(الصفحة 81)
ثمّ إنّ هناك آيات دالّة على النهي عن التقليد عموماً أو خصوصاً :
أمّا الطائفة الاُولى : فهي الآيات الناهية عن العمل بالظنّ واتّباع غير العلم .
وأمّا الطائفة الثانية : فكقوله ـ عزّ من قائل حكاية عنهم ـ : {إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّة وَ إِنَّا عَلَى ءَاثَـرِهِم مُّقْتَدُونَ}(1). وقوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْـًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}(2). وقوله ـ تعالى ـ : {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْـًا وَ لاَ يَهْتَدُونَ }(3) .
والجواب عن الطائفة الاُولى : أنّها لا تدلّ على حرمة التقليد وعدم حجّيّة فتوى المجتهد ، ولا على النهي عن اتّباع شيء من الأمارات المعتبرة ، وذلك لأنّ اعتبارها مستند إلى العلم ، إذ لا يعقل الانتهاء إلى الظنّ ، مع أنّ الأصل الأوّلي فيه عدم الحجّيّة وعدم ترتّب شيء من آثارها ، ولهذا اشتهر أنّ الشكّ في الحجّيّة مساوق للقطع بعدمها ، فحجّيّة كلّ حجّة لا محالة تنتهي إلى العلم . وعليه : فلا مجال لشمول قوله ـ تعالى ـ : {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِى عِلْمٌ}(4) لمثلها ، وإلاّ يلزم عدم حجّيّة ظاهرة ; لأ نّه أيضاً من الأمارات التي لا تفيد إلاّ الظنّ نوعاً ، فاللازم إمّا الالتزام بعدم حجّيّة ظواهرها الدالّة على النهي والمذمّة على اتّباع غير العلم مطلقاً ، وإمّا الالتزام بعدم شمولها لمثل فتوى المجتهد التي قام الدليل القطعي على
- (1) سورة الزخرف : 43 / 23 .
-
(2) سورة المائدة : 5 / 104 .
-
(3) سورة البقرة : 2 /170 .
-
(4) سورة الإسراء : 17 / 36 .
(الصفحة 82)
اعتبارها وحجّيتها ، وعلى كلا التقديرين يثبت المطلوب .
وعن الطائفة الثانية : أنّها أجنبية عمّا نحن فيه ; لأنّ محلّ البحث إنّما هو حجّيّة فتوى المجتهد العالم في خصوص المسائل الفرعيّة والأحكام العمليّة غير الاعتقاديّة ، وهذه الطائفة من الآيات إنّما وردت فى مقام التوبيخ والمذمّة على التقليد في الاُصول الاعتقادية الراجعة إلى النبوّة وشؤونها ، مع أنّهم كانوا يقلّدون آباءهم الذين هم كانوا مثلهم في الجهل وعدم العقل ، والضلالة وعدم الاهتداء .
ومن الواضح أنّ رجوع الجاهل إلى مثله بمجرّد تحقّق الارتباط النسبي والاُبوّة والبنوّة لا يجوز عند العقل والعقلاء ، كما أنّ التقليد في الاُصول الاعتقاديّة التي يكون المطلوب فيها تحصيل العلم واليقين غير جائز ، فهذه الآيات الكريمة لامساس لها بالمقام أصلا .
ثالثها : الروايات الكثيرة المستفيضة بل المتواترة إجمالا ; للعلم الإجمالي بصدور بعضها ، الدالّة على جواز التقليد أو الإفتاء الملازم لجواز التقليد أو الإرجاع إلى خواصّ أصحابهم ، أو النهي عن الإفتاء بغير علم الدّال بالمفهوم على جوازه إذا كان عن مدرك صحيح ومستند معتبر ، أو على جواز الاجتهاد وتعليم طريقته وبيان ما يجب الأخذ به من الدليل في صورة التعارض ، أو على أ نّه مع وجود دلالة الكتاب وظهوره في بيان حكم المسألة لا حاجة إلى السؤال والاستفهام ، وغير ذلك من العناوين الملازمة لجواز الاجتهاد والتقليد .
