(الصفحة 171)
لادخالة فيه أصلا ; لأنّ الملاك عندهم مجرّد رجوع الجاهل إلى العالم من دون مدخليّة لخصوصيّة أُخرى ، إلاّ أنّا نعلم بأنّ الشارع اعتبر بعض الخصوصيّات غير المعتبرة عند العقلاء ; كالعدالة والحرّية والرجوليّة على خلاف في بعضها . وحينئذ نحتمل أنّ خصوصيّة الأورعيّة كانت دخيلة في مقام الترجيح عند الشارع ، خصوصاً مع ملاحظة دخالتها في الترجيح في باب القضاء كما في المقبولة(1) ، ومع ذلك لا يكون مرجّحاً عند ذلك البعض .
فنقول : إ نّه لا محيص حينئذ عن الأخذ بخصوص فتوى الأورع ; لأنّها حجّة قطعاً ، وفتوى غيره مشكوكة الحجّية . فلم يبق فرق حينئذ بين المقام ، وبين مسألة تقليد الأعلم في المقام الأوّل .
فالإنصاف أنّ مقتضى حكم العقل من باب الاحتياط بلزوم الأخذ بالمعيّن ; هو لزوم الأخذ بخصوص فتوى الأورع ، كلزوم الأخذ بخصوص فتوى الأعلم . غاية الأمر قيام الدليل على التعيّن في الثاني ، واقتضاء أصالة التعيين العقليّة له في الأوّل ، عكس ما اختاره صاحب العروة(قدس سره) ، ولا يعرف وجه ـ لما أفاده ـ ممّا مرجعه إلى أقوائيّة مرجّحيّة الأورعيّة بالإضافة إلى الأعلميّة ، كما أ نّه لا وجه لما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ دام ظلّه ; لأنّ حكم العقل بالاحتياط في مسألة الأعلم يجري بعينه في هذه المسألة ، من دون فرق بينهما .
المقام الخامس : فيما إذا تردّد الأمر بين شخصين يحتمل أعلميّة أحدهما المعيّن دون الآخر ، وقد حكم في المتن بتعيّن تقليد محتمل الأعلميّة على نحو الاحتياط اللزومي ، والحقّ كما أفاده ; لدوران الأمر بين ما يكون مقطوع الحجّية ، وبين
- (1) تقدّمت في ص146 ـ 147 .
(الصفحة 172)
ما يكون مشكوك الحجّية . وقد مرّ(1) أنّ مقتضى حكم العقل بأصالة التعيين عند دوران الأمر بينه ، وبين التخيير في باب الحجّية ، هو الأخذ بالمعيّن ; لأنّ الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّية عليه .
ولا فرق فيما ذكر بين صورة إمكان الاحتياط وعدمه ، ولا بين صورة العلم بالمخالفة والشكّ فيها ، وذلك ـ لما مرّ سابقاً(2) ـ من عدم قصور أدلّة الحجّية في مثل المقام عن الشمول للمتعارضين ; لأنّ الحجّية المجعولة إنّما هي بنحو البدليّة لا الطبيعة السارية ، وما مرّ(3) أيضاً من عدم الفرق في تعيّن تقليد الأعلم بين ما إذا علم بالمخالفة أم لم يعلم بها ، فلا فرق بناءً على هذين المبنيين بين الموارد ، ومقتضى حكم العقل في جميعها تعيّن الرجوع إلى محتمل الأعلميّة .
نعم ، ربما يقال(4) بجريان استصحاب عدم الأعلميّة بالإضافة إلى من يجري فيه احتمالها ، فالحكم حينئذ هو التخيير ; لما عرفت(5) من أنّ حكم العقل بأصالة التعيين إنّما هو فيما إذا لم يجر أصل شرعيّ مقتض للتخيير ، وعدم لزوم الأخذ بخصوص الطرف الواحد .
وقد نوقش في جريانه تارة بأ نّه معارض باستصحاب عدم تحصيله قوّة مساوية لقوّة الآخر ، نظراً إلى أنّ قوّة الاجتهاد إنّما تكون على نحو الكلّي المشكّك ، ويكون الاختلاف بين المصاديق بالشدّة والضعف والكمال والنقص ، من دون
- (1) في ص 138 ـ 139 ، 158 .
-
(2) في 125 ـ 127 ، 141 ـ 142 و 154 .
-
(3) في ص140 ـ 161 .
-
(4) اُنظر رسالة في تقليد الأعلم للمحقّق الرشتي: 65 ـ 67 .
-
(5) في ص158 ـ 159 .
(الصفحة 173)
مسألة6: إذا كان الأعلم منحصراً في شخصين ولم يتمكّن من تعيينه، تعيّن الأخذ بالاحتياط ، أو العمل بأحوط القولين منهما على الأحوط مع التمكّن، ومع عدمه يكون مخيّراً بينهما 1.
أن يكون هناك تركّب في البين ، بحيث تكون القوّة الكاملة مركّبة من القوّة الناقصة مع الزيادة حتّى يكون أصل القوّة معلومة والزيادة مشكوكة يجري فيها الأصل ، بل الاختلاف إنّما هو بما ذكر من الكمال والنقص ، فاستصحاب عدم تحصيل القوّة الكاملة معارض باستصحاب عدم تحصيل القوّة الناقصة ; للعلم الإجمالي بوجود إحدى القوّتين وتحقّق إحدى الملكتين .
وأُخرى بأ نّه مثبت; لأ نّه لا يثبت به التساوي الذي هو الموضوع للحكم بالتخيير(1) .
