(الصفحة 224)
ثالثها : ما ذكره في المتن بقوله : «ولا إلى حيّ آخر كذلك إلاّ إلى أعلم منه ; فإنّه يجب على الأحوط» ، والمقصود أنّه بعد ما رجع عن الميّت إلى الحيّ لا يجوز له العدول عن الحيّ إلى حيّ آخر احتياطاً ، إلاّ إذا كان أعلم من الحيّ الأوّل ; فإنّه يجب العدول إليه احتياطاً ، وقد ظهر ممّا ذكرنا وجه ما أفاده ، كما أنّه ظهر أنّ المختار جواز العدول في المستثنى منه إذا كانا متساويين ، ووجوبه في المستثنى بنحو الفتوى .
رابعها : أنّه لابدّ وأن يكون البقاء على تقليد الميّت مستنداً إلى فتوى الحيّ الذي يفتي بجواز ذلك ، بحيث لو بقي على تقليد الميّت من دون الرجوع إلى الحيّ كان كمن عمل من غير تقليد ، وهذا إنّما هو فيما إذا احتمل المكلّف العامّي ارتفاع الحجّية عن الفتوى بالموت حتّى يجب عليه الرجوع إلى العالم . وأمّا لو فرض ثبوت القطع له ببقاء الحجّية ، لا يبقى مجال للرجوع إلى الحيّ في ذلك كما هو واضح ، كما أ نّه ربما يكون الحامل له على الرجوع إلى الحيّ فتوى المجتهد الميّت بأ نّه يعتبر في البقاء الرجوع إلى الحيّ ; فإنّه مع ملاحظة هذه الفتوى ، إذا أراد البقاء لابدّ وأن يرجع إلى الحيّ ; لأنّ لازم البقاء على تقليد الميّت في جميع فتاواه ـ التي منها اعتبار الرجوع إلى الحيّ في البقاء ـ الرجوع إلى الحيّ ، وهو ظاهر .
(الصفحة 225)[وجوب العمل بفتوى الحيّ في البقاء على تقليد الميّت]
مسألة14: إذا قلّد مجتهداً ثمّ مات ، فقلّد غيره ثمّ مات ، فقلّد في مسألة البقاء على تقليد الميّت من يقول بوجوب البقاء أو جوازه، فهل يبقى على تقليد المجتهد الأوّل ، أو الثاني؟ الأظهر البقاء على تقليد الأوّل إن كان الثالث قائلا بوجوب البقاء، ويتخيّر بين البقاء على تقليد الثاني ، والرجوع إلى الحيّ إن كان قائلا بجوازه 1.
1 ـ المفروض في هذه المسألة ما إذا لم يكن المجتهد الثاني ـ الذي قلّده بعد موت الأوّل ـ قائلا بوجوب البقاء على تقليد الميّت ; لأنّ الظاهر أنّ المراد من تقليده إيّاه هو تقليده في جميع المسائل ، لا خصوص مسألة البقاء على تقليد الميّت ، والقول بعدم وجوب البقاء وإن كان يجتمع مع القول بحرمة البقاء ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ المراد غير هذه الصورة ، فينحصر في القول بالجواز .
وجه الظهور : أنّ الظاهر كون المراد من تقليد الثاني هو تقليده اختياراً ، بحيث كان للمكلّف العامّي الرجوع إليه وتقليده ، وكان له البقاء على تقليد الأوّل ، وقد اختار المقلّد الشقّ الأوّل ، فالمفروض في العبارة ظاهراً هو : ما إذا كان الثاني قائلا في مسألة البقاء بجوازه ، ولكنّه لا مانع من توسعة دائرة البحث والتكلّم فيما إذا كان قائلا بالحرمة أيضاً ، فهنا فرضان :
الفرض الأوّل : ما إذاكان المجتهد الثاني قائلا بجواز البقاء ، واختار المكلّف عدمه والرجوع إلى الحيّ في سائر المسائل، وقد مرّ أ نّه المقصود من العبارة، وفيه صورتان:
(الصفحة 226)
إحداهما : ما إذا كان المجتهد الثالث أيضاً قائلا بالجواز .
والأُخرى : ما إذا كان الثالث قائلا بالوجوب .
أمّا الصورة الأُولى : فلا إشكال فيها في جواز البقاء على تقليد الثاني في سائر المسائل ; لأنّ المفروض أنّ المكلّف قد قلّده بعد موت الأوّل ، والثالث الحيّ قائل بجواز البقاء على تقليد الميّت ، فيجوز له البقاء على تقليد الثاني بعد موته ، كما أ نّه يجوز له الرجوع إلى الثالث بلا ريب . وأمّا جواز البقاء على تقليد الأوّل ، فيبتني على ملاحظة أنّ فتوى الثالث بجواز البقاء ، هل يجوز أن تشمل البقاء على تقليد الميّت في مسألة جواز البقاء ، كما تشمل سائر المسائل ، أم لا يمكن شمولها له ؟
فعلى تقدير الإمكان لا مانع من البقاء على تقليد الأوّل ; لأ نّه يجوز للمكلّف استناداً إلى فتوى الثالث الحيّ البقاء على تقليد الثاني في جميع المسائل التي منها مسألة البقاء ، التي حكم الثاني فيها بالجواز ، كما أ نّه على تقدير عدم الإمكان لا مجال له للبقاء ; لأنّ البقاء على الأوّل يصير بلا مستند ; لأنّ المفروض أنّ فتوى الثالث لا تشمل مسألة البقاء . وفتوى الثاني وإن كانت هي الجواز ، لكنّه حيث اختار المكلّف عدمه والرجوع إليه ، يكون البقاء على الأوّل حينئذ عدولا ، كما إذا
أراد العدول إلى الأوّل في حياة الثاني ، وقد مرّ عدم جواز هذا النحو من العدول(1) .
