(الصفحة 122)
الرواية حكم المقام نفياً وإثباتاً .
وقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ الحكم بالتخيير في المجتهدين المتساويين ـ نظراً إلى الإجماع وثبوت السيرة ـ ممّا لا مجال للمناقشة فيه أصلا .
نعم ، يبقى الكلام في معنى الحجّية التخييريّة ، فنقول :
ذكر بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريراته ـ أنّ الحجّيّة التخييريّة ممّا لا يعقل في مقام الثبوت ، ومحصّل ما أفاده في وجهه أ نّه يحتمل فيها وجوه أربعة :
أحدها : جعل الحجّية التخييريّة ; بمعنى جعل الحجّية على هذا وذاك ; وهو مسلتزم للجمع بين الضدّين أو النقيضين ; لأنّ مرجعه إلى أنّ الشارع قد اعتبر المكلّف عالماً بالحرمة وعالماً بعدمها ، أو عالماً بحرمة شيء وعالماً بوجوبه ، ولأجله لا تشمل أدلّة الحجّيّة لشيء من الفتويين .
ثانيها : جعلها بمعنى جعل الحجّيّة على الجامع بين الفتويين ; وهو عنوان أحدهما الذي هو عنوان انتزاعيّ ، وهو أيضاً غير معقول في المقام وإن كان متصوّراً في غيره ، ولأجله التزمنا في الواجبات التخييريّة بأنّ التكليف فيها إنّما تعلّق بعنوان أحدهما ، وأنّ الفعل المأتيّ به في الخارج فرد للواجب ومصداق له ، لا أ نّه الواجب بنفسه .
وجه عدم المعقوليّة في خصوص المقام ; أنّ مرجعه إلى ما ذكرنا من اعتبار المكلّف عالماً بالنقيضين أو الضدّين ، وهو غير متصوّر . مضافاً إلى أ نّه لو سلّم التصوّر في مقام الثبوت فلا ينبغي الترديد في عدم إمكانها بحسب الإثبات ; لأنّ الأدلّة لا تساعدها بوجه ; لأنّ مقتضاها حجّيّة فتوى كلّ فقيه متعيّنة لا حجّيّة إحدى الفتاوى .
(الصفحة 123)
ثالثها : جعلها بمعنى جعل الحجّيّة على كلّ منهما مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر ، ليكون كلّ منهما حجّة تعيينيّة مشروطة بعدم الأخذ بالآخر ، وهو أيضاً كسابقه ; فإنّ مثل ذلك وإن كان متصوّراً في باب التكاليف ; لأ نّه من الترتّب من الجانبين ، وهو يلازم في الجواز مع الترتّب من جانب واحد ، إلاّ أنّ ذلك في الحجّيّة غير معقول ; لأنّ لازمه اتّصاف كلّ منهما بالحجّيّة الفعليّة إذا ترك المكلّف الأخذ بهما معاً ; لحصول شرط حجّيّة كلّ واحدة منهما ، وجعل الحجّيّة على كلتيهما مستلزم للمحال كما ذكر .
رابعها : جعلها بمعنى جعلها على كلّ منهما مشروطاً بالأخذ به ، وهذا أمر معقول بحسب مقام الثبوت ، ولا يترتّب عليه المحذور المتقدّم ، إلاّ أنّه لا دليل عليه في مرحلة الإثبات ; لأنّ ما دلّ على حجّية فتوى الفقيه لا يكون مقيّداً بالأخذ بها ، وعليه : فمقتضى إطلاقها وشمولها لكلتيهما هو الجمع بين النقيضين أو الضدّين كما عرفت(1) ، انتهى ملخّصاً .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم انطباق الدليل على المدّعى ; لأنّ المدّعى هو عدم معقوليّة الحجّية التخييريّة في مقام الثبوت بوجه ، والدليل المشتمل على بيان الاحتمالات يدلّ على ثبوت المعقوليّة في هذا المقام على بعض الوجوه والاحتمالات ; وهو الاحتمال الرابع كما صّرح به ـ :
أوّلا : أنّ عدم مساعدة الأدلّة بحسب مقام الإثبات مع تسليم التصوّر في مقام الثبوت ، إنّما يتمّ لو كان الدليل على الحجّية التخييريّة هي الإطلاقات الواردة في أصل مسألة التقليد الدالّة على حجّية الفتوى ، وجواز الرجوع إلى المفتي . وأمّا
- (1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 168 ـ 170 .
(الصفحة 124)
لو كان الدليل هو الإجماع القائم في خصوص المقام على التخيير ، أو السيرة العمليّة الجارية عليه في مثل المقام ، فلا مجال لهذه الدعوى أصلا ، وقد عرفت تماميّتهما ، وأنّ المستند للقول بالتخيير إنّما هو الإجماع والسيرة لا الإطلاقات .
وثانياً : أنّه يمكن أن يقال بالفرق بين حال التعارض في مثل المقام ، وبين حاله في مثل الخبرين ، نظراً إلى أنّ الطبيعة في حجيّة خبر الثقة إنّما أُخذت بنحو الوجود الساري ; لأنّ كلّ فرد من أفراد طبيعة الخبر مشمول لدليل الحجّيّة تعييناً ، ويجب على المجتهد الأخذ به وتصديق مخبره وترتيب الأثر عليه ، ولأجله لا يعقل أن يكون كلّ من المتعارضين فيه حجّة كذلك ، فلا مناص إلاّ القول بعدم شمول دليل الحجّية وإطلاقه لحال التعارض .