وينبغي نقل هذه الروايات للحاجة إلى ملاحظتها في مسألة تقليد الأعلم الآتية إن شاء الله تعالى أيضاً :
منها : ما رواه أحمد بن علي بن أبى طالب الطبرسي في الاحتجاج عن أبي محمّد العسكري(عليه السلام) في قوله ـ تعالى ـ : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
(الصفحة 83)
يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ}(1) . قال : هذه لقوم من اليهود ـ إلى أن قال :ـ وقال رجل للصادق(عليه السلام) : إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعونه من علمائهم ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلّدون علماءهم؟ ـ إلى أن قال :ـ فقال(عليه السلام) : بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهة ، وتسوية من جهة ، أمّا من حيث الاستواء ; فإنّ الله ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم ، كما ذمّ عوامهم . وأمّا من حيث افترقوا ; فإنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح ، وأكل الحرام والرشا ، وتغيير الأحكام ، واضطرّوا بقلوبهم إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق ، لا يجوز أن يصدّق على الله ، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله ، فلذلك ذمّهم .
وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ، والعصبيّة الشديدة ، والتكالب على الدنيا وحرامها ، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم ، فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ; لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيُحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم ، وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ، الحديث(2) .
ومنها : ما في رجال النجاشي في ترجمة أبان بن تغلب من قوله(عليه السلام) له : إجلس في
- (1) سورة البقرة : 2 / 79 .
-
(2) الاحتجاج : 2/ 509 ـ 512، رقم 337، وعنه وسائل الشيعة : 27/131 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب10 ح20 .
(الصفحة 84)
مسجد المدينة وافت الناس ، فإنّي اُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك(1) .
ومنها : ما نقله محمّد بن إدريس في آخر السرائر من كتاب هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : إنّما علينا أن نلقي إليكم الأُصول وعليكم أن تفرّعوا(2) .
ومنها : ما نقل من كتاب أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن الرضا(عليه السلام) قال : علينا إلقاء الاُصول ، وعليكم التفريع(3) .
ومنها : رواية أبي حيّون مولى الرضا ، عن الرضا(عليه السلام) قال : من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم ، ثمّ قال(عليه السلام) : إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ، ومتشابهاً كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متاشبهها دون محكمها فتضلّوا(4) . ودلالتها على جواز ردّ المتشابه إلى المحكم الذي لا يتيسّر لغير المجتهد واضحة .
ومنها : رواية علي بن أسباط قال: قلت للرضا(عليه السلام) : يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، قال : فقال : إئت فقيه البلد فاستفته من أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه(5) .
ومنها : رواية داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف
- (1) رجال النجاشي : 10 رقم 7.
-
(2) تقدّمت الرواية والكلام في سندها في ص70 .
-
(3) مستطرفات السرائر:58ح21،وعنه وسائل الشيعة: 27/62، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضيب6 ح52.
-
(4) عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 1/290 ح39 ، وعنه وسائل الشيعة : 27/115 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح22 .
-
(5) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) : 1/275 ح10 ، وعنه وسائل الشيعة : 27/115 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح23 .
(الصفحة 85)
كلامه كيف شاء ، ولا يكذب(1) .
ومنها : رواية أحمد بن إسحاق ، عن أبي الحسن(عليه السلام) قال : سألته وقلت : من أُعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال : العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ; فإنّه الثقة المأمون .
قال : وسألت أبا محمّد(عليه السلام) عن مثل ذلك ، فقال : العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ; فإنّهما الثقتان المأمونان ، الحديث(2) . وليست الرواية ظاهرة في خصوص نقل الرواية ; فإنّ ما يؤدّي إليه اجتهاد الفقيه في مذهبنا إنّما هو رأي المعصوم ونظر الإمام(عليه السلام) ، فيصدق أ نّه يؤدّي عن الإمام(عليه السلام) ويقول عنه ، كما لا يخفى .
ومنها : رواية إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أُشكلت عليّ ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزّمان ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ : أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك ـ إلى أن قال :ـ وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله ، الحديث(3) . ودلالتها على وجوب الرجوع إلى الفقهاء ـ الذين هم المراد من «رواة حديثنا» في الحوادث الواقعة التي ربما لا تكون منصوص الحكم ، خصوصاً مع ملاحظة التعليل ـ واضحة .
ومنها : رواية شعيب العقرقوفي قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : ربما احتجنا أن نسأل
- (1) تقدّمت في ص70.
-
(2) الكافي : 1 / 329 ح1 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 138 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح4 .
-
(3) كمال الدين : 483 ح4 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 140 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح9 .