(الصفحة 168)
والمخالفة للعلم الإجمالي بوجود الأعلم في البين ، ومعه لا مانع من جريانه من هذه الحيثيّة ; لعدم وجود العلم الإجمالي ، إلاّ أ نّه لا يترتّب عليه ثمرة ; لأنّ الحكم بالتساوي الذي هو حكم العقل إنّما يكون موضوعه مجرّد جريان احتمال الأعلميّة في كلا المجتهدين ، فلا حاجة إلى إثبات التساوي بالاستصحاب ، وهذا نظير حكم العقل بلزوم الإتيان بالواجب الذي شكّ في الإتيان به وتحقّق الفراغ عن عهدته ; فإنّ مجرّد الشكّ يكفي في حكم العقل بالاشتغال ، ولا حاجة إلى إثبات عدم الإتيان بالاستصحاب ، كما هو غير خفيّ .
المقام الرابع : فيما إذا كان المجتهدان متساويين في العلم ، ولكنّه كان أحدهما المعيّن أورع أو أعدل ، وقد حكم في المتن بأنّ الأولى الأحوط اختياره ، ومرجعه إلى عدم تعيّنه ; لعدم كون الاحتياط بنحو الوجوب ، ولكنّه ربما يقال بأ نّه يجب على المكلّف العامّي اختياره ، وأنّ الأورعيّة مرجّحة مثل الأعلميّة ، بل يظهر من العروة(1) قيام الدليل على مرجّحيّة الأورعيّة ، واقتضاء حكم العقل بالاحتياط مرجّحيّة الأعلميّة ، وعليه : فتكون الأورعيّة أقوى من الأعلميّة ، وكيف كان ،
فما يمكن أن يستدلّ به على مرجّحية الأورعيّة اُمور :
أحدها : المقبولة وما يشابهها من الروايات الواردة في باب القضاء ، الدالّة على الترجيح بالأورعيّة ، ففي المقبولة : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما
في الحديث وأورعهما(2) .
والجواب : ما عرفت من ورودها في باب القضاء وفصل الخصومة(3) ، ولم يقم
- (1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 13 .
-
(2) تقدّمت في ص 146 .
-
(3) في ص147 ـ 151 .
(الصفحة 169)
دليل على أنّ كلّ ما هو مرجّح هناك فهو مرجّح في باب التقليد والفتوى ، ولا مجال لإلغاء الخصوصيّة بعد كون غرض الشارع في ذلك المقام هو فصل الخصومة وقطعها ، بحيث لا يبقى نزاع بين المؤمنين الذين هم إخوة ويد واحدة ، ولا مجال فيه للتوقّف أو التخيير أو أشباههما ، وهذا بخلاف باب التقليد الذي مناطه رجوع الجاهل إلى العالم ، وأخذ العامي بالحجّة فراراً عن الاحتياط اللازم بحكم العقل ، وهذا لا ينافي التخيير بوجه .
مع أنّ ظاهر المقبولة كون الأوصاف الأربعة مرجّحة في حال الاجتماع ، لا كون كلّ واحد مرجّحاً مستقلاًّ ، فالاستدلال بمثل ذلك ممّا ليس له مجال .
ثانيها : دعوى الإجماع على أنّ العامي لا يجب عليه الاحتياط ، بل يجوز له أن يستند في أعماله مطلقاً إلى فتوى من يجوز تقليده من المجتهدين (1).
وقد اُورد عليها بأنّ الإجماع المدّعى إن قلنا بأ نّه تامّ في نفسه فلا مناص من أن تكون الأورعيّة مرجّحة في المقام ; لأنّ العامي مكلّف بالرجوع إلى أحد المجتهدين المتساويين في الفضيلة ، فإذا كان أحدهما أورع ـ كما هو الفرض ـ دار الأمر بين أن تكون فتوى كلّ منهما حجّة تخييريّة وأن تكون فتوى الأورع حجّة تعيينيّة ، وقد مرّ أنّ الأمر في الحجّية إذا دار بين التعيين والتخيير يجب الأخذ بما يحتمل تعيّنه ، وإن قلنا بأ نّه غير تامّ ـ كما هو كذلك ـ فلا مجال لمرجّحيّة الأورعيّة أصلا (2).
ويمكن الجواب عن هذا الإيراد بأنّ الإجماع على تقدير تماميّته لا يقتضي مرجّحيّة الأورعيّة ، بل المقتضي لها ـ كما ذكر ـ إنّما هو حكم العقل بوجوب الأخذ
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل: 48 ـ 49، مستمسك العروة الوثقى: 1 / 21.
-
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 175 .
(الصفحة 170)
بما يحتمل تعيّنه ، فهذا الحكم العقلي لا ارتباط له بالإجماع ; فإنّ غاية مفاده هو عدم وجوب الاحتياط ، وهو يجتمع مع التخيير في المورد المفروض ، إلاّ أن يقال بتركّب الدليل من الإجماع على عدم وجوب الاحتياط ، وحكم العقل بالتعيين عند الدوران بينه وبين التخيير . وعليه : فيتّحد مع الدليل الثالث ; لأنّ مبناه عدم وجوب الاحتياط .
ثالثها : ـ وهو العمدة ـ حكم العقل بلزوم الأخذ بما يحتمل تعيّنه عند دوران أمر الحجّية بين التعيين والتخيير ، كما مرّ مراراً(1) .