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة : بأنّ استصحاب عدم الأعلميّة يكفي في نفي
لزوم الأخذ بفتواه وعدم تعيّنه ، ولا يلزم إثبات التساوي ; لعدم كون التساوي فقط موضوعاً للحكم بالتخيير ، فتدبّر .
1 ـ هذه المسألة تقييد لما أطلقه الماتن ـ دام ظلّه ـ في المسألة السابقة من الحكم بالتخيير فيما إذا لم يعلم الأعلم من الشخصين ، وكان كلّ واحد منهما محتمل الأعلميّة ، ومرجعها إلى أنّ التخيير المذكور هناك إنّما هو فيما إذا لم يتمكّن من الاحتياط ، إمّا لأجل عدم إمكانه بنفسه ، وإمّا لأجل عدم سعة الوقت للجمع بين الفتويين ، أو الأخذ بأحوطهما .
وأمّا مع التمكّن من الاحتياط ، أو العمل بأحوط القولين منهما ، فالمتعيّن بمقتضى
- (1) دروس في فقه الشيعة : 1/89 .
(الصفحة 174)
مسألة 7 : يجب على العامّي أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم، فإنْ أفتى بوجوبه لا يجوز له تقليد غيره في المسائل الفرعيّة، وإن أفتى بجواز تقليد غير الأعلم تخيّر بين تقليده وتقليد غيره . ولا يجوز له تقليد غير الأعلم إذا أفتى بعدم وجوب تقليد الأعلم. نعم، لو أفتى بوجوب تقليد الأعلم يجوز الأخذ بقوله، لكن لا من جهة حجّية قوله ، بل لكونه موافقاً للاحتياط 1.
الاحتياط اللازم عقلا هو الأخذ بالاحتياط ، أو العمل بأحوطهما ; وذلك لأنّ
انحصار الأعلم في شخصين يوجب العلم الإجمالي بوجود الفتوى التي هي حجّة في البين ، وهي فتوى الأعلم من المجتهدين ، وحيث لا سبيل له إلى الوصول إليها تفصيلا ، وتطبيق العمل عليها كذلك ، والمفروض تمكّنه من الأخذ بالاحتياط ، أو أحوط القولين ، فلابدّ له من الاحتياط المطابق للواقع قطعاً ، أو الأخذ بأحوط القولين غير المخالف لفتوى الأعلم كذلك .
وأمّا مع عدم التمكّن من شيء منهما ، فلا مناص عن التخيير ; لعدم ثبوت الترجيح في البين ، وعدم طريق له غير فتوى المجتهدين ، كما هو ظاهر .
1 ـ البحث في هذه المسألة يقع في أُمور :
الأمر الأوّل : أ نّه يجب على العامّي أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم ، وقد عرفت في المسألة السابقة المتعرّضة للبحث عن تقليد الأعلم : أنّ مسألة وجوب تقليد الأعلم لا تكون تقليديّة ، كأصل مسألة التقليد(1) ; بمعنى
أنّ الذي يحمل العامّي على الرجوع إلى الأعلم حينما يريد التقليد والرجوع
إلى الغير ، ليس إلاّ حكم عقله وإدراكه ، وإلاّ فالحامل له عليه لا يكاد يمكن
(الصفحة 175)
أن تكون فتوى المجتهد ، ولو كان أعلم بلزوم الرجوع إلى الأعلم ; للزوم الدور ، فتأمّل .
فإذا تعيّن عليه الرجوع إلى حكم عقله ، فإن احتمل تعيّن تقليد الأعلم واختصاص جواز الرجوع به ، فلا مناص له عن الرجوع إليه ; لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وحكم العقل بلزوم الاحتياط فيه بالأخذ بما يحتمل فيه التعيّن ; لأ نّه بالأخذ به لا يكون الضرر والعقاب محتملا أصلا ، وأمّا مع الرجوع إلى غير الأعلم يكون احتمال العقاب الذي يكون هو الموضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موجوداً ، فهذه القاعدة العقليّة تحكم عليه بلزوم الرجوع إلى الأعلم . وإن لم يحتمل تعيّن تقليد الأعلم ولم يقع في ذهنه احتمال تعيّنه أصلا ، بل حكم عقله بالتساوي ، فلا يكون هنا ملزم له على الرجوع إلى الأعلم ، بل يسوغ له أخذ فتوى غيره والرجوع إليه ، كما هو ظاهر .
الأمر الثاني : إذا رجع بمقتضى حكم عقله إلى الأعلم ، فتارة : يفتي الأعلم بوجوب تقليد الأعلم . وأُخرى : يفتي بجواز تقليد غيره .
ففي الصورة الأُولى : لا يجوز له تقليد غيره في المسائل الفرعيّة ، بل يجب عليه تطبيق العمل على فتاويه في جميع المسائل ، ولا وجه لجواز الرجوع إلى الغير في المسائل الفرعيّة أصلا ، كما هو واضح .
وفي الصورة الثانية: يتخيّر بين الأخذ بفتاوي الأعلم في تلك المسائل ، والأخذ بفتاوي غيره فيها ، ولا يسمّى ذلك عدولاً حتّى لا يجوز قطعاً ; لأنّه من العدول من الأعلم إلى غيره ، بل الأصل في فتوى غيره والأخذ بها إنّما هو تجويز الأعلم وفتواه ، ففي الحقيقة يكون مقلّداً للأعلم ومستنداً إليه ، فلا وجه لتحقّق العدول كما هو ظاهر .