(الصفحة 262)[عمل الجاهل المقصّر أو القاصر من غير تقليد]
مسألة20: عمل الجاهل المقصِّر الملتفت من دون تقليد باطل، إلاّ إذا أتى به برجاء درك الواقع ، وانطبق عليه ، أو على فتوى من يجوز تقليده. وكذا عمل الجاهل القاصر أو المقصِّر الغافل ـ مع تحقّق قصد القربة ـ صحيح إذا طابق الواقع ، أو فتوى المجتهد الذي يجوز تقليده 1.
1 ـ يقع الكلام في هذه المسألة في مقامين :
المقام الأوّل : في الجاهل المقصّر الملتفت حال العمل ، ولازمه التردّد في كون المأتيّ به هو المأمور به ، وقد صرّح صاحب العروة(قدس سره) (1) ببطلان عمله وإن كان مطابقاً للواقع ; يعني وإن علم بعد العمل مطابقته له ; ضرورة أ نّه ليس المراد مجرّد المطابقة ولو كانت مجهولة ، حتّى يصير ذلك قرينة على كون المراد بالبطلان معنى آخر ، كما سيأتي بيانه . كما أ نّه لا خفاء في كون المراد بالعمل هو العمل العبادي الذي يفتقر في تحقّقه وحصوله إلى قصد الامتثال ونيّة التقرّب ، والدليل عليه ـ مضافاً إلى قوله دام ظلّه : «مع تحقّق قصد القربة» ـ : أنّ معروض الصحّة والبطلان إنّما هو العمل العبادي . وأمّا الواجب التوصّلي فأمره دائر بين الوجود والعدم ، ولا يتّصف بالصحّة والبطلان أصلا .
وكيف كان ، فما يمكن أن يستدلّ به للقول ببطلان عبادة الجاهل المقصّر الملتفت ـ ولو انكشف له بعد العمل المطابقة للواقع ، فضلا عن المطابقة لفتوى المجتهد ـ أُمور :
أحدها : ما يظهر من العروة ; من أنّ الجاهل المفروض لا يتمشّى منه قصد
- (1) العروة الوثقى : 1 / 8 مسألة 16 .
(الصفحة 263)
القربة ، نظراً إلى أ نّه كيف يجتمع الترديد والشكّ في انطباق المأمور به على المأتيّ به ، مع قصد التقرّب وجعل العمل مقرّباً له إليه تعالى ; فإنّ من لا يعلم أنّ وظيفته القصر أو الإتمام ، أو لا يعلم أ نّه مكلّف بصلاة الظهر يوم الجمعة، أو بالجمعة ، كيف يتمشّى منه قصد التقرّب بإحدى الصلاتين ، مع الالتفات وإمكان الرجوع إلى المجتهد ، أو إمكان الاستنباط إن كانت له ملكة الاجتهاد ؟ ومن الواضح أنّ قوام العمل العبادي ، بقصد التقرّب والإتيان به بما أ نّه موجب لحصول القرب .
والجواب : أ نّه لا يعتبر في العبادة إلاّ أن يكون الداعي إلى إتيانها والمحرّك لإيجادها أمراً مضافاً إلى الله تبارك وتعالى ، ولا يكون شيء من الأُمور الدنيويّة مؤثّراً في حصولها دخيلا في تحقّقها .
ومن المعلوم أنّ الداعي إلى الصلاة قصراً ، بالإضافة إلى الجاهل المفروض ليس إلاّ احتمال تعلّق الأمر بها وكونها هي المأمور بها ; لأنّ المفروض أ نّه ليس له الداعي سوى ذلك من الرياء وغيره .
غاية الأمر : أ نّه كانت وظيفته بحكم العقل إمّا الاحتياط والإتيان بكلا المحتملين ; لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة ، أو الرجوع إلى العالم لو كان عاميّاً ، أو الاستنباط لو كانت له ملكة الاجتهاد ، ومع الإخلال بهذه الوظيفة لا يجوز له الاقتصار على المأتيّ به ، إلاّ أنّ هذا الحكم يستمرّ ويدوم ما دام لم ينكشف موافقة عمله للواقع ، أو لرأي العالم ، أو لمقتضي الاجتهاد ، أمّا بعد الانكشاف وتحقّق العلم بالموافقة ـ الذي هو محلّ الكلام في المقام ـ فأيّ خلل في عمله ؟ ولِمَ كان خالياً عن قصد التقرّب ، مع أ نّه لم يكن المحرّك له إلاّ الامتثال ، لا بنحو يقطع بتحقّقه ، بل بهذا المقدار وهو مجرّد الاحتمال ؟
نعم، العبادة بهذه الكيفيّة خالية عن الجزم ، وقد حقّق في محلّه عدم اعتباره ، ومرّ
(الصفحة 264)
البحث عنه سابقاً(1) في إجزاء الاحتياط ، وكفاية الامتثال العلمي الإجمالي ، ولو مع التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي ، فانقدح أنّ هذا الوجه ـ الذي هو العمدة في هذا الباب ـ لا يصلح لأن يستند إليه في الحكم ببطلان عبادة الجاهل المفروض .
ثانيها : ما حكاه الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) من أنّ ظاهر كلام السيّد الرضي(قدس سره)في مسألة «الجاهل بوجوب القصر(2)» وظاهر تقرير أخيه السيّد المرتضى(قدس سره) له(3) ، ثبوت الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها(4) ; فإنّ الظاهر أ نّه ليس المراد بالعلم هو العلم الوجداني ، بل أعمّ منه ومن الطريق المعتبر القائم على أحكام الصلاة ، وخصوصيّاتها من القصريّة والإتماميّة وغيرهما من الجهات ، كما أنّ شموله للجاهل المفروض في المقام مسلّم لو لم نقل بأ نّه القدر المتيقّن من معقد الإجماع ،
كما هو غير خفيّ .