وناقش في هذا الدليل بعض المحقّقين بأنّ قياس الأورعيّة بالأعلميّة قياس مع الفارق ; لأنّ احتمال التعيين في الثاني مستند إلى أقوائيّة الملاك في الأعلم عن الملاك في غيره ; لأنّ الملاك في حجّية الفتوى والنظر هو العلم والفقاهة ، وأمّا الأوّل فاحتمال التعيين فيه مستند إلى أمر خارج عن الملاك ، ولا يقتضي الأصل فيه التعيين ; لتساويهما فيما هو ملاك الحجّية الذي هو العلم ، ومجرّد أورعيّة أحدهما لادخالة فيه فيما هو الملاك أصلا(2) .
ويرد عليه : أ نّه إن كان المراد من ذلك أ نّه لا يجري احتمال الترجيح بالإضافة إلى الأورع ، بل يقطع بعدم المزيّة للأورعيّة ، نظراً إلى تساوي الملاك فيهما ، فهو خارج عن محلّ الكلام ; لأنّ المفروض صورة جريان هذا الاحتمال وعدم القطع بالعدم . وإن كان المراد أ نّه مع جريان هذا الاحتمال نظراً إلى احتمال أن يكون الشارع
قد جعل للأورع مزيّة ورجحاناً ـ وإن كان بحسب نظر العقلاء وملاك سيرتهم
- (1) في ص138 ـ 139 ، 158 .
-
(2) بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 64 ـ 65 .
(الصفحة 171)
لادخالة فيه أصلا ; لأنّ الملاك عندهم مجرّد رجوع الجاهل إلى العالم من دون مدخليّة لخصوصيّة أُخرى ، إلاّ أنّا نعلم بأنّ الشارع اعتبر بعض الخصوصيّات غير المعتبرة عند العقلاء ; كالعدالة والحرّية والرجوليّة على خلاف في بعضها . وحينئذ نحتمل أنّ خصوصيّة الأورعيّة كانت دخيلة في مقام الترجيح عند الشارع ، خصوصاً مع ملاحظة دخالتها في الترجيح في باب القضاء كما في المقبولة(1) ، ومع ذلك لا يكون مرجّحاً عند ذلك البعض .
فنقول : إ نّه لا محيص حينئذ عن الأخذ بخصوص فتوى الأورع ; لأنّها حجّة قطعاً ، وفتوى غيره مشكوكة الحجّية . فلم يبق فرق حينئذ بين المقام ، وبين مسألة تقليد الأعلم في المقام الأوّل .
فالإنصاف أنّ مقتضى حكم العقل من باب الاحتياط بلزوم الأخذ بالمعيّن ; هو لزوم الأخذ بخصوص فتوى الأورع ، كلزوم الأخذ بخصوص فتوى الأعلم . غاية الأمر قيام الدليل على التعيّن في الثاني ، واقتضاء أصالة التعيين العقليّة له في الأوّل ، عكس ما اختاره صاحب العروة(قدس سره) ، ولا يعرف وجه ـ لما أفاده ـ ممّا مرجعه إلى أقوائيّة مرجّحيّة الأورعيّة بالإضافة إلى الأعلميّة ، كما أ نّه لا وجه لما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ دام ظلّه ; لأنّ حكم العقل بالاحتياط في مسألة الأعلم يجري بعينه في هذه المسألة ، من دون فرق بينهما .
المقام الخامس : فيما إذا تردّد الأمر بين شخصين يحتمل أعلميّة أحدهما المعيّن دون الآخر ، وقد حكم في المتن بتعيّن تقليد محتمل الأعلميّة على نحو الاحتياط اللزومي ، والحقّ كما أفاده ; لدوران الأمر بين ما يكون مقطوع الحجّية ، وبين
- (1) تقدّمت في ص146 ـ 147 .
(الصفحة 172)
ما يكون مشكوك الحجّية . وقد مرّ(1) أنّ مقتضى حكم العقل بأصالة التعيين عند دوران الأمر بينه ، وبين التخيير في باب الحجّية ، هو الأخذ بالمعيّن ; لأنّ الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّية عليه .
ولا فرق فيما ذكر بين صورة إمكان الاحتياط وعدمه ، ولا بين صورة العلم بالمخالفة والشكّ فيها ، وذلك ـ لما مرّ سابقاً(2) ـ من عدم قصور أدلّة الحجّية في مثل المقام عن الشمول للمتعارضين ; لأنّ الحجّية المجعولة إنّما هي بنحو البدليّة لا الطبيعة السارية ، وما مرّ(3) أيضاً من عدم الفرق في تعيّن تقليد الأعلم بين ما إذا علم بالمخالفة أم لم يعلم بها ، فلا فرق بناءً على هذين المبنيين بين الموارد ، ومقتضى حكم العقل في جميعها تعيّن الرجوع إلى محتمل الأعلميّة .
نعم ، ربما يقال(4) بجريان استصحاب عدم الأعلميّة بالإضافة إلى من يجري فيه احتمالها ، فالحكم حينئذ هو التخيير ; لما عرفت(5) من أنّ حكم العقل بأصالة التعيين إنّما هو فيما إذا لم يجر أصل شرعيّ مقتض للتخيير ، وعدم لزوم الأخذ بخصوص الطرف الواحد .
وقد نوقش في جريانه تارة بأ نّه معارض باستصحاب عدم تحصيله قوّة مساوية لقوّة الآخر ، نظراً إلى أنّ قوّة الاجتهاد إنّما تكون على نحو الكلّي المشكّك ، ويكون الاختلاف بين المصاديق بالشدّة والضعف والكمال والنقص ، من دون
- (1) في ص 138 ـ 139 ، 158 .
-
(2) في 125 ـ 127 ، 141 ـ 142 و 154 .
-
(3) في ص140 ـ 161 .
-
(4) اُنظر رسالة في تقليد الأعلم للمحقّق الرشتي: 65 ـ 67 .
-
(5) في ص158 ـ 159 .