والظاهر عدم إمكان الشمول ، من دون فرق بين ما إذا كان نظر الثاني والثالث متّحداً فيما هو الموضوع للحكم بالجواز ، ومتّفقاً من حيث الإطلاق والتقييد أم لا ، ومن دون فرق أيضاً في صورة الاختلاف من هذه الجهة ، بين ما إذا كان نظر الثالث أوسع من الثاني ، كما إذا كان البقاء جائزاً عنده مطلقاً ولو فيما لم يعمل به من
(الصفحة 227)
المسائل ، أو لم يتعلّم ، وكان جواز البقاء عند الثاني مقيّداً بما إذا عمل مثلا ، وبين ما إذا كان نظر الثاني أوسع من الثالث .
والدليل على عدم الشمول أمران :
أحدهما : اللغويّة وتحصيل الحاصل ; وذلك لأنّ شمول فتوى الثالث الحيّ بجواز البقاء لفتوى الثاني الميّت بالجواز لا يترتّب عليه أيّ فائدة ; لأنّ الشمول إن كان بلحاظ استفادة الجواز في نفس هذه المسألة ، فمن الواضح أ نّه بعد حكم الحيِّ بالجواز لا حاجة إلى استفادة الجواز من فتوى غيره أيضاً ، وإن كان بلحاظ استفادة الجواز بالإضافة إلى سائر المسائل الفرعيّة ، فمن الواضح أنّها أيضاً لا تحتاج إلى الحكم بالجواز ثانياً ; لأنّ فتوى الحيّ بالجواز صارت موجبة لاتّصاف فتوى الميّت فيها بالحجّية ، فلا تفتفر إلى الاتّصاف بالحجّية ثانياً من طريق فتوى الميّت بجواز البقاء ، التي صارت حجّة لأجل فتوى الحيّ بالجواز ، بل لا يعقل ذلك ; لأنّ الحجّية بعد الحجّيّة ، والمنجّزيّة بعد المنجّزيّة ، والمعذّريّة بعد المعذّريّة غير معقولة .
وهذا فيما إذا كان النظران متّحدين ، أو كان نظر الحيّ أوسع واضح . وأمّا مع كون نظر الميّت أوسع بحيث كان الجواز عند الحيّ مقيّداً بصورة العمل مثلا ، والمفروض أ نّه لم يعمل بجميع المسائل ، فالوجه في عدم الشمول ـ مضافاً إلى ما ذكر ـ عدم تحقّق العمل بفتوى الميّت في هذه المسألة ; لأنّ المفروض أ نّه لم يبق على تقليد المجتهد الأوّل حتّى يكون بقاؤه عليه عملا بفتوى الثاني بالجواز .
ودعوى أنّ الرجوع إلى الثاني وتقليده أيضاً عمل بفتواه بالجواز في مسألة البقاء ; لأنّ اختيار أحد الطرفين لا يوجب عدم تحقّق العمل بوجه ، مدفوعة بأ نّه يكون كذلك إذا كان مختاره الطرف الآخر ; وهو البقاء الذي لا يجتمع مع الحكم
(الصفحة 228)
بالحرمة . وأمّا إذا كان مختاره الرجوع إلى الثاني وتقليده إيّاه في المسائل ، فلا يعدّ هذا عملا بفتواه بالجواز ؟ ضرورة أنّ الرجوع إليه يجتمع مع الحكم بالحرمة أيضاً ، فكيف يكون عملا بالجواز ؟! فتدبّر جيّداً .
ثانيهما : استحالة أخذ الحكم في موضوع نفسه ; نظراً إلى أنّ جواز البقاء ـ الذي هو حكم ـ كيف يعقل أن يؤخذ في موضوع نفسه ، ويقال بأ نّه يجوز البقاء في جواز البقاء ؟
ودعوى أنّ المستحيل إنّما هو أن يؤخذ حكم في موضوع شخصه ، نظراً إلى أنّ مرجعه إلى كون الحكم مفروض التحقّق حين جعله وإنشائه . وأمّا في مثل المقام فلا مانع منه ، نظراً إلى أ نّه لا مانع من أن تكون حجّية فتوى الميّت بجواز البقاء مترتّبة على حجّية فتوى الحيّ به ; لأنّهما فتويان .
مدفوعة جدّاً بأ نّه ليس البحث في حجّية فتوى الحيّ ، بل في إمكان شمول فتواه ـ التي لا إشكال في حجّيتها ـ لفتوى الميّت بجواز البقاء ، ومن المعلوم أنّ جواز البقاء ليس إلاّ حكماً واحداً . غاية الأمر اتّحادهما في هذا الحكم واتّفاقهما في هذه الفتوى ، فكيف يعقل حينئذ أن يصير الحكم موضوعاً في نفسه ، بحيث يصير جواز البقاء ظرفاً ومتعلّقاً لنفس جواز البقاء ؟ كما هو ظاهر .
ولعلّه لما ذكرنا اختار سيّدنا العلاّمة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ في المتن : أنّ العامّي مخيّر بين أن يبقى على تقليد الثاني ، وبين أن يرجع إلى الثالث الحيّ فيما إذا كان قائلا بجواز البقاء ، وقد عرفت أنّ الظاهر كون المفروض في العبارة ما إذا كان الثاني أيضاً قائلا بالجواز ، ولازم ما أفاده عدم جواز البقاء على تقليد الأوّل في هذه الصورة بوجه .
وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا كان الثالث قائلا بالوجوب ، وقد اختار ـ دام ظلّه ـ في هذه الصورة تعيّن البقاء على تقليد الأوّل ، والوجه فيه : أنّ رجوعه إلى