(الصفحة 118)
وبالجملة : بعد ما كان التقليد أمراً ثابتاً في زمن الأئمة(عليهم السلام) ـ كما تدلّ عليه الروايات الكثيرة(1) ـ لا مجال لدعوى اختصاصه بما إذا كان المفتي من الأصحاب محرز الأعلميّة، أو لم تعلم المخالفة بينه وبين غيره في الرأي والاعتقاد ، كما هو واضح.
فالإنصاف وجود السيرة المتشرّعيّة على ذلك واتّصالها بزمانهم بحيث يكون كاشفاً عن رضاهم ، بل التأمّل في تلك الروايات من حيث السؤال والجواب في بعضها يعطي مفروغيّة التخيير ، فتأمّل .
الثالث : دعوى الإجماع على ثبوت التخيير في المسألة، وتؤيّدها الشهرة المحقّقة بين الأصحاب على ذلك(2) .
وأُورد عليه بأ نّه إجماع منقول بخبر الواحد ، ولا يمكن الاعتماد عليه على أ نّ الاتّفاق غير مسلّم ; لأنّ المسألة من المسائل المستحدثة ، ولم يتعرّض لها الفقهاء في كلماتهم ، بل لو فرض العلم باتّفاقهم أيضاً لم يمكننا الاعتماد عليه ; لاحتمال استناد المجمعين إلى أحد الوجوه المذكورة في المسألة ، فلا يكون كاشفاً عن موافقة المعصوم(عليه السلام)(3) .
والجواب عن هذا الإيراد : أنّ نقل الإجماع في المقام إنّما يكون على نحو تكون المسألة مورداً للتسالم بين الأصحاب ، وأرسلها الناقل إرسال المسلّمات ، وفي مثل
- (1) تقدّمت هذه الروايات في ص82 ـ 88 .
-
(2) مناهج الأحكام والاُصول: 302 سطر آخر ، رسالة في تقليد الأعلم للمحقّق الرشتي : 60 ـ 62 . وانظر مفاتيح الاُصول: 631 . وحكاه عن الشيخ(رحمه الله) في التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 106 ، لكن لم نعثر عليه في كتبه التي بأيدينا عاجلا . نعم ، يمكن استظهار الإجماع من رسالته في الاجتهاد والتقليد ، ضمن مجموعة رسائل: 70 .
-
(3) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 168 .
(الصفحة 119)
ذلك لا مجال لدعوى أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد لا يمكن الاعتماد عليه .
ودعوى كون المسألة من المسائل المستحدثة ، غريبة جدّاً ; لأنّها عبارة عن خصوص المسائل التي لم يكن لها موضوع في الأزمنة السابقة ، بل حدث موضوعها تكويناً في القرون المتأخّرة ، ومن المعلوم في المقام خلاف ذلك ، وعدم تعرّض الفقهاء في كتبهم لا دلالة فيه على كونها كذلك ; لأنّ عدم التعرُّض إنّما هو لوضوح الحكم في المسألة ، كما هو المرتكز في ذهن المتشرّعة ، بحيث لا يحتمل واحد منهم خلاف ذلك ، واحتمال الاستناد إلى أحد الوجوه المذكورة ـ مع ما عرفت من جريان السيرة العقلائيّة على خلافه ، وكون إرسالها على نحو إرسال المسلّمات ـ غير معتن به .
فالإنصاف أ نّه لا مجال للمناقشة في هذا الوجه ، بل هو العمدة في الباب .
الرابع : دعوى الإجماع ـ كما في كلام بعضهم ـ على أ نّ العامّي لا يجب عليه الاحتياط ، بل يجوز له الاستناد دائماً إلى فتوى المجتهد مع وجوده (1).
وأُورد عليه بأ نّه من الإجماع المنقول بخبر الواحد ; وهو ممّا لا اعتبار به ، مع أ نّه على تقدير تحقّقه وانعقاده لا يقتضي الالتزام بالتخيير ; لأنّ عدم العمل بالاحتياط كما يجتمع مع ثبوت التخيير في المقام ، كذلك يجتمع مع سقوط كلتا الفتويين عن الاعتبار ، واختيار العمل على وفق إحداهما من جهة تنزّل العقل إلى الامتثال الاحتمالي عند عجز المكلّف من الامتثال الجزمي ; بمعنى عدم لزوم الاحتياط عليه ،
وعدم ثبوت حجّة لديه ولو تخييراً(2) .
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل: 48 ـ 49 ، مستمسك العروة الوثقى: 1 / 21.
-
(2) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 171 .
(الصفحة 120)
الخامس : عموم الأخبار العلاجيّة(1) ـ الواردة في الخبرين المتعارضين ، الدالّة على ثبوت التخيير في المتكافئين ، وفيما إذا لم يكن مرجّح في البين ـ وشمولها للمجتهدين المتساويين :
إمّا لأجل كون المقام من مصاديق موضوعها ; لأنّ مرجع الفتوى إلى الرواية . غاية الأمر أنّها رواية منقولة بالمعنى كما صرّح به المحدّث الجزائري(قدس سره) في عبارته التي سيأتي نقلها(2) .
وإمّا بدعوى إلغاء الخصوصيّة، نظراً إلى أنّ الفتوى وإن كانت مغايرة للرواية ، إلاّ أ نّه لا خصوصيّة للخبرين المتعارضين في الحكم بالتخيير ، بل يشمل تعارض مطلق الحجّتين المتكافئتين ولو لم تكونا خبرين، فتدلّ على ثبوت التخيير في المقام أيضاً(3).