وأمّا في المقام ، فحجّية قول الفقيه إنّما أُخذت بنحو البدليّة ; ضرورة أ نّه لا يعقل أن يجعل قول كلّ فقيه حجّة بنحو الطبيعة السارية والوجوب التعييني حتى يكون المكلّف في كلّ واقعة مأموراً بأخذ قول جميع الفقهاء وترتيب الأثر عليه ، بل من الواضح أ نّه إذا أخذ بقول واحد منهم فقد أطاع ، وحينئذ فلا مانع من دعوى إطلاق دليل الحجّية وشموله لحال التعارض بخلاف الخبرين المتعارضين ، حيث لا يعقل شمول الإطلاق لهما لما عرفت .
فانقدح من ذلك أوّلا : معنى الحجّيّة التخييريّة في المقام ، وأنّ مرجعها ليس إلى جعل الحجّية بنحو يكون مشروطاً بالأخذ به ، بل إلى الحجّية البدليّة المساوقة لجواز الأخذ بكلّ من الفتويين . وثانياً : عدم اقتضاء شمول الإطلاق لأن يقع فيه قيد «الأخذ» وشبهه ، كما لا يخفى .
إذا عرفت ما ذكرنا يقع الكلام في أصل المسألة ; وهي مسألة العدول ، فنقول :
بعد ما ظهر لك ثبوت التخيير للعامّي ابتداءً تصل النوبة إلى البحث عن أنّ
(الصفحة 125)
التخيير الثابت هل يكون تخييراً بدويّاً فلا يجوز له العدول عمّن قلّده إلى الآخر المساوي له في الفضيلة ، أم استمراريّاً فيجوز له العدول عنه إليه؟ قولان : فالمحكي عن ظاهر التهذيب(1) وشرحه(2) والذكرى(3) عدم الجواز ، وعن غير واحد دعوى الإجماع عليه(4) ، واختاره شيخنا الأنصاري(قدس سره) في محكيّ رسالة الاجتهاد والتقليد(5) ، وحكي التصريح بجوازه عن المحقّق والشهيد الثانيين في الجعفريّة والمقاصد العليّة(6) تبعاً للمحكي عن النهاية (7)، واختاره المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في رسالة الاجتهاد والتقليد(8) ، وهو الظاهر ، وقد استدلّ له بوجهين :
أحدهما : الإطلاقات ; لأنّ ما دلّ على حجّية فتوى المجتهد وجواز الأخذ بها غير مقيّد بما إذا لم يرجع إلى غيره ، بل مقتضى إطلاقها الحجّية وإن رجع إلى الغير وأخذ بفتويه (9).
وأورد عليه بعض الأعلام في شرح العروة على ما في تقريراته بأنّه لا يعقل شمول الإطلاق للمتعارضين ; لأ نّه يستلزم الجمع بين المتنافيين ، ولا يشمل أحدهما المعيّن ; لأ نّه ترجيح بلا مرجّح ، ولا أحدهما غير المعيّن ; لأنّ الحجّية
- (1) تهذيب الوصول : 293 .
-
(2) شرح تهذيب الوصول المطبوع مع تهذيب الوصول : 105 ، المبحث الرابع، طبع طهران .
-
(3) ذكرى الشيعة : 1 / 43 ـ 44 .
-
(4) قوانين الاُصول: 2 / 264 ، مستمسك العروة : 1 / 25 .
-
(5) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 86 .
-
(6) رسائل المحقّق الكركي: 1 / 80 ، المقاصد العليّة : 51 .
-
(7) حكى عنه في مفاتيح الاُصول : 617 .
-
(8) بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 148 .
-
(9) بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 154 ـ 155 .
(الصفحة 126)
التخييريّة ممّا لا يمكن المساعدة عليه(1) .
وأنت خبير بأنّ البحث في هذه المسألة ـ مسألة العدول ـ إنّما هو بعد الفراغ عن أصل التخيير وثبوته بدواً ومعقوليّة الحجّية التخييرية ، ضرورة أنّه مع عدم المعقولية أو عدم مساعدة الأدلّة على أصل التخيير ، لا مجال للبحث عن كونه استمراريّاً أو لا ، فدعوى أنّ الحجّية التخييريّة ممّا لا يمكن المساعدة عليه لا ارتباط لها بهذه المسألة ، كما هو واضح .
نعم ، يمكن المناقشة في التمسّك بالإطلاق في المقام بعدم كون المطلقات في مقام البيان من جهة الاستمرار وعدمه ، بل إنّما هي بصدد إثبات أصل التخيير وإن ذكر المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في مقام دفع هذه المناقشة ما لفظه : الإنصاف أ نّه ـ يعني الإطلاق في المقام ـ كسائر الإطلاقات التي يتمسّك بها في غير المقام ، واحتمال تعيّن الحكم بمجرّد الأخذ بأحد الخبرين أو إحدى الفتويين كسائر الاحتمالات التي لايُعتنى بها في رفع اليد عن الإطلاق .
والذي يقرّبه ; هو أ نّه لا شبهة في إطلاق أدلّة الترجيح والتخيير لما إذا أُخذ بأحد الخبرين فيما إذا جاءه خبر فعمل به ، ثمّ جاءه آخر أرجح أو ما يعادله ويساويه ، فكما لا شبهة في الحكم بالترجيح والتخيير هناك من دون احتمال الإهمال من حيث العمل بالخبر الأوّل ، فكذلك هنا ، مضافاً إلى أنّ مصلحة التخيير ـ كما في الخبر(2) ـ هو التسليم لما ورد عنهم(عليهم السلام) ، ومصلحة التسليم
- (1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 120 .
-
(2) وسائل الشيعة : 27 / 108 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح6 وص112 ذ ح19 وص113 ح21 وص121 ح39 .