(الصفحة 98)
الإمامي ، مع أنّ اعتبار هذين الوصفين مخالف للاجماع القطعي ; لأنّ غاية ما هناك اعتبار الإيمان بل العدالة كما سيجيء . وأمّا كونه مسنّاً في الحبّ وله قدم كثير في أمرهم فلا يكون بمعتبر قطعاً ، مع أنّ صدر الرواية يدلّ على اعتبار الوصفين وذيلها على كفاية وصف واحد ، فلا تخلو عن شبه مناقضة ، فتأمّل .
فانقدح أنّ الدليل على اعتبار الإيمان هو الإجماع الكاشف بضميمة ما يدلّ على اعتبار العدالة ، فإنّ اعتبارها لا ينفكّ عن اعتبار الإيمان كما هو ظاهر .
الرابع : العدالة ، واعتبارها في المفتي الذي يرجع إليه للتقليد لا يكاد يستفاد من شيء من الأدلّة الواردة في باب التقليد وحجّيّة فتوى المجتهد ; لعدم دلالة الأدلّة اللفظية على اعتبارها وعدم التعرّض لها ، والسيرة العقلائيّة التي هي العمدة في الباب غايتها إفادة اشتراط الوثاقة ; فإنّه وإن كان ملاكها رجوع الجاهل إلى العالم ، إلاّ أ نّه حيث يكون الغرض من الرجوع رفع الجهل والوصول إلى الواقع ، وهذا لا يتحقّق مع عدم الوثاقة والاعتماد ، فلا محالة تكون الوثاقة معتبرة ، وأمّا الزائد عليها فلا .
وقد استدلّ على اعتبار العدالة ـ مضافاً إلى الإجماع بالنحو الذي عرفت في اعتبار الإيمان(1) ـ برواية الاحتجاج ـ الطويلة المتقدّمة(2) في أدلّة حجّية فتوى المجتهد ـ عن أبي محمّد العسكري(عليه السلام) ، المشتملة على قوله(عليه السلام) في الذيل : «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم ، الحديث .
- (1) في ص95 ـ 96.
-
(2) في ص82 ـ 83.
(الصفحة 99)
والكلام في هذه الرواية تارة : من حيث السند ، وأُخرى : من جهة الدلالة .
أمّا من الجهة الأُولى : فقد روى الصدوق عن محمّد بن القاسم الأسترابادي ـ مشافهة من غير واسطة ـ التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمّد العسكري(عليه السلام)(1) ، وأكثر من النقل عنه في أغلب كتبه الموجودة بأيدينا(2) ، واعتمد على ما فيه ، وتبعه على ذلك جملة من الأساطين، كصاحب الاحتجاج(3) وصاحب الخرائج(4)، وابن شهرآشوب صاحب المناقب في مواضع عديدة(5) ، والمحقّق الكركي(6) ، والشهيد الثاني(7) ، والمجلسيّين(8) .
ولكنّه ضعّف العلاّمة في «الخلاصة» محمّد بن القاسم بقوله : ضعيف ، كذّاب روى ـ يعني الصدوق ـ عنه تفسيراً يرويه عن رجلين مجهولين : أحدهما يُعرف بيوسف ابن محمّد بن زياد ، والآخر علي بن محمّد بن سيار ، عن أبيهما ، عن أبي الحسن الثالث(عليه السلام)، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي، عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير(9) (10).
- (1) التفسير المنسوب إلى أبي محمّد العسكري(عليه السلام) : 9 .
-
(2) كالفقيه: 2/211 ح967 والأمالي: 439 ح580 و علل الشرائع: 416 ب157 ح3، عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 1/266 ب27 ح1.
-
(3) الاحتجاج: 1/7 رقم.
-
(4) الخرائج والجزائج: 2/519 ح28.
-
(5) المناقب لابن شهرآشوب: 1/92.
-
(6) بحار الأنوار: 108/78 ـ 79.
-
(7) منية المريد: 23 وما بعده وبحار الأنوار: 108/169 ـ 170.
-
(8) روضة المتقين: 14/250، بحار الأنوار: 1/28 و 70 ـ 73 .
-
(9) خلاصة الأقوال : 404 .
-
(10) خاتمة مستدرك الوسائل: 5/186 ـ 192 .
(الصفحة 100)
قال المحدّث النوري في خاتمة المستدرك بعد نقل هذه العبارة : ولم يسبقه فيما بأيدينا من الكتب الرجالية والحديث أحد سوى الغضائري ، ولم يلحقه أيضاً أحد سوى المحقّق الداماد . ثمّ ذكر عين عبارته وأورد عليه ما أورده المحقّقون من الطعن ، ثمّ ذكر في ذيل كلامه أسامي جماعة من المعتمدين على هذا التفسير ، كالاُستاذ الأكبر في التعليقة ، والمجلسيّين والحرّ العاملي والمحدّث الجزائري وجمع آخر ، واختار هو أنّ التفسير داخل في جملة الكتب المعتمدة(1) .
أقول : محصّل الإشكال في هذا المجال تارة : من جهة ضعف محمّد بن القاسم الأسترابادي وجهالة الرجلين اللذين رواه عنهما ، وأُخرى : من جهة أ نّه حكي عن صاحب المناقب في معالم العلماء أنّ الحسن بن خالد البرقي أخا محمّد بن خالد من كتبه تفسير العسكري من إملاء الإمام(عليه السلام) مائة وعشرين مجلّداً(2) . مع أنّ التفسير الموجود بأيدينا مجلّد واحد مشتمل على تفسير سورة الفاتحة وبعض سورة البقرة .