والجواب أوّلا : ما ذكرناه في محلّه(5) من عدم حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد ، وعدم شمول أدلّة حجّية الخبر لحكاية الإجماع .
وثانياً : أ نّه على تقدير تحقّق الإجماع لا يكون واجداً لملاك الحجّية ; لعدم كونه كاشفاً عن رأي المعصوم(عليه السلام) بعد احتمال كون مستند المجمعين عدم اجتماع الترديد مع قصد التقرّب ، أو مع بعض الجهات الأُخر المعتبرة في صحّة العبادة عندهم ، كالجزم ونحوه .
- (1) في ص33 ـ 60 .
-
(2) حكى عنه قبل الشيخ،الشهيدالأوّل في ذكرى الشيعة: 4/325، ولكن لم نعثر عليه في مضانّه من كتب السيّد .
-
(3) رسائل الشريف المرتضى : 2/383 ـ 384 .
-
(4) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل : 49 .
-
(5) سيرى كامل در اصول فقه: 9 / 614 ـ 615 .
(الصفحة 265)
وثالثاً : ـ وهو العمدة ـ أنّ المراد بالبطلان في هذه العبارة ومثلها ـ كالعبارة المعروفة ; وهو أنّ عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل ـ هو عدم جواز الاقتصار على الصلاة ، أو العمل الذي لا يعلم حاله وحكمه ; لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي لزوم تحصيل العلم بالبراءة أو الحجّة عليها ، وليس المراد بالبطلان هو البطلان ولو مع انكشاف الموافقة للواقع ، أو للفتوى ، أو للاجتهاد ، كما هو واضح .
ثالثها : دعوى الإجماع على بطلان عمل خصوص الجاهل المقصّر ; والقدر المتيقّن منه الجاهل المفروض في المقام .
والجواب عنها هو الجواب عن دعوى الإجماع المتقدّمة .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أ نّه لا دليل على بطلان عبادة الجاهل المقصّر الملتفت ، بحيث تجب عليه الإعادة ولو بعد انكشاف المطابقة للواقع ، فضلاً عن المطابقة لفتوى المجتهد .
المقام الثاني : في الجاهل القاصر ، والمقصّر الغافل ، وبعدما اخترنا صحّة عبادة الجاهل المقصرّ الملتفت ، تكون الصحّة في هذا المقام بطريق أولى ، فلا كلام فيه من هذه الجهة ، إنّما الكلام في أ نّه لو لم يكن انكشاف المطابقة للواقع وجدانيّاً ثابتاً من طريق العلم واليقين كما هو الغالب ، بل كان الطريق منحصراً بالاجتهاد ، أو بالرجوع إلى المجتهد ، فهل الملاك في القسم الثاني ـ وهو الرجوع إلى المجتهد ـ الرجوع إلى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حال العمل ، أو الرجوع إلى المجتهد الفعليّ ـ وهو حال الالتفات ـ فيما إذا كانا متعدّدين ، مع ثبوت الاختلاف بينهما في الفتوى والنظر ، كما إذا كانت فتوى أحدهما القصر في بعض المواضع المردّدة بين القصر والإتمام ، والآخر الإتمام ؟
وعبارة المتن مجملة من هذه الحيثيّة ، ولا دلالة لها على أنّ المراد بالمجتهد الذي
(الصفحة 266)
يجوز الرجوع إليه هو المجتهد حال العمل ، أو المجتهد الفعلي .
ولكنّ الذي اختاره صاحب العروة(قدس سره) : هو اعتبار المطابقة لفتوى المجتهد الذي قلّده بعد ذلك ، والاحتياط بالمطابقة لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حال العمل (1).
والوجه في ذلك ـ على ما أفاده بعض الأعلام في شرحه على العروة ـ : أنّ الأحكام الواقعيّة لا تتغيّر عمّا هي عليه بفتوى المجتهد ، أو بقيام الأمارة على خلافها ، بناءً على ما هو الحقّ من الطريقيّة لا السببيّة ، وحيث إنّ الإعادة وعدمها فعل من أفعال المكلّف ، وهو لا يدري حكمها عند الالتفات إلى عمله ، فلا مناص له من أن يرجع في حكمها إلى من يجب عليه تقليده في زمان الابتلاء بالشكّ في وجوب الإعادة ; فإنّه إذا أفتى بالصحّة فمعناه عدم وجوب الإعادة ، وإذا أفتى بالفساد معناه وجوب الإعادة .
وأمّا فتوى المجتهد الأوّل فلا يترتّب عليها أثر ; لأنّها قد سقطت عن الحجّية بالموت ، أو النسيان ، أو غيرهما ، والمجتهد الثاني وإن لم تكن فتواه متّصفة بالحجّية من الابتداء ، وإنّما حدثت حجّيتها بعد ذلك ; إمّا لأ نّه لم يكن لها موضوع سابقاً لعدم كونه مجتهداً ، وإمّا لعدم كونه واجداً لبعض الشروط كالأعلميّة أو العدالة ، إلاّ أنّ ما تتضمّنه تلك الفتوى بعد اتّصافها بالحجّية حكم كلّي إلهي لا يختصّ بوقت دون وقت ، بل يعمّ الأزمنة المتقدّمة والمتأخّرة ، فيشمل العمل في حال وقوعه في السابق ، فالملاك في اتّصاف العمل بالصحّة هو المطابقة لفتوى المجتهد الثاني ، التي
- (1) العروة الوثقى : 1 / 8 مسألة 16 .