(الصفحة 35)
التمكّن من الامتثال التفصيلي ، وأُخرى: مع عدمه .
أمّا الصورة الأُولى : فالنزاع في الجواز وعدمه إن كان مسبّباً عن النزاع في اعتبار قصد الوجه والتمييز وعدمه ، بحيث كان القول بالجواز مستنداً إلى عدم اعتبارهما وبالعدم إلى الاعتبار ، فهو في الحقيقة نزاع في المسألة الفقهية ، ولا ينبغي التعرّض له في علم الأُصول ; لأنّ دخالة قصد الوجه والتمييز في المأمور به وعدم حصوله بدونه ـ وبعبارة أُخرى: تشخيص حدود المأمور به والخصوصيّات المعتبرة فيه ـ أمر ليس له ارتباط بالمسائل الأُصوليّة ، كما هو أوضح من أن يخفى .
وأمّا إن كان النزاع في جواز الاجتزاء بالاحتياط ـ مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ـ مع قطع النظر عن اعتبار الوجه والتمييز ، بحيث لم يكن شيء منهما معتبراً أو لم يكن الاحتياط موجباً للإخلال به ، كما في خصوص قصد الوجه على ما هو التحقيق من عدم كون الاحتياط مانعاً عن رعايته ولو كان موجباً للتكرار ، نظراً إلى أ نّه يأتي بالصلاتين مثلا لوجوب تلك الصلاة الواجبة واقعاً ، أو يقصد تحصيل الصلاة الواجبة بما هي واجبة بفعل الصلاتين ، فلا إخلال بقصد الوجه بوجه ; لما عرفت من إمكان قصده بكلا وجهيه غايةً ووصفاً ، فهو الذي يكون نزاعاً في المسألة الأُصولية .
وحينئذ نقول : إنّ ما يمكن الاستناد إليه للقول بعدم الجواز أُمور :
أحدها : ما عرفت(1) من الشهرة المذكورة والإجماع المنقول ، وقد حكي عن شيخنا الأعظم الأنصاري(قدس سره) أ نّه استظهر في رسالة الاجتهاد والتقليد عدم الخلاف في بطلان الاحتياط في العبادة إذا استلزم تكرار أفراد ماهيّة واحدة ، بحيث كان
(الصفحة 36)
التكرار في الواجب الضمني دون الاستقلالي ، كما فيما إذا تردّد أمر القراءة بين الجهر والاخفات ، كما في قراءة صلاة الظهر من يوم الجمعة ، حيث إنّ مقتضى بعض الروايات(1) وجوب الجهر بها(2) .
والجواب عنه أنّ الشهرة غير متحقّقة ; لعدم تعرّض كثير من الأصحاب لهذه المسألة ، والإجماع المنقول لا يكون قابلا للاستدلال مطلقاً على اختلاف بينهم في بعض موارده ، والمقام خارج عنه ، خصوصاً في مثل ما نحن فيه ممّا لم يقع التعرّض له إلاّ من بعض الأصحاب ، مضافاً إلى احتمال أن يكون الوجه في المنع هو بعض الأُمور العقلية التي صارت موجبة لتخيّل المنع .
ومع هذا الاحتمال لا يبقى للتشبّث به مجال ، والإجماع الذي ادّعاه الرضي(قدس سره) لايكون ناظراً إلى المقام ، بل إلى الاكتفاء بفعل صلاة لا يعلم أحكامها واشتمالها على الخصوصيّات المعتبرة فيها ، لا ما يعلم اشتمالها على جميع أجزائها وشرائطها . غاية الأمر أ نّه لم يتميّز الواجب عن المستحبّ منها ، بل هذا كما أفاده المحقّق الاصفهاني(قدس سره) (3)، نظير قولهم : عمل العامّي بلا اجتهاد ولا تقليد باطل(4) ; فإنّه لا يكون ناظراً إلى الاحتياط بوجه ، بل النظر إلى إتيان فعل لا يدرى موافقته للمأمور به لا اجتهاداً ولا تقليداً ; فإنّ الفعل حينئذ لا يكون مطابقاً للمأمور به بحسب العادة إلاّ بالاجتهاد أو التقليد ، فلا يصحّ الاقتصار عليه ، لا أنّه باطل
- (1) وسائل الشيعة : 6 / 160 ـ 162 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب73 .
-
(2) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل: 50 .
-
(3) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 183 .
-
(4) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 49 ، فرائد الاُصول : 2 / 406 ، مستمسك العروة الوثقى : 1/6ـ7 .
(الصفحة 37)
بحسب الواقع ولو ظهر موافقته له أو للفتوى ، كما لا يخفى .
ثانيها : ما أفاده المحقّق النائيني(قدس سره) على ما في تقريراته ، وملّخصه : أ نّ حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى بحيث يكون الداعي والمحرّك للمكلّف نحو العمل هو تعلّق الأمر به والبعث إليه ، وهذا المعنى لا يتحقّق في الامتثال الإجمالي ; فإنّ الدّاعي في كلّ واحد من الطرفين هو الاحتمال ; أي احتمال تعلّق الأمر به فالانبعاث إنّما يكون عن احتمال البعث ، وهذه وإن كان قسماً من الإطاعة ونحواً من الامتثال ، إلاّ أ نّه لا مجال له مع التمكّن من الامتثال التفصيلي لتأخّره عنه رتبة ، فالإنصاف أنّ دعوى القطع بتقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الإجمالي مع التمكّن عنه في الشبهات الموضوعيّة والحكميّة غير مجازفة(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ الانبعاث لا يعقل أن يكون عن البعث بمجرّد وجوده الواقعي ، وإلاّ يلزم عدم تحقّق العصيان من أحد ، من غير فرق بين العالم به والجاهل ، مع وضوح تحقّق المخالفة من كلا الفريقين ، بل الباعث هو العلم بالبعث لابمجرّده أيضاً ، بل بما يترتّب عليه من العواقب والتبعات ; لأنّ العلم بالبعث أيضاً ربما لا يوجب التحريك نحو العمل المبعوث إليه ، بل دائماً إلاّ ما شذّ وندر لا يكون كذلك ما لم ينضمّ إليه سائر المقدّمات من ترتّب المثوبة أو العقوبة واشتياق المكلّف إلى الوصول بالأُولى والتخلّص عن الثانية ، وإلى منع اعتبار كون الانبعاث عن البحث على تقدير إمكانه ومعقوليّته دخيلا في تحقّق الطاعة وصدق الامتثال ; لعدم قيام الدليل عليه .
