(الصفحة 155)
ومن الواضح عدم تحقّق هذا الشرط في الآيات ; لوضوح أنّ آية النفر إنّما تكون بصدد بيان إيجاب النفر على طائفة من كلّ فرقة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا بعد الرجوع ، ولازم ذلك وإن كانت هي الحجّية ، إلاّ أنّها لا تكون بصدد إفادة الحجّية المطلقة ، الشاملة لصورتي وجود الأعلم وعدمه ، وفرضي التعارض وعدمه ، وكذا آية السؤال ; فإنّ غاية مفادها لزوم التداوي على الجاهل بالرجوع إلى العالم . وأمّا أنّ قول العالم حجّة مطلقاً وفي جميع الموارد والفروض ، فلا دلالة لها عليه بوجه .
وهذا نظير إلزام المريض بالرجوع إلى الطبيب ; فإنّ النظر فيه إنّما هو بيان أنّ المريض إذا أراد الشفاء والتخلّص من مرضه ، يكون طريق ذلك هو الرجوع إلى الطبيب وترتيب الأثر على قوله ورأيه ، ولا دلالة في هذا الكلام على لزوم تطبيق العمل على قوله ، ولو مع وجود الأعلم منه وثبوت الاختلاف بين النظرين والتعارض بين الاعتقادين .
ولعمري أنّ هذا من الوضوح بمكان ، وهكذا الرواية العامّة المذكورة ; فإنّ النظر فيها إنّما هو نفي جواز تقليد الفقيه غير المتّصف بالأوصاف المذكورة فيها ، مثل علماء اليهود المرتكبين للمعاصي والمحرّمات . وأمّا أنّ كلّ فقيه واجد لتلك الأوصاف فهو جائز التقليد ; سواء كان الأفقه موجوداً أم لا ، والتعارض بين الفتويين ثابتاً أم لا ، فلا دلالة له عليه كما هو غير خفيّ ، فالتمسّك بالإطلاق مخدوش من هذه الجهة .
ومنها : ـ وهو العمدة في الباب ـ الروايات الكثيرة الدالّة على أنّ الأئـمّة(عليهم السلام)
قد أرجعوا جماعة من الشيعة إلى جمع من أصحابهم ; كزرارة ، ويونس بن عبدالرحمن ، ومحمّد بن مسلم ، وأبي بصير ، وزكريّا بن آدم ، وغيرهم(1) ، والتمسّك
- (1) وسائل الشيعة : 27 / 136 ـ 151 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 .
(الصفحة 156)
بهذه الطائفة من جهتين :
الجهة الأُولى : أنّ الإرجاع إلى غيرهم من الأصحاب مع وجود أنفسهم الشريفة(عليهم السلام) بين الناس ، دليل على عدم تعيّن تقليد الأعلم ، وإلاّ لما جاز الإرجاع مع وجود أنفسهم(عليهم السلام)، كما هو ظاهر .
الجهة الثانية : أنّ الإرجاع إلى متعدّدين ـ مع ثبوت الاختلاف بينهم من حيث الفضيلة أوّلا ، ومن حيث النظر والعقيدة ثانياً ، كما هو الغالب فيهما ـ دليل على عدم تعيّن تقليد الأعلم ، وإلاّ لكان اللازم الإرجاع إلى خصوص الأعلم من الأصحاب (1).
والجواب : أنّ الظاهر عدم ثبوت الاختلاف بين الأصحاب ، وكذا بينهم وبين الإمام(عليه السلام) في الرأي والاعتقاد ; لأنّا وإن قلنا بثبوت الاجتهاد والاستنباط في زمن الأئمة(عليهم السلام) ، إلاّ أ نّه حيث تكون المدارك في ذلك الزمان معلومة غالباً ; لعدم ثبوت الواسطة بينهم وبين أئمّتهم(عليهم السلام) ، فالاختلاف لا يكاد يتحقّق إلاّ نادراً ، والإرجاع إنّما هو لأجل ذلك .
مضافاً ألى أنّ مفروض الكلام إنّما هي صورة وجود الأعلم وإمكان الوصول إليه وأخذ الفتوى منه ، وهذا لا يتحقّق غالباً في ذلك الزمان ; لأنّ الوصول إلى الإمام(عليه السلام) كان أمراً متعسّراً غالباً لأجل بُعد الأمكنة وكثرة الفواصل وقلّة الوسائل ، أو لأجل الجهات السياسيّة الموجبة للتقيّة والمحدوديّة ، خصوصاً في بعض الأزمنة ، كما يشهد به التاريخ وغيره .
فالإنصاف أنّ هذه الطائفة من الروايات لا دلالة فيها على عدم تعيّن تقليد
- (1) جواهر الكلام : 40 / 45 ـ 46 .
(الصفحة 157)
الأعلم فيما هو مفروض الكلام .
ومنها : دعوى جريان سيرة المتشرّعة على الرجوع إلى المجتهد الواجد للشرائط من غير الفحص عن كونه متّصفاً بالأعلميّة ، ولو كان تقليد الأعلم متعيّناً لما جرت السيرة بهذه الكيفيّة (1).
والجواب : ـ مضافاً إلى أنّ هذه الصورة خلاف مفروض الكلام من صورة وجود الأعلم وغيره ، والعلم بالاختلاف بينهما في الفتوى ـ أنّ جريان السيرة بهذا النحو ممنوع جدّاً ، وسيأتي البحث عن الفحص في المقام الآتي إن شاء الله تعالى(2) .
ومنها : أنّ وجوب تقليد الأعلم عسر على المكلّفين ; لأجل عدم تشخيص مفهوم الأعلم أوّلا ، وعدم الطريق إلى تشخيص مصداقه ثانياً ، وعدم إمكان الإطّلاع على آرائه وفتاويه نوعاً ثالثاً (3).