والجواب عن هذا الوجه : أنّ دعوى كون الفتوى من مصاديق الرواية ـ غاية الأمر أ نّها رواية منقولة بالمعنى ـ ممنوعة جدّاً ، كما ستعرف في البحث عن جواز تقليد الميّت(4) ، كما أنّ دعوى إلغاء الخصوصيّة أيضاً كذلك ; لوضوح الفرق بين الفتوى والرواية ، فكيف يمكن تعميم الحكم بالتخيير الثابت فيها ، خصوصاً مع
كون الحكم في موطنه على خلاف القاعدة العقليّة ، المقتضية للتساقط في مورد التعارض وعدم وجود المرجّح ؟
- (1) وسائل الشيعة : 27 / 106 ـ 124 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 .
-
(2) في ص192 ـ 193 .
-
(3) درر الفوائد للشيخ عبدالكريم الحائري : 2 / 714 ـ 715 .
-
(4) في ص192 ـ 193 .
(الصفحة 121)
مضافاً إلى أنّ لازم ذلك إعمال المرجّحات في ذلك الباب في المقام أيضاً ، فترجّح الفتوى المخالفة للعامّة مثلا على الفتوى الموافقة لهم ، وغير ذلك من المرجّحات ، ومن الواضح عدم ثبوت ذلك في باب الفتاوى والآراء ، فهذا الوجه غير صحيح .
السادس : خصوص موثّقة سماعة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر ، كلاهما يرويه : أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة
حتى يلقاه(1) .
بتقريب أنّ مورد السؤال ليس الاختلاف في مجرّد نقل الرواية ، بل الاختلاف في الفتوى والنظر الناشىء من الاختلاف في الرواية ; فإنّ التعبير بالأمر والنهي إنّما يناسب مقام الإفتاء ولا يلائم مع نقل الرواية ; فإنّ الراوي بما هو راو ليس له الأمر والنهي ، فمورد الموثّقة اختلاف الفتوى والنظر ، وسياق السؤال يعطي عدم ثبوت مزيّة في البين واشتراك الرجلين في الجهات الموجبة للرجوع إليهما ، كما لا يخفى ، فالحكم بالسعة في الجواب المساوق للتخيير وارد في المقام (2).
والجواب : أنّ مورد السؤال وإن كان ما ذكر ، إلاّ أنّ الجواب لا دلالة فيه على التخيير بوجه ، بل مرجعه إلى لزوم التأخير إلى أن يلقي من يخبره ، وعدم ثبوت ضيق واستحقاق عقوبة عليه بالنسبة إلى التأخير حتى يلقاه ، فدلالته على عدم الاعتناء بكلا الرجلين وعدم الأخذ بشيء من النظرين وعدم ترتيب الأثر على الأمر والنهي أقرب من دلالته على التخيير ، والإنصاف أ نّه لا يستفاد من هذه
- (1) الكافي : 1 / 66 ح7 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 108 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح5 .
-
(2) درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائري : 2 / 714 ـ 715 .
(الصفحة 122)
الرواية حكم المقام نفياً وإثباتاً .
وقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ الحكم بالتخيير في المجتهدين المتساويين ـ نظراً إلى الإجماع وثبوت السيرة ـ ممّا لا مجال للمناقشة فيه أصلا .
نعم ، يبقى الكلام في معنى الحجّية التخييريّة ، فنقول :
ذكر بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريراته ـ أنّ الحجّيّة التخييريّة ممّا لا يعقل في مقام الثبوت ، ومحصّل ما أفاده في وجهه أ نّه يحتمل فيها وجوه أربعة :
أحدها : جعل الحجّية التخييريّة ; بمعنى جعل الحجّية على هذا وذاك ; وهو مسلتزم للجمع بين الضدّين أو النقيضين ; لأنّ مرجعه إلى أنّ الشارع قد اعتبر المكلّف عالماً بالحرمة وعالماً بعدمها ، أو عالماً بحرمة شيء وعالماً بوجوبه ، ولأجله لا تشمل أدلّة الحجّيّة لشيء من الفتويين .
ثانيها : جعلها بمعنى جعل الحجّيّة على الجامع بين الفتويين ; وهو عنوان أحدهما الذي هو عنوان انتزاعيّ ، وهو أيضاً غير معقول في المقام وإن كان متصوّراً في غيره ، ولأجله التزمنا في الواجبات التخييريّة بأنّ التكليف فيها إنّما تعلّق بعنوان أحدهما ، وأنّ الفعل المأتيّ به في الخارج فرد للواجب ومصداق له ، لا أ نّه الواجب بنفسه .
وجه عدم المعقوليّة في خصوص المقام ; أنّ مرجعه إلى ما ذكرنا من اعتبار المكلّف عالماً بالنقيضين أو الضدّين ، وهو غير متصوّر . مضافاً إلى أ نّه لو سلّم التصوّر في مقام الثبوت فلا ينبغي الترديد في عدم إمكانها بحسب الإثبات ; لأنّ الأدلّة لا تساعدها بوجه ; لأنّ مقتضاها حجّيّة فتوى كلّ فقيه متعيّنة لا حجّيّة إحدى الفتاوى .