وما أفاده من حكم العقل بذلك ممنوع جدّاً ; لأنّ العقل لا يدرك إلاّ لزوم الإتيان
- (1) فوائد الاُصول : 3 / 73 .
(الصفحة 38)
بالمأمور به بجميع ما اعتبر فيه من القيود والخصوصيّات ، والمفروض تحقّقه في المقام ; لأنّ الكلام بعد الفراغ عن عدم اعتبار قصد الوجه وشبهه، أو عدم كون الاحتياط مسلتزماً للإخلال به ـ : أنّه على تقدير تسليم مدخليّة الانبعاث عن البعث في تحقّق الطاعة لا دليل على اعتبار عنوان الطاعة في سقوط الأمر ولو كان عبادياً ، بل الواجب مجرّد الإتيان بما تعلّق به الأمر بشراشر أجزائه وشرائطه ، ولاوجه للحكم باعتبار تحقّق عنوان آخر بعد عدم نهوض دليل عقليّ أو نقليّ عليه ، فالإنصاف أنّ ما أفاده من كون الدعوى المذكورة غير مجازفة مجرّد ادّعاء بلا بيّنة وبرهان ، كما هو غير خفيّ .
مضافاً إلى أنّ الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة هو العقل ، ومن الواضح أنّ المكلّف المنبعث عن مجرّد احتمال البعث أقوى عنده ـ في صدق الإطاعة وعنوان المطيع ـ ممّن لا ينبعث إلاّ بعد العلم بثبوت البعث ، مع أنّ الانبعاث في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو عن العلم بالبعث ; ضرورة أ نّه لو لم يكن العلم به ولو إجمالا متحقّقاً لم يتحقّق الانبعاث من كثير من الناس ، الذين لا ينبعثون عن مجرّد احتمال البعث ولا يتحرّكون بحركة الاحتمال ، كما هو ظاهر .
ثمّ إ نّه ذكر في «المستمسك» ـ في مقام الجواب عن هذا الوجه ـ أنّ فعل كلّ واحد من الأطراف ناشئ عن داعي الأمر بفعل الواجب ، والاحتمال دخيل في داعويّة الأمر لا أ نّه الداعي إليه ، وإلاّ كان اللازم في فرض العلم التفصيلي البناء على كون الفعل ناشئاً عن داعي العلم بالأمر لا عن داعي نفس الأمر ، إذ الفرق بين المقامين غير ظاهر(1) .
- (1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 8 .
(الصفحة 39)
ويمكن الإيراد عليه بأ نّه في صورة العلم بوجود البعث يكون الانبعاث مستنداً إلى نفس البعث ; لأ نّه قد نال الواقع ووصل إليه بالعرض ، وهذا بخلاف صورة الاحتمال ; فإنّ الانبعاث فيها لا محالة يكون مستنداً إلى الاحتمال الذي لا يكون له كاشفيّة بوجه ، وهذا هو الفارق بينهما في صدق الإطاعة والامتثال ; فإنّ المحرّك والداعي في الصورة الأُولى هو الواقع المنكشف ، وفي الصورة الثانية هو نفس الاحتمال ، فالتحقيق في الجواب ما ذكرنا .
ثالثها : كون التكرار لعباً بأمر المولى وعبثاً محضاً ، خصوصاً مع كون التمكّن من تحصيل العلم والامتثال التفصيلي بسهولة ، بحيث لا يحتاج إلى مؤنة زائدة على مثل السؤال عن العالم الحاضر عنده ، وكان التكرار الذي يحصل به الاحتياط متوقّفاً على تكرار العمل مائة أو أزيد مثلا ; فإنّه لا يرتاب في كون التكرار مع اجتماع هاتين الجهتين لعباً وعبثاً ، وهو ينافي العبوديّة المطلوبة في باب العبادات ، الذي هو محّل الكلام ومورد النقض والإبرام .
وأجاب عن هذا الوجه المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في رسالته في الاجتهاد والتقليد بما حاصله : أنّ اللعب إمّا يكون ضائراً بداعي الأمر بحيث لا يصدر الفعل عن داعي الأمر ، أو يضرّ به بحيث يكون تشريكاً في الداعي ، أو يكون عنواناً للفعل فيكون الفعل معنوناً بعنوان قبيح ، والكلّ باطل .
أمّا صدور الفعل لا عن داعي الأمر فهو خلف ; لأنّ المفروض أنّ المحرّك الأصلي نحو الصلاة الواجبة واقعاً هو الأمر بها .
وكذا لو كان تشريكاً في الداعي ، مع أ نّه لو كان تشريكاً بطلت العبادة ولو كان الدخيل داعياً عقلائيّاً .
وأمّا كـونه عنواناً لفعل الصلاة فلا وجه له ; لأنّ اللعب يحصل بالتكرير