاستنباط وجودته ، فاللازم إقامة الدليل على مرجّحيّة حسن الاستنباط في مقام التقليد ورجوع العامّي إليه ، وليس في كلامه(قدس سره) ما يدلّ على ذلك .
فالإنصاف أنّ هذا الدليل المركّب من الصغرى والكبرى ممّا لا يتمّ الاستدلال به بوجه أصلا .
الخامس : طائفة من الروايات التي يمكن استفادة هذا الأمر منها :
منها : مقبولة عمر بن حنظلة ـ التي رواها المشايخ الثلاثة ـ قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في ديَن أو ميراث فتحاكما ـ إلى أن قال :ـ فإنْ كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ (حديثنا خ ل) فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر . قال : فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يُفضَّل (ليس يتفاضل خ ل) واحد منهما على صاحبه؟ قال : فقال : ينظر إلى ما كان من رواياتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ; فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ـ إلى أن قال :ـ
فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر فما وافق
(الصفحة 147)
حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة .
قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة ، والآخر مخالفاً لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد . فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر . قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال : إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك ; فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات(1) .
وفي رواية الصدوق : «وخالف العامّة فيؤخذ به ، قلت : جعلت فداك وجدنا أحد الخبرين» .
والمروي في الكافي إنّما هو صدر المقبولة(2) ، المشتمل على النهي عن التحاكم إلى الطاغوت ، ووجوب الرجوع إلى قاضي الشيعة ، كما أنّ المروي في الفقيه إنّما هو ذيلها ، المشتمل على السؤال عن اختلاف الحكمين إلى آخر المقبولة ، وليس التهذيب والاستبصار موجودين عندي فعلا حتى اُراجعهما .
وقد أوضح تقريب الاستدلال بها المحقّق الرشتي(قدس سره) في رسالته في مسألة تقليد الأعلم ، قال بعد ذكر المقبولة : دلّت على تقديم قول الأفقه والأصدق في الحديث على قول غيرهما عند الاختلاف في حكم الله تعالى .
- (1) الفقيه : 3 / 5 ح18 ، تهذيب الأحكام : 6 / 301 ح845 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 /106 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح1 .
-
(2) أي في الكافي : 7 / 412 ح 5 ، ولكن روى في الكافي : 1 / 67 ح10 تمامها .