ويمكن دفع الإشكال من الحيثيّة الأُولى بأنّ اعتماد الصدوق عليه وإكثار نقله عنه في كتبه المتعدّدة يكفي في توثيقه ، وتضعيف الخلاصة مستند إلى الغضائري الذي اشتهر ضعف تضعيفاته ، والرجلان اللذان روى عنهما قد حكي عن الطبرسي التصريح بأنّهما من الشيعة الإماميّة(3) .
ومن الحيثيّة الثانية بأنّ الظاهر كون التفسير الموجود جزءاً من ذلك التفسير الكبير لا مغائراً له ; فإنّ ابن شهرآشوب الذي هو الأصل في النسبة إلى البرقي ينقل
- (1) خاتمة مستدرك الوسائل: 5/186 ـ 200.
-
(2) معالم العلماء : 34 رقم 189 .
-
(3) الاحتجاج: 1/7 رقم2، والحاكي هو الشيخ النوري في خاتمة مستدرك الوسائل : 5/195.
(الصفحة 101)
في مناقبه عن التفسير الموجود الذي رواه الأسترابادي ، فيظهر من ذلك عدم انحصار السند بالأسترابادي ، ومع ذلك كلّه فلا يحصل للنفس اطمئنان بالكتاب المذكور ، خصوصاً مع ملاحظة اشتماله على ما لا يوجد في غيره من المعاجز الغريبة والقصص الطويلة .
وأمّا من جهة الدلالة : فربما يقال كما قيل بأنّ الرواية لا تدلّ على اعتبار أزيد من الوثاقة ; لأنّها وردت في مقام بيان ما هو الفارق بين عوامنا وعوام اليهود في تقليدهم علماءهم ، نظراً إلى أنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح ، وأكل الحرام والرشا ، وتغيير الأحكام ، والتفتوا إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله ، ومع هذا قلّدوهم، فلذلك ذمّهم الله ، ثمّ بيّن(عليه السلام) أنّ عوامنا أيضاً كذلك إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ، والعصبيّة الشديدة ، والتكالب على الدنيا وحرامها ، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود «فأمّا من كان من الفقهاء» الخ ، فحاصل كلامه(عليه السلام) : أ نّه إنّما يجوز ممّن هو مورد الوثوق ومأمون عن الخيانة والكذب ، ولا دلالة له على اعتبار أزيد من الوثاقة بوجه(1) .
ولكنّه يرد على هذا القول بأنّ صدر الرواية وإن كان في مقام مذمّة اليهود ومذمّة عوامنا إذا كانوا مثل عوامهم ، إلاّ أنّ ذيلها وهو قوله(عليه السلام) : «فأمّا من كان من الفقهاء» الخ ، في مقام إفادة ضابطة كلّية وقاعدة عامّة لمورد جواز التقليد ، ومن الواضح أنّ القيود المأخوذة في هذه الضابطة لا تكاد تنطبق على أقلّ من العدالة المصطلحة ، ومع ملاحظة هذا الذيل المشتمل على الضابطة لا محيص عن الالتزام
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 222 ـ 223.
(الصفحة 102)
باعتبار العدالة ; لعدم المنافاة بينه وبين صدره الوارد في مقام مذمّة اليهود ومذمّة عوامنا إذا كانوا مثلهم ، كما هو ظاهر .
ثمّ إنّه ربما يستدلّ على اعتبار العدالة ـ المستلزم لاعتبار العقل والإيمان بل البلوغ أيضاً ـ بأنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة الواصل ذلك إليهم يداً بيد عدم رضى الشارع بزعامة من لا عدالة له ، فضلا عمّن لا إيمان له أو لا عقل له ; فإنّ المرجعيّة في التقليد من أعظم المناصب الإلهيّة بعد الولاية ، وكيف يرضى الشارع الحكيم أن يتصدّى لمثلها من لا قيمة له لدى العقلاء والشيعة المراجعين إليه ، خصوصاً بعد ملاحظة عدم رضى الشارع بإمامة من هو كذلك في الجماعة ، حيث اشترط في إمام الجماعة العدالة ، فما ظنّك بالزعامة العظمى التي هي من أعظم المناصب بعد الولاية(1) .
ومرجع هذا الوجه إلى الأولويّة القطعيّة بالإضافة إلى اعتبار العدالة في الزعامة والمرجعيّة ، التي هي الفضيلة المتوسّطة بين منصب الولاية ، الذي يعتبر فيه العصمة ، وبين منصب الإمامة للجماعة الذي لا يكفي فيه أقلّ من العدالة المصطلحة ، فإذا كانت العدالة معتبرة فيه قطعاً ، فاعتبارها في المنصب الذي هو فوق هذا المنصب بدليل اعتبار الاجتهاد وملكة الاستنباط بطريق أولى .
لا يقال : الأولويّة ممنوعة ، والسند عدم اعتبار العدالة في الراوي الذي هو مستند المجتهد باعتبار روايته في الوصول إلى الحكم واستنباطه ، فإذا كان مجرّد الوثاقة كافياً في الراوي كما هو الحقّ ففي المجتهد أيضاً كذلك ، ويؤيّده عدم اعتبار أزيد من الوثاقة في السيرة العقلائيّة التي هي الأساس في باب التقليد ورجوع
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 223