والجواب عنه ـ مضافاً إلى ما عرفت من أ نّه خلاف ما هو المفروض في المقام ـ : أنّ مفهوم الأعلم في الفقه لا يغاير مفهومه في سائر الفنون والصنائع والحرف والعلوم ; فإنّ المراد به ليس إلاّ مَن كان أعلم بالقواعد التي يتركّب منها العلم ، وأجود استنباطاً ، وأحسن سليقة في تطبيق الكبريات على صغرياتها ، وتشخيص المورد لها ; فإنّ الأعلم في الطبّ مثلا ليس إلاّ من كان أعلم بقواعد هذا العلم ، وأحسن في تشخيص المورد وتطبيق القاعدة عليه ، فكذا في علم الفقه .
غاية الأمر اختلاف علم الفقه مع سائر العلوم في كون قواعده محتاجة
- (1) الفصول الغرويّة: 424، جواهر الكلام: 4 / 43 ـ 44، وحكاه المحقّق الرشتي عن الحاجبي والعضدي في رسالته في تقليد الأعلم: 28 ، فلاحظ مختصر الاُصول: 309 .
-
(2) في ص 166 ـ 167 .
-
(3) الفصول الغرويّة: 424 .
(الصفحة 158)
إلى الاستنباط وإعمال دقّة النظر ; لعدم ابتنائه على الأُمور المحسوسة كأكثر العلوم ، وهذا لا يوجب الخفاء في مفهوم الأعلم كما هو غير خفيّ ، وتشخيص مصداقه ليس أشدّ حرجاً وأكثر صعوبة من تشخيص أصل الاجتهاد ، وكون الرجل بالغاً إلى ذلك الحدّ ، بل يثبت كلّ منهما بالعلم الوجداني، وبالشياع، وبالبيّنة ، كما سيأتي البحث عند تعرّض الماتن ـ دام ظلّه ـ له(1) والاطّلاع على رأي الأعلم ، خصوصاً في مثل هذه الأزمنة التي تداول فيها جمع الفتاوى في رسالة ، وطبعها وانتشارها ممكن كما هو ظاهر .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ مقتضى الدليل تعيّن تقليد الأعلم في الصورة الأُولى ; وهي ما إذا علم الاختلاف بينه وبين غيره ، وأنّ الدليل هو جريان سيرة العقلاء على الرجوع إلى الأعلم في الموارد الجامعة للخصوصيّات المفروضة في محلّ البحث ، وعدم ثبوت الردع عن هذه الطريقة في الشريعة ; لِما عرفت من عدم تماميّة شيء ممّا استدلّ به على عدم تعيّن تقليد الأعلم ، فبقيت السيرة بلا رادع ، وهو الدليل الوحيد في هذا الباب .
وقد عرفت(2) أ نّه مع عدم دلالة الدليل يكون مقتضى حكم العقل بأصالة التعيين في دوران الأمر بينه وبين التخيير في باب الحجّيّة ، هو تعيّن تقليد الأعلم أيضاً . غاية الأمر أ نّه لو كان الوجوب بنحو الفتوى يكون مقتضاه التعيّن في جميع الموارد والفروض ، وأمّا لو كان بنحو الاحتياط ـ كما هو مقتضى حكم العقل ومختار سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن «دام ظلّه» يكون لازمه عدم التعيّن في بعض الموارد .
- (1) في ص 247 مسألة 19 .
-
(2) في ص138 ـ 139 .
(الصفحة 159)
ففي الحقيقة تترتّب ثمرة عمليّة على كون المستند في وجوب تقليد الأعلم هو الدليل أو حكم العقل بالاحتياط ، وذلك فيما إذا كان هناك مجتهد واحد قلّده المكلّف العامّي في برهة من الزمان ، ثمّ وجد من هو أعلم منه ، أو كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة ، اختار المكلّف واحداً منهما ، ثمّ صار الآخر أعلم ; فإنّه إذا كان المستند في وجوب تقليد الأعلم هو حكم العقل والاحتياط العقلي لما كان له ـ أي لحكم العقل ـ مجال في هذين الفرضين ; فإنّ أصالة التعيين إنّما تجري فيما إذا لم يكن هناك أصل شرعيّ مثبت لجواز الأخذ بالطرف الآخر .
ضرورة أ نّه مع جريان الأصل الشرعي لا يكون الأمر دائراً بين التعيين والتخيير حتى يحكم فيه العقل بالاحتياط والأخذ بالمعيّن ، مع أ نّه في الفرض الأوّل يكون مقتضى الاستصحاب بقاء حجّية فتوى المجتهد الأوّل الذي قلّده ، فيجوز البقاء على تقليده وإن وجد من هو أعلم منه ، وفي الفرض الثاني يكون مقتضى الاستصحاب بقاء الحجّية التخييريّة الثابتة قبل بلوغ الآخر إلى مقام الأعلميّة ، فيجوز البقاء على تقليد الأوّل .
وأمّا لو كان المستند هو الدليل وكان الوجوب بنحو الفتوى لما كان مجال للاستصحاب في الفرضين ; لأ نّه مع قيام الدليل على تعيّن تقليد الأعلم لا يجري الاستصحاب ولا غيره من الأُصول العمليّة ، كما هو المحقَّق في محلّه .
وقد اعترضنا سابقاً(1) على سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ بأ نّه لايكاد يجتمع الحكم بلزوم تقليد الأعلم من باب الاحتياط مع الحكم بعدم جواز العدول إلى المساوي احتياطاً ، والحكم بوجوب العدول إلى الأعلم كذلك ، وذكرنا